قاسم سليماني في ميزان المصالح العربية.. “فارس القدس” النبيل
أحمد فؤاد
الكتابة عن شخصيات أنعشت الذاكرة العربية انتصارًا، بالقدر ذاته الذي أدمت به القلب العربي حزنًا، تبقى هي الأهم والأكثر لزومًا في هذه المرحلة وهذا اليوم، ليس من باب التباكي، وهو حق مشروع بالتأكيد، لكنه من باب التمسك بذكرى من قادوا أمام من خانوا، ومن منحوا في وجه من نهبوا، ومن استعذبوا الفداء ضد من يدفعون بأوطانهم وشعوبهم إلى هاوية لا قعر لها.
استحضار الأبطال ليس لنقص الحاضر، لكنه استنارة وفتح إلى طريق المستقبل، طريق أراده الحاج قاسم إلى القدس، وخطه رضوان، وسار عليه أبو مهدي المهندس، والتأكيد على الطريق والمنهج نضال مشروع ومقاومة واجبة، خاصة من بوابة المصالح العربية المجردة، في وقت يشتد الصراع فيه على المنطقة، وفيها.
الناظر لخريطة الشرق الأوسط، قبل الثورة الإسلامية، مرورًا بأحداث التسعينيات الساخنة، وصولًا إلى الهبوط الأميركي بالعراق والأسبق منه الخليج، مع تواجد الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، يدرك أن المنطقة العربية – شعوبًا لا حكومات – تجد كل مصالحها مرتبطة بمنفذ مفتوح منذ العام 1979 هو الجمهورية الإسلامية.
الحاج قاسم سليماني في تلك الخارطة الجديدة، كان رأس الحربة التي تولت حلحلة الحصار وتقريب البعد الجغرافي، ومن ثم، كسره، وساند كل الجبهات المفتوحة في وجه العدو الصهيوني، ما جعل اليوم حلف المقاومة أقوى 100 مرة في مواجهة كيان يدرك أن مشروعه بالكامل بات رهينة الدمار الكامل والنهائي، حال مواجهة واسعة في المنطقة، عوضًا عن اعتبارها القوى الأولى والإقليمية الأعظم، قبل نحو عشرين عامًا من اليوم.
في مقابل هذا التحول، فمن الجيد التذكير بالمبادرة السعودية للسلام، التي تبنتها ما تسمى جامعة الدول العربية، في مطلع الألفية، وكان مفادها التطبيع الكامل مع العدو الصهيوني، مقابل السلام مع الفلسطينيين.. مجرد سلام، لا حديث عن أرض أو قدس، وكان الرد الصهيوني مزيدًا من الاحتقار والاستكبار.
الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، وخلال حوار العام 2020 على “الميادين”، خصص جزءًا مهمًا منه للكشف عن أدوار الحاج قاسم سليماني، اختار أن يركز على بطولته غير المعروفة في دعم ومساندة القضية الفلسطينية، التي باعها الجميع إلا محور المقاومة، بالدم والسلاح والدعم الكامل.
الحاج قاسم كرجل إستراتيجية، فوق تكوينه وطبيعته العسكرية، أجاد لعب أهم الأدوار الفاعلة من وراء ستار، طوال سنوات، كان سلاحًا ماضيًا للحلفاء في المحور، ودمًا خالصًا لله، والمتذكر جيدًا لليلة الجريمة الأميركية، ستقفز إلى ذهنه كل المشاعر المتناقضة التي اجتاحت القلوب، من عدم التصديق، ثم حالة الإنكار الجماعي، فالصدمة لغياب الرجل الذي أصبح رمزًا لكل من يرفض الاستكبار ويقف ضده.
كانت لحظة الفرز الأوفى، وبقدر ما كشفت تناقضات النفوس، بقدر ما أوضحت طبيعة الخندقين بجلاء، خندق مقاومة وخندق سقوط، وليس بينهما ثالث، خرج الابن البار، والنبيل، لقضية القدس من إيران، وهو يسعى وراء الشهادة، وبفضل من الله نالها كما كان يتمنى منذ البداية، وكما كانت الشهادة تاجًا، كانت نورًا للمواقف والمنطقة كلها.
في هذا الفرز والتناقض، عقب حياة ملحمية وبطولة، كانت الأمة كلها أفرادًا وجماعات تقف أمام لحظة من لحظاتها المأزومة، دراما الحياة والفداء، الدم الزكي والخيانة، البطولة والمؤامرة، كانت لحظة بين التلاشي أو النجاة أمام تصرف أميركي صادم وغير مسبوق.
وفي مواجهة التحدي لم تكن الدموع وحدها هي التي شيعت الحاج قاسم سليماني، في العراق وإيران، بل الصواريخ المباركة التي دكت قاعدة عين الأسد، وفقأتها، وللمرة الأولى في هذه المنطقة نرى الولايات المتحدة الأميركية تضرب عسكريًا، وعلى الملأ، وأمام الشاشات، ثم لا تتجرأ على الرد.
بدت إرادة الوفاء للرجل وطريقه حاضرة، وبطريقة لا شك فيها أو تأويل، لدى كل من عرفه، وغطى الإيمان الحق في ليلة كانت تجديدًا لوعد وعهد المقاومة والبطولة، كان الوعي الجمعي يطالب بثأر على مستوى الحدث، وقبل أن يدفن رجال الحرس قائدهم كانت صواريخهم تدك العدو، في تجسد كامل لتلك الحكمة المضمرة في التربية والإعداد التي نذر لها الرجل عمره.
لحظة المحنة التي ألمت بالقلوب، لحظة رحيل رجل كان بحجم أمّة وبقدر أحلامها، لا أقل، كانت لها أيضًا وجوه أخرى، تجسيد الفداء كل يوم، ومن القادة، هي الدافع الأهم للتأكيد على استمرار الخيار الأول وهو المقاومة، وتجديد عهد الإرادة نحو الأقصى وفلسطين، شاطئ الخلاص والنصر، دونما انشغال بطول المسير والتضحيات الغالية، وعمق الماء الآسن في منطقة تريد قطعان حكوماتها تسليمها إلى عدوها.