في خِطابِه بمناسبة ذكرى استشهاد الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلامُ: قائدُ الثورة يُعيدُ ضبطَ مشهد “خفض التصعيد” على واقع الاستحقاقات والعواقب الحتمية
في خِطابِه الأخيرِ بمناسبة ذكرى استشهاد الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلامُ-، أعاد قائدُ الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، ضبطَ معادلة ومشهد الحرب والسلام على ثوابت الموقف الوطني والاستحقاقات المشروعة، ووفقاً لموازين القوة التي استطاع الشعب اليمني وقواته المسلحة فرضها على الواقع خلال أكثر من ثماني سنوات بصمود لم يتزعزع، وبقدرات قتالية لا زالت تتعاظم وتتطور لتواكب، بل لتسبق، كُـلّ تحَرّكات دول العدوان ورعاتها ومحاولاتهم للانتقال إلى خطة بديلة يتجنبون فيها تداعيات جرائمهم والتزامات موقفهم، مع الاستمرار باستهداف وتجويع اليمنيين، تحت غطاء “تهدئة” يأملون أن تستمر إلى الأبد، لكنها وبحسب تأكيد القائد، قد استغرقت ما يكفي من الوقت، وبات عليهم أن يختاروا بين مواجهة التداعيات، أَو التراجع عن التعنت؛ لأَنَّ الوضع الراهن سينتهي على أية حال.
تقييمٌ لموقف العدو: لا مجالَ لخِطةٍ بديلة:
الرسائلُ والتحذيراتُ التي وجَّهها قائد الثورة في خطابه الأخير أجابت بشكل واضح من خلال نبرتها الحادة والصريحة وما تضمنته من تفاصيل، على تساؤلات الرأي العام حيال مرحلة خفض التصعيد ومستقبلها وسقفها، خُصُوصاً في ظل التضليل المكثّـف الذي يمارسه العدوّ لرسم صورة مغلوطة عن واقع هذه الحالة، ولا سيَّما فيما يتعلق بموقفه هو من مطالب الشعب اليمني ومن السلام بشكل عام؛ وهي النقطة التي حرص القائد على توضيحها بشكل كاف، من خلال التأكيد على أن دول العدوان لم تغادر مربع المراوغة، وأنها برغم إدراكها لثقل كلفة العدوان، لا زالت ملتزمة بتوجّـهات أمريكا وبريطانيا اللتين تحرصان على مواصلة استهداف وتجويع الشعب اليمني واقتطاع ما يمكن اقتطاعه من أراضيه.
هذا التأكيد يغلق الباب أمام سيل الدعايات التضليلية التي يعتمد العدوّ عليها لتوجيه الرأي العام نحو مسارات تخدم مساعيه لإطالة أمد الوضع الراهن واستخدام حالة التهدئة كغطاء لمواصلة الحصار وتجويع الشعب اليمني وحرمانه من حقوقه، لكن بدون التعرض لأية تداعيات؛ وهو ما وصفه القائد بـ”الخطة ب” التي تحاول دول العدوان اللجوء إليها بعد فشلها في الحرب العسكرية.
صدور هذه التأكيدات من جانب قائد الثورة، لم يكن مُجَـرّد “تحليل” لموقف العدوّ، بل تقييم واضح يستند إلى تجارِبَ وإلى معطيات أكثر من عام كامل من التهدئة، لم تُبْدِ فيه دول العدوان أي مؤشر عملي على التوجّـه نحو حلول فعلية، بل أبدت رغبة كبيرة في تجنب هذه الحلول، وبرهنت عمليًّا على أن تنفيذ التوجّـهات الأمريكية أهم لديها من إنجاح جهود السلام ولو في المستوى الإنساني فقط.
وقد عزز القائد هذا التقييم بالإشارة إلى أن استمرار التهدئة يعود فقط لحرص صنعاء على منح فرصة للوسطاء، وليس لوجود تقارب حقيقي في المواقف؛ الأمر الذي يعني أن جزءاً من معادلة الوضع الراهن أصبح ثابتاً ولم يعد ينطوي على الكثير من الاحتمالات، وذلك الجزء هو أن دول العدوان لا تريد السلام الفعلي، بغض النظر عما تسوقه من مبرّرات.
الوقتُ ينتهي.. استمرار الوضع الراهن مرفوض:
في مقابل تقييم موقف العدوّ وتوضيح طبيعة أهدافه ونواياه، حرص القائد أَيْـضاً على توضيح طبيعة الموقف الوطني من الوضع الراهن، وهو توضيح حمل طمأنة للرأي العام، وفي الوقت نفسه تنبيهات وتحذيرات بالغة الأهميّة والجدية لدول العدوان التي تصر على تجاهل معطيات الواقع، وأبرزها أن “حالة خفض التصعيد لا يمكن أن تستمر للأبد” وأن الفرصة الممنوحة للوسطاء قد بلغت “قدراً كافياً”؛ وهو ما يعني بوضوح أن المسار الرمادي الذي تأمل دول العدوان أن تشقه بين طريقي الحرب والسلام، لم يعد له مكان إلا في إملاءات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، التي يؤكّـد قائد الثورة أنها “مشكلة كبيرة” على دول العدوان وفي مقدمتها السعوديّة.
هذه التأكيدات والتنبيهات تكفي لوضع دول العدوان أمام حتمية وقرب سقوط كُـلّ الآمال المعقودة على الالتزام بالتوجّـهات الغربية؛ باعتبار أن تلك الآمال مبنية على أوهام لم يعد هناك ما يكفي من الوقت حتى لإطالة أمدها، فضلاً عن محاولة تطبيقها على الواقع.
مع ذلك، وحرصاً على تجنب مرض القراءات والتقديرات الخاطئة الذي يبدو أن دول العدوان مصابة به بصورة مزمنة، أرفق قائد الثورة تنبيهاته بتحذيرات أكثر تفصيلاً، أوضح فيها أن صنعاء تدرك جيِّدًا طبيعة أهداف دول العدوان والمسارات التي تتحَرّك فيها، بما في ذلك مساعي استقطاع المناطق المحتلّة من البلد، ومحاولات التنصل عن الالتزامات والتبعات، كما أكّـد على أن مسألة استمرار الحصار والإصرار على نهب الثروات الوطنية أَو حرمان الشعب اليمني منها، هي أمور “لا يمكن أن تمر” وَ”لا يمكن السكوت عنها” فضلاً عن القبول بتحويلها إلى أوراق مساومة.
ويمكن القول –وفقاً لما سبق- إن قائد الثورة أبلغ دولَ العدوّ بشكل صريح وواضح، أن كُـلّ ما تعتمد عليه من حيل وألاعيب ودعايات وأعذار؛ مِن أجل الالتفاف على مطالب واستحقاقات الشعب اليمني وتضييعها في دهاليز دبلوماسية، لن تنجح حتى في كسب المزيد من الوقت، وأن صنعاء أصبحت تمتلك تقييماً واضحًا سيكون هو وحده المؤثر على الأرض عند انتهاء الفرصة المتاحة للسلام.
السعوديّةُ في مواجهة المسؤولية والتبعات:
قائدُ الثورة حَرِصَ على توجيه جانب من تحذيراته وتنبيهاته بشكل مباشر إلى النظام السعوديّ، في رسالة مهمة للغاية تعيد وضع الرياض في مكانها التي حاولت التهرب منه دعائياً ودبلوماسياً طيلة الفترة الماضية، من خلال ترويج عنوان “الوساطة بين اليمنيين” ودعايات الحرص على السلام وإنهاء الحرب؛ وهو المكان الذي تتحمل فيه مسؤولية ما يعانيه الشعب اليمني وتبعات استمرار هذه المعاناة.
وقد انطوت التحذيرات المباشرة -التي وجّهها القائد للنظام السعوديّ- على تأكيدات صريحة بأن الخضوع للرغبات الأمريكية، ليس عذراً، بل “نهجٌ عدائيٌّ” تجاه الشعب اليمني، وإصرارٌ على التدخل السافر في شؤونه، وأن الرياض “لن تستطيع أن تنأى بنفسها” عن تبعات تنفيذ الأجندة الأمريكية والبريطانية في اليمن.
هذا التأكيدات تسد طريقاً ملتوياً كانت السعوديّة قد حاولت أن تسلكَه خلال الفترة الماضية، من خلال محاولة فصل موقفها عن الموقف الأمريكي، وتقديم توجيهات البيت الأبيض، كـ”ضغوطات” يتم تنفيذها بشكل اضطراري، في مسعىً مكشوفٍ للتنصل عن ضرورة حسم قرار السلام وتنفيذ مطالب الشعب اليمني.
وليس من المستبعَدِ أن تكونَ الرياض، المعروفةُ بسوء تقديراتها، قد عقدت على هذه المحاولة آمالاً كَثيرة فيما يتعلق بتجنب التعرض للاستهداف مجدّدًا، غير أن قائد الثورة قد نسف هذه الآمال تماماً، من خلال التأكيد على أن “عواقب الاستمرار في تنفيذ الإملاءات الأمريكية والبريطانية ستكون عواقبها وخيمة على النظام السعوديّ”، وأنه “لن يستطيع العيش في أمن ورفاهية وتحريك للاستثمارات في نيوم وغيرها، مع استمرار الحصار والمعاناة في واقع الشعب اليمني”.
هذه التأكيدات تعيد وضعَ السعوديّة أمام أسوأ مخاوفها؛ لأَنَّ إشارة قائد الثورة إلى الاستثمارات السعوديّة، تؤكّـد بوضوح أن موضوع عمليات الردع العابرة للحدود لم يصبح من الماضي بعد كما تتوهم الرياض، وأنه بغض النظر عن أية حيل وألاعيب تدور ما بين المملكة ومشغليها الغربيين، فَــإنَّ ما وصفه مسؤولون سعوديّون بـ”الرعب غير المسبوق” عند حديثهم عن ضربات القوات المسلحة على منشآت النفط، قد يعود في أية لحظة إن لم ينعم اليمن بسلام حقيقي.
وبقدرِ ما يترجمه هذا الإنذارُ الصريحُ من حرص وطني على وضع السعوديّة أمام حقيقة الأمور، فَــإنَّه يمثل أَيْـضاً مقياساً دقيقاً لتقييم موقف الأخيرة؛ باعتبار أن تجاهل مثل هذه التحذيرات يعكس إصراراً كاملاً على تجنب طريق السلام، وهو ما حدث خلال المرحلة الماضية، إذ تجاهلت السعوديّة الكثير من الإنذارات بشأن عودة عمليات الردع؛ الأمر الذي يفسر التقييم الذي أعلنه قائد الثورة في خطابه الأخير.
لا قيودَ على خيارات الردع:
تحذيراتُ وتنبيهاتُ قائد الثورة في خطابه الأخير حملت للعدو رسالةً إضافيةً بالغةَ الأهميّة؛ هي أن الخيار العسكري كان ولا يزال خياراً رئيسياً في واقع المواجهة، وأن مرحلة خفض التصعيد لم تسدل الستار عن هذا الخيار إلى الأبد، ولم تفرض عليه أية قيود، أَو تجعله خياراً مؤجلاً إلى وقت غير مسمى.
هذه الرسالة وجّهها القائدُ من خلال التأكيد على أن صنعاء عملت خلال مدة خفض التصعيد على “تطوير القدرات العسكرية بأقصى ما هو ممكِنٌ؛ مِن أجل الهدف المقدس المتمثل بتحرّير البلد وإنقاذه ونيل الحرية والاستقلال التام”؛ وهو ما يعني أن القيادة الوطنية لم تنجر عمليًّا إلى مربع حالة “اللا حرب واللا سلم” التي أراد العدوّ أن يزيح من خلالها خيارات الردع ويفرض عليها الكثير من القيود، بل إن محدّدات السلام الرئيسية ظلت مرتبطة بمعادلات القوة والردع بشكل مُستمرّ، ولا زالت كذلك؛ الأمر الذي يعني أنه حتى لو ظنت دول العدوان أنها استطاعت تحقيق أي مكسب من خلال التهدئة، فَــإنَّ حساب الخسائر الكبرى لم يغلق بعد.
وقد عزَّزَ القائدُ هذه الرسالةَ بتأكيدٍ آخرَ على أن الموقفَ الوطني “سيكونُ حازماً وصارماً إذَا لم يقلعِ النظام السعوديّ عن استمراره في نهجه العدائي”، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة التي تعول عليها الرياض لن تستطيع الحيلولة دون اتِّخاذ صنعاء قرار استئناف الردع، ولن تستطيع تقييد هذا القرار بأية حيلة أُخرى.
هذه الجزئية تلخص كُـلّ الرسائل والتحذيرات والتنبيهات السابقة بالشكل الذي يؤكّـد لدول العدوان أن العد التنازلي لمواجهة التبعات قد بدأ، وأن ما تبقى من الوقت لا يكفي إلا لوقف التعنت.
المسيرة: ضرار الطيب: