في اليمن.. تحالف العدوان يمزج حليب البراءة الأبيض بالدم الأحمر
إذا سارت بك الأقدار يومًا إلى سهول ووديان محروقة، ورأت عيناك ما يفوق الخيال، وما يصعب على العقل أن يتخيله ويتقبله.. جثث أطفال متفحمة وأشلاء متناثرة على قارعة الطرقات والجسور، وفي أزقة شوارع وأحياء ضيقة، وفي المدارس والمستشفيات والحدائق، وسمعت أذناك أنين أطفال ورأت عيناك حدقات عيون البراءة مفتوحة تنسكب منها دموع ملتهبة على خد جثة طفل أو طفلة قُتلا بلا سبب، لترسم صورًا عبَّرت عن مدى فزع الضحية من هول وفداحة جريمة القتل التي تعرض لها، تاركةً رسالة تعجب للقاتل مفادُها: بأيِّ ذنبٍ قُتلنا ؟! فاعلم أنك حينها في اليمن المنكوب الذي تهدر فيه كل الحقوق بما فيها حق الطفولة.
الحليب الأحمر
حين يحول فاقدي الرحمة والإنسانية من الوحوش البشرية، حليب الطفولة الأبيض إلى الدم الأحمر فعلى الدنيا السلام، أمس الثلاثاء، كان لنا في سهول تهامة اليمن مثال حي على ذلك.
بدم بارد قتلت طائرات التحالف البراءة مجدداً.. هذه المرة في مديرية الجراحي في محافظة الحديدة غرب اليمن، التي عرف عن سكانها الفقر البساطة والبراءة وطيبة القلب، والتي وصفهم الرسول الأعظم بأرق القلوب وألين الأفئدة، وراح ضحيتها أطفال ثلاثة خرجوا بحثاً عن الحليب الذي اخلتط بدمائهم البريئة.
سباق اللاعودة
ككلِّ الأيام خرج الطفل “محمد عمر برودي” ذا التسعة أعوام في الصباح الباكر يسابق رفيقاته من بنات الجيران “حميدة أحمد علي سليمان داكم” ذات 13 سنة، وشقيقتها هدية ذات العشرة أعوام إلى قرية الشرجة المجاورة لقريتهم لعلهم يحظون بكمية حليب من المحسنين للفقراء في تلك القرية.
وفي طريق العودة قرر الأطفال الفقراء الثلاثة أخذ لحظة استراحة بهدف استرجاع طاقتهم المهدورة من أجل قنينة حليب تصدق بها جيران لهم في القرية المجاورة، بعد أن أدرك التعب أجسادهم الرقيقة والضعيفة المثقلة بسنوات ثمان من الفقر والمجاعة وسوء التغذية نتيجة الحرب والحصار الذي يتعرض له شعب اليمن.
وفي ذات الوقت، كانت طائرة مسيرة أمريكية قد تم تجهيزها بسرعة فاقت سرعة الصوت بالصواريخ القاتلة والمميتة انطلقت حينها من السفن والبوارج الحربية المتواجدة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، تسابق رياح العاصفة بشكلٍ هستيريِّ من أجل ضمان تحقيق السبق في إزهاق أرواح ثلاثة أطفال ذنبهم الوحيد أنهم ذهبوا في رحلة اللاعودة من أجل توفير الحليب لإخوانهم الصغار الذين كانوا ينتظرون ذاك الحليب بفارغ الصبر.
دقائق معدودة هي المدة التي استغرقتها طائرة الموت الأمريكية لتحلِّق بعدها فوق رؤوس الأطفال الثلاثة في قرية الشرجة في منطقة اشتهرت بـ”مساكن الفقراء” لتنهمر حينها صواريخ الموت من كل حدب و صوب، فوق رؤوس وأجساد هزيلة.. وقتئذ لا صوت يعلو إلا صوت دوي انفجارات العاتيات زمرًا، وصرخات الأطفال الضحايا وأمهات في القرية فزعت على أكبادهن،.. وقبل أن يسأل أيٌّ من الأطفال الثلاثة حتى نفسه عن سر ما يحدث ؟! ومعرفة بأيِّ ذنبٍ يُقتلون، كان كل شيء في “الشرجة” القرية المنكوبة، قد انتهى .. فقد ماتت قيم الرحمة والإنسانية في قلوب القتلة قبل أن تموت براءة الأطفال الثلاثة.
وقبل أن يسألون الأطفال الثلاثة أنفسهم بعد سماعهم لصوت انفجار الصاروخ القاتل هل نحن الآن موتى..؟! كان البرد حينها شديداً والظلام حالكاً في ثلاجة الموتى، خلافًا لما كان في مساكنهم من دفءٍ في عششهم المبنية من سعف النخيل والصفيح.
الدمع يسبق الحبر
“فقدان ثلاثة أطفال في عمر الزهور بهذه الطريقة البشعة سيترك جرحا في قلب الإنسانية البشرية قبل قلوب أهالي الضحايا لن يندمل أبدا.
سباق بين الحبر والدمع وأنا أكتب واحدة من قصص الطفولة المهدورة في اليمن أن أخبر العالم عن البراءة التي اغتالها الصاروخ الأمريكي من طائرة أمريكية تم صناعتهما وبيعها لقتلة أطفال اليمن، هذا أقل تلخيص لجريمة هزت مشاعر كافة سكان اليمن ولم تهز شعره واحدة من مجتمع دولي وأمم متحدة ارتهنوا لنفاق قوة المال والسلاح.
هكذا قضت غارة طائرة مسيرة على حياة الأطفال الثلاثة وقتلت الفرحة في نفوس أسرهم، ومثلها قضت طائرات حربية للتحالف على حياة العديد من أطفال اليمن، وصنعت جرح لا يمكن أن يلتئم مع الوقت في ذاكرة شعب يتجرع ويلات الحصار والقصف بالأسلحة المحرمة، خارج مبادئ القانون الدولي والمواثيق الإنسانية.
عندها لا يمكننا القول لأطفال اليمن إلا عبارة المأساة القائلة: “عذراً أيتها البراءة في اليمن فأشلاء أجسادكم وأنهار دماؤكم لن تجد تجاوباً في قلوب ميته يتاجر بها مجتمع النفاق الدولي”.