«فيتنام العرب»… تطيح بمقامرة الأمراء
• دعاء سويدان – خليل كوثراني
إنها السابعة مساءً من الخامس والعشرين من آذار 2015 بتوقيت الولايات المتحدة الأميركية. السفير السعودي (آنذاك) لدى واشنطن، عادل الجبير، يعلن للعالم حرب بلاده على اليمن، موقظاً سكان الجار الفقير، حيث كانت الساعة تشير إلى الثانية فجراً (يوم 26 آذار)، على دويّ الغارات الأولى التي استهدفت إحدى أقدم المدن المأهولة باستمرار عبر التاريخ: صنعاء.
حُكي الكثير عن أسباب الحرب التي تدخل عامها الثالث. أسبابٌ تراوحت ما بين العوامل الخارجية التي تتصل بالإرادة الأميركية وبمقتضيات التنافس مع الخصم الإقليمي: إيران، والظروف الموضوعية التي استجدت في بلد ألِفته السعودية خاضعاً لوصايتها على امتداد عقود، فضلاً عن الدوافع المتصلة بتركيبة الحكم السعودي ما بعد الملك عبدالله. على هامش ما تقدم، ثمة سردية لم تستوفِ حقها من النقاش السياسي والاعلامي، ألا وهي محاولة الحكام الجدد خَلق روح وطنية جامعة في بلد تطغى عليه الهوياتية القبلية والمناطقية (نجديون، حجازيون، بحرينيون، يمنيون)، وذلك بالاستثمار في المعركة الخارجية الأكبر للدولة السعودية الحديثة
الأمر أشبه ما يكون بعملية قيصرية لاستيلاد «بعث سعودي» أو «قومية سعودية»، بالاستناد إلى «أمجاد حقيقية» هذه المرة، تراءت لورثة ابن سعود، الطامعين في دولة عظمى في إقليم يُعاد تشكيله من جديد.
تجلت تلك المطامح بوضوح في الإعلام السعودي خلال السنة الأولى من الحرب على اليمن، حينما دأبت الأقلام المقرّبة من البلاط على الترويج لما سمّته «روحاً وطنية» تجمع السعوديين كافة، وتحشدهم خلف باني «الدولة السعودية الرابعة»، محمد بن سلمان. مع مرور الوقت، وتتالي الخيبات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي مُنيت بها الرياض في مواجهة اليمنيين، بدأ «الوهم» بالاضمحلال شيئاً فشيئاً، واتضح لشعب المملكة أن أمراء النظام يسرّعون، عبر الحرب التي تدخل عامها الثالث (إضافة إلى المغامرات النفطية)، في مغادرة نمط حياة اعتادوه لعشرات العقود، وكان قائماً على الرفاهية.
في المقابل، كان اليمنيون، على ضآلة عناصر قوتهم المادية، يعيدون استكشاف هويتهم الوطنية الضاربة جذورها في تاريخ الحضارات. لم تكن الحرب غير محرّض لشعارات ساكنة في وعيهم وذاكرتهم الجمعيَّيْن، فحواها رفض الوصاية والإصرار على نيل استقلال ناجز. هكذا رجَع اليمن إلى صدارة الاهتمام الإقليمي والدولي، وبدا العالم كأنه يكتشف هذا البلد للمرة الأولى.
ما بين الحسابين المتقدمَين، السعودي واليمني، أسهمت الإنجازات التراكمية للقوى العسكرية اليمنية، التي دفعت بعضهم إلى تشبيه اليمن بـ«فيتنام عربية»، في ترسيخ صورة السعودية كدولة عاجزة عن اجتراح انتصارات، بل ساعية إلى استئجار بيادق تقاتل عنها بالوكالة، فيما ظهر اليمن في صورة «المقاتل الأسطوري» الذي يفضّل الموت بغارات الطائرات على الانسحاب من الجبال التي يرابط فيها، كما في نهم، شرق صنعاء.
أما النجاح الوحيد الذي يُحسب للسعودية، حتى الآن، فهو تسجيل رقم قياسي في الغارات واستهداف الأماكن المدنية، ما طبعها بطابع صاحب القوة التدميرية، والمقتدر على البطش، الذي بات يخشاه حتى أصدقاؤه و«أشقاؤه» وحلفاؤه، وفق تقديرات الصحافة الغربية وبعض المراقبين (توقعت مجلة «نيوزويك» أن تعتدي السعودية مستقبلاً على كل من قطر والعراق).
معركة ساحل تهامة
بعدما يئست السعودية من تحقيق اختراقات نوعية في جبهات تعز ومأرب وحجة وصنعاء، اتجهت وحلفاءها غرباً، في محاكاة لخطة العثمانيين التاريخية في اليمن، القائمة على احتلال ساحل تهامة الغربي كمقدمة للسيطرة على صنعاء والوسط والشمال. توهم السعوديون، كما العثمانيون، أن «اليمن بلد بلا حاكم، مقاطعة خالية. لن يكون احتلالها ممكناً فحسب، بل سهلاً، وعندما نسيطر عليها ستصير سيدة أراضي الهند ترسل كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات لإسطنبول»، وفق ما ادّعى ذات يوم خادم سليمان باشا العثماني.
لكن الوقائع لم تطابق التوقعات. ثلاثة أشهر مرت على إطلاق السعودية وحلفائها عملية «الرمح الذهبي» لـ«تحرير الساحل الغربي» الممتد على مئات الكيلومترات، لم يتحقق خلالها للتحالف ما تمناه من سيطرة. من الصحيح أن القوات الإماراتية والجماعات الموالية لها تمكنت من التقدم لمسافة تقل عن 70 كيلومتراً (خط ذوباب ـ المخا)، لكنها سرعان ما توقفت بفعل الخلافات بين «الشقيقتين» (السعودية والإمارات) من جهة، والضغط الميداني من جهة أخرى، الأمر الذي اضطرها إلى الخروج من مدينة المخا، حيث تعرضت لإستنزاف كبير، بلغ ذروته بمقتل نائب رئيس هيئة الأركان (المعيّن من الرئيس المستقيل عبد ربه هادي)، أحمد سيف اليافعي، أواخر شباط الماضي. استنزافٌ لا يزال متواصلاً، ومن المتوقع تصاعده، في ظل سيطرة «أنصار الله»، أخيراً، على سلسلة جبال استراتيجية في تعز، تجعل من أي سيطرة على الشريط الساحلي الضيق في الجنوب الغربي للبلاد غير ذات جدوى.
سلاح التدويل:
باب المندب في خطر
هذا العجز العسكري البيّن عن مواصلة «الزحف» من المخا إلى الحديدة، ألجأ الرياض إلى استعجال خطتها التي كشفت عنها مبكراً مبادرة وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، وخطة المبعوث الأممي إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، اللتين طالبتا بانسحاب «أنصار الله» من الحديدة وتعز كشرط لأي حل سياسي. من هنا، بدأ العزف على نغم «التهديد الحوثي للملاحة البحرية في باب المندب»، المضيق ذي الأهمية الاستراتيجية على مستوى العالم، في محاولة لتأليب المجتمع الدولي على صنعاء. محاولةٌ ترافقت مع ضخ سياسي وإعلامي مكثف، بشأن ما تدّعي السعودية أنه «تهريب أسلحة إيرانية» عبر ميناء الحديدة.
بلغ الأمر بالرياض، في الأيام القليلة الماضية، حدّ استغلال جريمة مأسوية أودت بحياة ما لا يقل عن 42 لاجئاً صومالياً (اتهمت «منظمة الهجرة الدولية» بوارج التحالف السعودي نفسه بارتكابها)، للمطالبة بتدويل إدارة الميناء، علماً بأن «أنصار الله» لم ترفض استضافة فريق التفتيش التابع للأمم المتحدة، من أجل تفتيش السفن داخل الحديدة عوضاً عن فعل ذلك في ميناء جيبوتي. وفي ظل تلك المعطيات، لا يُستبعد أن تصعّد السعودية استهدافها لميناء الحديدة، عبر الغارات الجوية التي تزايدت في الآونة الأخيرة، أو عبر التضييق على البواخر وإجبارها على تغيير مسارها من الحديدة إلى عدن أو جدة، خاصة في ظل حديث في الصحف الأميركية عن اقتناع إدارة دونالد ترامب بتغطية أي قرارات متهورة من هذا النوع. قراراتٌ من شأنها، إذا ما تتابع تنفيذها، خنق الرئة الثانية التي لا يزال المدنيون يتنفسون من خلالها، بعدما خُنقت رئتهم الأولى المتمثلة في مطار صنعاء الدولي (يمكن القول إن هذه التداعيات الخطيرة بدأت فعلاً في ظل تراجع الملاحة البحرية في ميناء الحديدة بنسبة 60%).
«خذوا سوريا واتركوا لنا اليمن!»
ما يجدر التنبيه إليه، في هذا السياق، هو أنه ليس ثمة انقسام دولي فعلي حيال الأزمة اليمنية، كما الحال في سوريا. لذا، فإن الموقف الروسي من النيات السعودية، بخصوص ميناء الحديدة، هو ما يثير مخاوف يمنية اليوم. مخاوفُ تستند إلى الموقع شبه الحيادي الذي اتخذته موسكو لنفسها إزاء الحرب في اليمن منذ اندلاعها، الذي تمظهر غير مرة في جلسات مجلس الأمن الدولي. يعزز الاستنتاج المتقدم الموقف غير المسبوق الذي أطلقه زعيم «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، الأحد الفائت، عندما هاجم روسيا مباشرة للمرة الأولى، متّهماً إياها بتقديم «المليارات من الفلوس التي طبعتها، وهي استحقاق للشعب اليمني… إلى المرتزقة لتعينهم في الحرب».
في المقابل، تراهن السعودية، على ما يبدو، على الفتور الروسي إزاء الحرب على اليمن، في محاولتها المقايضة ما بين الملفين السوري واليمني، بعدما يئست من الحصول على حصة من «الكعكة السورية». هذا ما يؤكده تصريح لعضو في الوفد السعودي الأخير إلى واشنطن، قبل أيام، أكد فيه أن المملكة تنظر إلى سوريا كـ«قضية خاسرة». تصريحٌ عززه حديث أقلام سعودية، مقرّبة من العرش، عن مقايضة من النوع المذكور، عبر قول أحدهم تعليقاً على زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن، إن «اليمن، بخلاف سوريا، محل اتفاق دولي على القضاء على الانقلابيين، وعزل حليفهم الإيراني».
أما في الجانب العسكري، فمع يأس السعودية من كسر المقاتل اليمني، في الجبهات الداخلية أو الحدود، بات اللجوء إلى التنظيمات العقائدية، كـ«الإصلاحيين» (إخوان مسلمون) والجماعات السلفية والمقاتلين التكفيريين ، ديدنها في مختلف الساحات، كما في تعز وصنعاء وصعدة. لكن، حتى هؤلاء، لم يثبتوا جدارة في الميدان، ولم يقدموا إلى المملكة ما يمكنها التباهي به، بل إن أنباء الخسائر التي يتكبدونها، خصوصاً في البقع بصعدة ونهم بصنعاء، باتت شبه يومية.
تعز: «إدلب اليمن»
يُضاف إلى ذلك، أن تلك الجماعات بدأت بالتفريخ، مقيمة شبه إمارات وكانتونات متشددة، تتنازع الولاء والسيطرة والاستحواذ على الموارد العامة، مثلما الحال في محافظة تعز. من «أنصار الشريعة»، إلى «كتائب أبو العباس»، إلى «كتائب حسم»، إلى «جماعة سليم الكامل»، إلى مقاتلي غزوان المخلافي (لا يتجاوز عمره 17 عاماً)… وغيرها، تتعدد الفصائل المتكاثرة في تعز، المتعددة الولاءات ما بين السعودية وقطر والإمارات، المستقل كل منها بسجونه وشبه محاكم عرفية خاصة، والمتقاتلة على كل شيء: بدءاً من الشوارع والأزقة وصولاً إلى المرافق الحكومية والأسواق وخوّاتها. وعلى أن الأخطر في الجماعات المذكورة، يبقى تنظيم «أنصار الشريعة» (القاعدة في اليمن)، الذي لا يتم تسليط الأضواء الإعلامية على نشاطه في تعز، حيث يعمل بصورة مريحة وعلنية وملحوظة بوضوح، ويمارس فعله العسكري إلى جانب الفصائل الأخرى، من دون أيّ رفض يُذكر من جانب المقاتلين الموالين للسعودية.
هذه الصورة القاتمة لما يدور في تعز، إلى جانب نشاط تنظيمي «القاعدة» و«داعش» في محافظات عدة، خصوصاً عدن وأبين والبيضاء، ترشّح اليمن ليكون قبلة جديدة لـ«الجهاديين»، المنهزمين في سوريا والعراق وليبيا، وفق تقديرات الصحافة الغربية، وهو ما يفتح باب الحديث عن تدويل محتمل لأزمة اليمن، خصوصاً أن الأطراف الفعالة في المضمار الدولي لن يكون بإمكانها الاستمرار إلى ما لا نهاية في غضّ الطرف عن ساحة تصارع مصالح، تمتد من شرق اليمن إلى خليج عدن والبحر الأحمر وباب المندب، وصولاً إلى القرن الأفريقي، الذي أضحى ميداناً لتنازع النفوذ والهيمنة.
معركة اقتصادية وأزمة رواتب مختلقة
يفتح الإصرار السعودي على انتزاع ميناء الحديدة الباب على مخاطر جدية تحدق بالمدنيين، الذين بات 60% منهم مهددون بالانزلاق إلى المجاعة، وفق تقديرات الأمم المتحدة. يستقبل الميناء حوالى 70% من احتياجات البلاد من الغذاء، و80% من احتياجاتها من الوقود، ما يجعل أي إغلاق له أو عرقلة إضافية لعمله بمنزلة إعلان إحدى أكبر حروب التجويع في التاريخ الحديث، على شعب يحتاج 70% من أفراده إلى شكل من أشكال المساعدة.
فضلاً عن ذلك، هناك أزمة الرواتب التي لا تزال مراوغة حكومة عدن المفضوحة حائلاً دون معالجتها. ورغم وعودها المتكررة بصرف الرواتب، وتشكيلها لجاناً متعددة في هذا الشأن، فإن الوعود كانت سرعان ما تتبخر، كاشفة عن ابتزاز تمارسه حكومة الرياض إزاء الموظفين في المحافظات الشمالية. أكثر مما تقدم، حتى الموظفون في المحافظات الجنوبية والشرقية المسمّاة «محررة»، لم يسلموا من المساومة على لقمة العيش، وفق قاعدة «إما أن تقاتلوا معنا وإما لا رواتب». مساومةٌ صاحبتها وعود «كاذبة» بودائع سعودية وخليجية في البنك المركزي في عدن، تبيّن أن أياً منها لم يكن حقيقياً ولا جدياً.
الأخبار