فهذا علي مولاه …بقلم / صلاح الرمام
يا سيدي يا أمير المؤمنين ها هي بين يديك المباركتين ، بعض العبارات والتي لا تفي بالقليل من شخصيتك الفريدة والعظيمة إلاّ إذا اقتضت الضرورة تجاوزها ـ بما انطوت عليه من صناعة ربّانية نبويّة صاغت لك مناقب وفضائل وصفات، تركت بصماتها على شخصيتك الفريدة ، وارتسمت معالمها وآثارها على سيرتك المفعمة بأحداث عظام وأمور جسام ومواقف عظيمة ومبادرات كريمة وإلاّ فإنّ من يقصد وجه الله تعالى الذي أحببتَه وآمنتَ به وآثرتَه وسكنتَ إليه ، وأفنيتَ عمرك الشريف فيه مؤمناً مجاهداً . . . حتّى قضيتَ نحبك في سبيله ، وفاضت روحك إليه ، مضرّجاً بدمك في محراب عبادته ، في بيت من بيوت الله تعالى ، في مسجد الكوفة ، وقد انطلق صوتك ، ودوّى صداه عالياً في جنبات المسجد وفي سمائه . . فُزتُ وربِّ الكعبة ، فزتُ وربِّ الكعبة . .
نعم ، إنّ من يقصد ذلك الوجه الكريم ويرجو لقاءه بقلب سليم ويأمل أجره وفضله ويخشى حسابه ويخاف عقابه ، يجب أن تبقى ذكراك ماثلةً أمامه ، حيّةً في سيرته ، فاعلةً في حياته ، شجرةً خضراء ينعم بظلالها الوارفة ويشمّ عطرها ويستنشق عبيرها ، ويرتشف من معينها قيماً جميلةً ومعاني عظيمة ومفاهيم جليلة ، وأن يقرأك إنساناً وإيماناً وتقوًى وزهداً وجهاداً وعلماً وأدباً وفكراً . .
إذن لابد أن يبقى كلّ منا يعيشك دائماً قدوةً صالحةً واُسوةً حسنةً ، وهو الذي يجب أن نعوّد أنفسنا عليه ونتبنّاه في حياتنا الدينية والاجتماعية بكلّ مفاصلها . لا ذكرى فقط تمرّ مرور الكرام . .
ولعلّ الحكمة في أن يكون مولدك في جوف الكعبة; القبلة ، لتكون يا سيدي قبلةً للأنام، للمؤمنين رعاةً كانوا أو رعيةً مهما بعدت بهم البقاع ونأى بهم الزمن ، يستقبلونك مبادئ وقيماً ومثلا عليا كلّما توجّهوا إليها في فرض أو مستحبٍّ أو دعاء .
لذاك قبلة من صلّى لخالقه *** غدا ومقصد من للحجّ يأتيه
حقّاً لتبقى بل ليبقى عليٌّ شاخصاً أمامنا بكلّ ما يحمله من قيم السماء ومبادئ الدين الحنيف ، وبكلّ ما يتحلّى به من إيمان ثابت وإسلام وثيق ، وجهاد مرير وتضحيات جسام ، ومن علم غزير وأدب جميل وسيرة عطرة حسنة ، تمنّاها كلّ مَن حولك والذين جاءوا من بعدهم . . فعصت عليهم جميعاً ، ولم تجد غيرك إناءً صالحاً ، وبوتقةً تصهرها ، فتنتج عليّاً إسلاماً يتحرّك وقرآناً ناطقاً ، وإيماناً حيّاً يجسِّد كلّ معاني السماء .
***
لقد كنت ـ سيّدي ـ بين محرابي الولادة والشهادة محراباً لا يدانيك أحدٌ أبداً ، وكيف لا تكون كذلك وأنت أكثرهم جهاداً وأمضاهم عزيمةً وأشدّهم توثّباً .
كنت جريئاً على الموت مقتحماً لميادينه ، لا تخشى ولا تهاب أحداً بالغاً ما بلغ من القوّة والشجاعة والإقدام ، بل لا تجد هيبة هولاء الأبطال من قلبك شيئاً .
فقد نزل عمرو بن ودّ المعروف بقوّته وصلابته وصولته وبأنّه يعدل ألف فارس ، وقد لفّه الحديد من هامته إلى أخمص قدمه ، ينادي بصوت مخيف هل من مبارز؟ أين جنتكم التي زعمتم أنّكم داخلوها إن قتلتم؟ . . ولا مجيب إلاّ صوتك «أنا له يا رسول الله» فوثبتَ إليه ، وصوت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يلاحقك «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه» فإذا هو مجندّل بين يديك بضربة تعدل عبادة الثقلين ، ولاذت الأحزاب بالفرار .
وأنت في عبادتك الأواب المتبتّل الواله بربّه ، الذي عبد الله كأنّه يراه ،
وأنت القلب الطاهر المطمئن الذي لا يخفق إلاّ بحبّ الله وحبّ رسوله. . .
وأنت القِمّة السامقة في تسليمك وانقيادك إلى الله سبحانه وتعإلى ، فكنت الإيمان كلّه ، وكنت الغاية في الإخلاص والغاية في الصدق .
وأنت في فصاحتك الخطيب الأوّل الغنيّ ببدائع الخطابة وألوان البيان وضروب الحكمة وفنون الكلام .
وأنت الذي اتسمتَ بالثراء والفرادة في إيمانك وفي صدقك وعدلك وورعك وفي علمك وعبقريتك وحصافتك وفي زهدك وقناعتك وفي نهجك وطريقتك ، فخصائصك ما أعظمها وأخلاقك وما أسماها وفضائلك ما أكثرها!
وهذه كتب التأريخ والحديث عند الفريقين . . وقد ملئت بخصالك ومناقبك وفضائلك وآثارك وجهودك ومواقفك ولم يذكر فيها لغيرك ما ذكر لك
وليس هذا فحسب ، بل كان الامام علي (ع) الأوحد في صفاته وفضائله . دلّني على فضيلة لم يكن عليّ فيها الأشهر ولم يكن المتفرِّد بها دون غيره سواء أكانوا في زمنه أو الأزمان المتعاقبة الأخرى!
***
وهكذا أنت ـ سيّدي ـ في عطائك الذي كاد أن يبلغ حدّ الأسطورة، أثريت به تراثنا الديني والأخلاقي والإنساني. . . وما أحوجنا إلى تراثك الخالد خاصة في عالمنا الصاخب المليء بمختلف الأفكار والأمواج والأعاصير ..
وإنّ الإحاطة بكلّ ما قدّمته في حياتك المباركة أمر صعب ، كما أنّ محاولة التعمّق فيه وسبر أغواره هو الآخر أمر عسير فالرجل مهما أوتي من القدرة والاستعداد والصبر فإنّه يتخصّص بفنٍّ واحد أو فنّين ، إلاّ أنت ـ سيّدي ـ فقد جمعت مناقب كثيرة ، وفنوناً وعبقريات هي الأخرى متعدّدة .
ما فرّق الله شيئاً في خليقته **من الفضائل إلاّ عندك اجتمعا
***
لقد اصطنعتك السماءُ وأفاضت عليك خصائص وفضائل خلقت منك إنساناً ربّانياً في كلّ ما حملتَه واتسمّتَ به . وأقحمتك عالَماً آخر غير ما ألفوه فتحيّرت عقولهم وأذهلت نفوسهم ، فراحوا يتنازعون أمرهم فيك; تعدّدت آراؤهم وتنوّعت فيك اجتهاداتهم ، وتقاطعت فيك مواقفهم ، ولما أدحضتهم حجّتُك وألجمت ألسنتهم وخيّبت أدلّتهم وكشفت افتراءاتهم . . لم تطاوعهم أنفسهم المقيتة على الرضوخ للحق والانصياع للعدل فأبت إلاّ نفوراً واستكباراً . وركن شانؤوك ومن نصبوا لك العداء إلى سيوفهم فلعلّ آمالهم وأطماعهم تتحقّق ، فما اشتبكت الأسنّة على أحد كما اشتبكت عليك ، ولا اختلفت الألسن والأقلام في أحد كما اختلفت فيك . . فَظَلمك قومٌ وأنصفك آخرون ، وختاماً تركوك وحيداً ـ وإن كنت حقّاً الوحيد بينهم بنعم ظلّت حسرةً عليهم ـ إلاّ أنّهم لم يتركوك حبّاً لغيرك وتفضيلا له عليك ، وهم يعرفون أن ليس هناك من يدانيك إيماناً وعلماً وفضلا . . . بل تركوك; لأنّهم لم يتحمّلوا صدقك ولم يطيقوا عدلك . . خافوك على دنياهم وخفتهم على آخرتك .
***
إنّ تاريخك يا بن ابي طالب لحافل وإن حياتك لصالحة وإنّ ميراثك لعظيم وإنّك لفي مقام كريم . . استوقفت هيبتك الجميع، وبهرتهم صفاتك وأذهلتهم فضائلك حتّى لم يجدوا شيئاً منها في بشر سواك
***
لقد راح ـ سيّدي ـ قوم عاصروك وآخرون جاءوا من بعدهم ينتهلون من علمك ويتعلّمون من حلمك ويقلّدون شجاعتك . . إلاّ أنّهم ـ وإن تمنّوا ـ لا يكونون مثلك أبداً . . وأنّى لهم وخصالك التي صنعتها يد الغيب ، وسمات شخصيتك أفردتها لك السماء ، ومناقبك صاغتها مبادئ الدين الحنيف تحت ظِلال النبوّة المباركة . . كما راحت اُمّتنا واُممٌ أُخرى ، من ديانات أُخر ومذاهب شتّى بمفكِّريها وعلمائها وأدبائها وشعرائها . . يقفون أمام تراثك مبهورين وإزاء عبقريتك متحيّرين . . وقد عرفوا ذلك كلّه ، إلاّ أنّهم أبوا إلاّ أن يقولوا فيك شيئاً . فراحت أفكارهم وأقلامهم ومع سموّها لا تستطيع كشف إلاّ ما ظهر من عظمتك ولا تذكر إلاّ ما بان من شخصيتك ، وهو غني ثريّ عظيم . . أمّا ما خفي فالله ورسوله أعلم به .
وصدق رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذ قال : «يا عليّ ما عرفك إلاّ الله وأنا وما عرفني إلاّ الله وأنت ))
حقّاً ـ سيّدي ـ إنّك نعمة كبرى أنعمتها علينا السماء ، إنّك كنز عظيم غفلنا عنه ، وينبوع لا ينضب جهلنا قدره ، وصورة مضيئة للإسلام والإنسانية بكلّ معانيها الجميلة ، لم نعطها حقّها..
***
لقد أكبرنا ـ سيّدي ـ الإسلام الذي تجسّد فيك ، وفضائلك الرائعة ومناقبك الجميلة ومواقفك الشجاعة والجريئة التي باتت رصيد كلّ خير وعطاء ، وثورة وإباء ، وعدل ورحمة ، وغدوت حياة لأولي الألباب..
إنّ اسمك ـ سيّدي ـ شفاء للنفوس ، وذكراك ضياءٌ للعقول ، وهدى للقلوب ، وحافز للثورة والثوّار مهما كانت صولة الباطل مريرة وقسوته شديدة..
إنّ كلّ ما حولنا يستضيء بنورك ويستهدي بهداك ، وكلّ ما عندنا مدين لمبادئك وقيمك ، التي هي قيم السماء ، فذكراك لا يحدّها حدّ ولا يختصرها زمن . وكيف يكون ذلك وعليّ بين الولادة والشهادة تجده شمساً مضيئةً لا يحجبها شيء ، وقمراً منيراً لا يحبسه سحاب؟!
وتجده إيماناً لا يشوبه شكّ ولا يعتريه ريب ، وكيف يخالط إيمانه ذلك وهو القائل : «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» .