فلسفة الغدير…بقلم/ أحمد يحيى الديلمي
تُعتبر مناسبة الغدير من المناسبات الدينية العظيمة التي استكمل بها الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- دعوته وأمانته التي حمّله إياها الخالق سبحانه وتعالى ، فبعد أن نزل قول الله سبحانه وتعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت لكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) “المائدة 3 ” أجمعت الكثير من المصادر أنها لم تكن آخر آية، وإنما آخر آية في القرآن الكريم هي قول الخالق سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) “المائدة 67” .
هذا الإجماع لا شك أنه مؤشر هام وحقيقة ثابتة تدل على أن دعوة الولاية احتلت مكانة خاصة في الإسلام وأن الخالق سبحانه وتعالى عندما قال وإن لم تفعل فما بلغت رسالته”، قد وازى بين الدعوة والولاية وجعل الأخيرة فعلاً مكملاً لما قام به النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال قيامه بأعباء الدعوة ، وكان الصحابة رضي الله عنهم جميعاً قد سلموا بهذه الحقيقة بعد إعلان الرسول واختياره للمكان بدقة وعناية ، حيث كان في مفترق الطرق التي يتوزع فيها الحجاج فيذهب أهل الشام إلى الشام وأهل اليمن إلى اليمن وأهل العراق إلى العراق وهكذا كل فريق يذهب إلى موطنه ، فوقف النبي في ذلك المكان المُسمى غدير خُم بعد أن بلغه قول الله سبحانه وتعالى المذكور آنفاً ، فطلب من أصحابه أن يجمعوا له أكتاب الأبل ففعلوا حتى اعتلى المكان وأصبح يشبه منبر الخطابة، ثم أمر بدعوة كل الحجاج الذين كانوا قد تفرقوا ليعودوا إلى نفس المكان (غدير خُم) وصعد على المنبر وقال قولته الشهيرة التي أكملها بقوله- وقد أخذ بيد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب- عليه السلام ( اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله … إلخ).. وكان أول من سلم بالأمر الفاروق عمر بن الخطاب الذي خاطب الإمام علي قائلاً ( بخ بخ يابن أبي طالب .. لقد أصبحت وليي وولي كل مؤمن ومؤمنة)..
هذا التسليم للأسف تغير بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذهب أدراج الرياح بعد أن حلت العصبية محله وأصبحت هي المعيار لخدمة الأهواء والرغبات الخاصة ، وهذا هو حالنا نحن المسلمين في كل مكان وزمان ، حتى الأوامر الإلهية يمكن تحويلها وتأويلها بما يخدم الرغبات الذاتية ، وإلا فإن الموقف يحمل فلسفة خاصة أراد الخالق سبحانه وتعالى أن يضع بها معياراً للحكم ولحل مشاكل المسلمين المستقبلية فوضع إطاراً عاماً لكيفية الاتفاق على شخص يقود الأمة بعد غياب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهناك معطيات كثيرة تخدم نفس الفكرة، إلا أنه وكما يقال: الأهواء والرغبات تغلب على كل شيء ، فلقد حلت محل النص والفكرة وأصبحت هي المعيار الذي يستند إليه الناس ، بينما الفلسفة الإلهية أكدت أن الموضوع لا يحمل بُعداً أسرياً أو قبلياً بل يستند إلى رؤية دينية بحتة تقوم على منطق النقاء والإيمان الصادق ، وهي من الصفات التي لم يتميز بها أحد غير الإمام علي عليه السلام ، لذلك استحق التقدير الإلهي لذاته وكما قال في إحدى الغزوات ( خُذها وأنا علي ) مخالفاً بذلك وسوسة إبليس ، وهنا تكمن أهمية الفلسفة التي أرادها الخالق سبحانه وتعالى وعجز عن فهمها البشر، بينما هي واضحة وضوح الشمس.
وكنا في كل مناطق اليمن جنوبه وشماله وشرقه وغربه نُقيم عيد الغدير في كل عام لأنه ترافق مع يوم النشور، حيث كانت العادة أن اليمنيين كلهم يتوقفون عن العمل حتى المزارعين في المزارع من الوقفة إلى عاشر العيد وفي يوم العاشر يتدفق الناس من كل حدب وصوب من كل الميادين والأماكن العامة يقيمون الاحتفال ويرددون الأهازيج احتفاء بهذا اليوم الأغر ، ويعتبرونه فرصة للتدريب على الرماية، فالآباء يدربون الأبناء وتُلقى القصائد العصماء التي تُشيد بالمناسبة وتذكر بمحاسن وفضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقد شهدت بنفسي احتفالاً بعد الثورة حيث تدفق أهل صنعاء إلى ما كان يُسمى بظهر حمير أسفل جبل نقم، وأقيمت الاحتفالات من الصباح حتى أذان الظهر بشكل كبير إلى أن جاء أعداء الحياة من تلبسوا الإسلام بطريقة خطأ وادعوا الوصاية عليه فسعوا بكل ما لديهم من قوة إلى إلغاء هذه المناسبة وادعوا أنها بدعة وضلالة، بل ووصل الأمر بالدولة آنذاك بعد أن أصبحت أداة من أدوات السعودية إلى أنها وظفت الطقوم الأمنية أمام كل مسجد يُعتقد أنه سيُحيي هذه المناسبة، وأودعت السجون كل الأشخاص الذين خرجوا لإحيائها في المناطق والمحافظات الأخرى ، وكانت بالفعل كارثة لأنها حاولت أن تعتدي على الهوية التي ترسخت في نفوس اليمنيين منذ أعلنوا دخولهم الإسلام ، وكانوا يتباهون بها كأي عيد من الأعياد الدينية ، وهكذا تراكمت الأخطاء والممارسات غير السوية ضد كل شيء يُعزز الإسلام في النفوس أو يشرح صدور المسلمين ، وهي حالات مرضية خطيرة نحمد الله أنها زالت ، ونتمنى أن لا تأخذ منحى آخر غير الذي أراده الله سبحانه وتعالى وهو التكريم العظيم والولاء المطلق لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب- عليه السلام ، فهو الذي استحق كل الصفات والأسماء العظيمة كونه دافع عن الإسلام وقام بأعمال لم يُقم بها غيره في سبيل نصرة هذا الدين وهي كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ، وأكتفي بما أسلفت والحمد الله أن المناسبة عادت كما قلنا وسعد اليمنيون بإحيائها من جديد وسيظل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مشعلاً يُضيء الطريق بنهجه ورمزاً للصدق والتضحية والإباء يجعله المجاهدون اليوم محوراً للنصر ودحر الأعداء ، مهما تآمر المتآمرون أو عمل أتباع محمد بن عبدالوهاب ، فأمير المؤمنين أكبر من كل مؤامرة وأعظم من كل الجبناء الأدعياء ، والله من وراء القصد..