فرص السلام في ميزان مواقف العدو: ضبابيةُ مؤشرات التجاوب ووضوحُ رغبات التصعيد
توازياً مع بروز بعض المؤشرات الإيجابية فيما يتعلق بجهود معالجة الملف الإنساني والتمهيد للسلام، برزت مؤشرات سلبية إضافية من جانب دول العدوان ورعاتها، لتجعل المشهد ضبابياً مرة أُخرى، الأمر الذي يدفع نحو إعادة النظر في مدى ثبات تلك المؤشرات بنوعيها خُصُوصاً وأن رغبة التصعيد لدى رعاة العدوان ومرتزِقتهم تبدو أوضح بكثير من رغبة السلام لدى السعوديّة والإمارات.
مؤشراتٌ إيجابية ناقصة
المؤشراتُ الإيجابية التي برزت مؤخّراً كانت ملفتة؛ لأَنَّ هذه هي تقريبًا المرة الوحيدة التي يتم فيها الحديث عن توفر “جدية” نسبية في المناقشات منذ بدء الهدنة، لكن هذه الجدية كما يبدو من مجمل تصريحات صنعاء والسعوديّة لم ترق بعد إلى الحد الكافي للتوصل إلى اتّفاق واضح فيما يتعلق بالملف الإنساني، فضلاً عن التوجّـه نحو حَـلّ شامل.
الرئيس مهدي المشاط، ورئيس الوفد الوطني محمد عبد السلام، تحدثا عن أفكار وتصورات بناءة خرجت بها المناقشات مع الوفد العماني فيما يتعلق بترتيبات فتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء وكذلك فتح الطرقات في المحافظات، مع صرف مرتبات الموظفين من إيرادات النفط والغاز، إضافة إلى تبادل الأسرى، وهذه الأمور ستشكل بالطبع أرضية ثابتة للتوجّـه نحو سلام فعلي.
لكن تصريحات الرئيس أَو رئيس الوفد الوطني لم تتضمن أية إشارة على أن دول العدوان مشاركة في هذه الحالة الإيجابية، وبالرغم من أن الحاجة إلى إخفاء التفاصيل في مثل هذه الحالات تكون مفهومة، إلا أن بقاء المؤشرات الإيجابية المعلنة مقتصرة على لقاءات صنعاء والوفد العماني يجعل هذه المؤشرات ناقصة وغير ثابتة بالمستوى المطلوب.
هذا أَيْـضاً ما تؤكّـده تصريحات وزير الخارجية السعوديّ فيصل بن فرحان التي نقلتها قبل أَيَّـام، التي جاء فيها أن “هناك تقدماً، لكن أَيْـضاً هناك عقبات كبيرة في الطريق، وليس واضحًا ما إذَا كانت ستعود الهدنة وسيتم تحويلها إلى وقف دائم لإطلاق النار” بحسب وكالة رويترز.
وبالتوازي كان عضو المجلس السياسي الأعلى محمد علي الحوثي، قد تحدث أَيْـضاً عن تركيز النقاشات على الملف الإنساني، لكنه أكّـد أَيْـضاً أن “المراوحة لا زالت قائمة”.
ووفقاً لذلك، فَـإنَّ المؤشراتِ الإيجابيةَ التي حملتها المجرياتُ الأخيرة للحراك الدبلوماسي لم تكن بالصورة التي تبشِّرُ بتحقيق تقدُّمٍ قريبٍ أَو حتمي، بل يمكن القول إنها تبشر بوجود مجال مفتوح لمواصلة المفاوضات وعدم انهيارها، ما يعني أن الأمر قد يستغرق وقتاً، وهو ما يجعل نوايا العدوّ غير واضحة بالكامل، خُصُوصاً في ظِلِّ استمرار بروز المؤشرات السلبية من أكثرَ من جانب.
ثبات ووضوح مؤشرات التصعيد
وبالحديث عن المؤشرات السلبية، يمكن القول إنها باتت تمتلك خاصية “ثبات” وَ”وضوح” لا تمتلكها المؤشرات على الجهة الأُخرى، فبمقابل الجدية والإيجابية التي حملتها اللقاءات الأخيرة بين صنعاء والوسطاء، أبدت كُـلٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اندفاعاً فجاً نحو التصعيد الشامل، ففيما جدد الرئيس الأمريكي جو بايدن تأكيده استمرار تقديم الدعم العسكري لدول العدوان لـ”مساعدتها على مواجهة التهديدات من اليمن” بحسب تعبيره، أعلن السفير البريطاني ريتشارد أوبنهايم أن المملكة المتحدة تدعم قرار الجرعة السعرية التي فرضتها حكومة المرتزِقة من خلال رفع سعر الدولار الجمركي، وأكّـد أنه يجري العمل على اتِّخاذ المزيد من الخطوات لمواجهة قرار منع نهب الثروة الوطنية الذي فرضته صنعاء.
وبالتوازي مع ذلك كان مجريات جلسة مجلس الأمن الأخير بشأن اليمن قد ترجمت بوضوح استمرار الموقف الدولي السلبي تجاه متطلبات تجديد الهدنة ومتطلبات السلام الفعلي في اليمن.
هذه المعطيات مثلت بطبيعة الحال رداً من جانب الإدارة الدولية للعدوان على التطورات “الإيجابية” (بغض النظر عن حجمها) في المشهد التفاوضي، وعبرت عن الانزعَـاج من وجود فرصة لمعالجة الملف الإنساني والتوجّـه نحو سلام شامل، لكن هذا لا يعني أن هذه الفرصة قد أصبحت مضمونة، فالتوجّـه الأمريكي البريطاني نحو التصعيد يتضمن ضغوطاً واضحة على السعوديّة والإمارات لإفشال المشاورات.
والجدير بالذكر أن هذه الضغوط قد نجحت في وقت سابق في إفشال تفاهمات كان قد تم التوصل إليها عقب انتهاء الهدنة بحسب تصريح للرئيس المشاط، فيما لم يسبق أن نجحت السعوديّةُ والإماراتُ في معارَضةِ الرغبات الأمريكية والبريطانية وخُصُوصاً في ملف بحجم ملف العدوان على اليمن.
بعبارة أُخرى: إذَا كانت هناك رغبة سعوديّة أَو إماراتية في إنجاح جهود السلام المبذولة، فهي ما زالت تفتقر إلى براهين واضحة وثابتة، كما أنها تحتاج إلى إرادَة تكفي لمعارضة التوجّـهات الأمريكية والبريطانية، وهو أمر لا دليل على وجوده أَيْـضاً، لا الآن ولا في أي وقت مضى، بل إن الأدلة على استعداد السعوديّة والإمارات للتماهي مع الرغبات الأمريكية والبريطانية متوفرة وثابتة وملموسة.
أبرز تلك الأدلة استمرار الحصار الإجرامي المفروض على الشعب اليمني بكل مستوياته ومواصلة اختلاق مبرّرات وذرائع لتشديده، واستمرار دعم توجّـهات وإجراءات الحرب الاقتصادية على الشعب اليمني، واستمرار تكريس حالة الاحتلال العسكري للبلد وتقسيمه، ودعم وتمويل مساعي الاستحواذ على الثروات الوطنية ونهبها، وُصُـولاً إلى استمرار دعم وتبني محاولات خلخلة الجبهة الداخلية وإثارة الفوضى.
وتواصل السعوديّة بشكل خاص التأكيد على تعنتها بشكل عملي من خلال القصف المتواصل الذي تشنه قواتها في محافظة صعدة والذي يسفر عن سقوط شهداء وجرحى بشكل يومي.
وحتى على مستوى المشاورات، وإلى جانب ما صرح به وزير الخارجية السعوديّ بخصوص وجود “عقبات كبيرة” فَـإنَّ التقارير والتسريبات التي تتحدث عن اشتراط الرياض الحصول على ضمانات أمنية وعسكرية للموافقة على مطالب الشعب اليمني، تؤكّـد أن نوايا السعوديّة في التوجّـه نحو السلام غير واضحة، إن لم تكن شبه معدومة.
اللا حَـلّ واللا تصعيد
حتى الآن فَـإنَّ أيةَ مقارنة بين المؤشرات الإيجابية المعلنة ومؤشرات التصعيد تؤكّـدُ أن الأخيرةَ هي الأقوى، لكن بين الحل والتصعيد عادة ما يكون هناك منطقة رمادية تسعى دول العدوان ورعاتها دائماً إلى خلقها والاعتماد عليها، وهي المنطقة التي يحاولون فيها استثمار المؤشرات الإيجابية المحدودة؛ مِن أجل كسب الوقت لخلط الأوراق وإضاعة المطالب الرئيسية وسط تفاصيل ثانوية، والسعي لمواصلة النقاش؛ مِن أجل النقاش.
تجارب المراحل الماضية والمرحلة الحالية، أثبتت أن العدوّ يعول كَثيراً على هذا المسعى، لكنها أثبتت أَيْـضاً أن هذا المسعى محكومٌ عليه بالفشل في ظل ثبات وقوة موقف صنعاء، وقد مثلت التحذيرات الأخيرة التي وجهها قائد الثورة لدول العدوان والتي أسفرت عن إنعاش جهود الوساطة مجدّدًا دليلاً واضحًا على أن كُـلّ ما يعول عليه تحالف العدوان ورعاته من مخطّطات للمماطلة أَو الالتفاف على مطالب السلام، لن تكون له قيمةٌ إذَا وصلت صنعاء إلى تقييم نهائي بفشل جهود الحل.
وبالتالي، يمكن القول إن المؤشرَ الإيجابيَّ الوحيدَ الثابتَ في المشهد هو قدرةُ صنعاء على قلب الطاولة وبعثرة كُـلّ حسابات العدوّ؛ لأَنَّ إدراكَ الأخير لهذا الأمر كان وما يزال وسيظلُّ الدافعَ الأبرزَ للجوئه إلى الطاولة.
ضرار الطيب