“غزة جامعة العالم”.. كيف أعاد الحق الفلسطيني إحياء النبض الثوري في الحركة الطلابية؟
بعد نحو 7 أشهر على حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة، يدخل الحراك الطلابي إلى المشهد انطلاقاً من الولايات المتحدة، فأي جديد يحمله هذا المعطى في مسار الحرب ومآلاتها؟ وهل تجب قراءته من زاوية تأثيره في مجريات الحرب، أم من زاوية تأثره بها كعامل استنهاض لنبض ثوري شبابي حضر في أكثر من استحقاق عن جامعات الولايات المتحدة؟
علها مفارقةٌ لافتة أن يجمع بلدٌ واحدٌ بين أكثر الأنظمة السياسية فساداً وإفساداً وتعبيراً عن الظلم والهيمنة والتدخل في مصائر الشعوب – وإن كان هذا النظام في الواقع عبارة عن إدارات متعاقبة تنتمي إلى حزبين سياسيين – وبين حراكٍ طلابيّ له تاريخ من الوعي الثوري في التعامل مع قضايا إنسانية وسياسية داخل الحدود وخارجها.
ولعلّ العلاقة بين الأمرين سببية أكثر من كونها تنطوي على مفارقة، فالسياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة الأميركية، منذ نحو قرنٍ من الزمان، وتحديداً بعد وراثتها بمفردها الغرب الاستعماريّ في إثر الحرب العالمية الثانية، توجب على طلابها أن يكونوا في الطليعة، وتعطي تحركهم أهميةً تفوق أهمية أي تحركات مماثلة في أي مكانٍ من العالم.
لكن هذا الحراك الطلابي، الذي عبّر عن نفسه في محطات محددة، من الحرب على فيتنام، إلى الحرب على أفغانستان، إلى الحرب على العراق، يعبّر عن نفسه اليوم بوضوحٍ أكبر في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية – الأميركية على قطاع غزة.
ويكتسب الحراك الطلابي الأميركي المتضامن مع غزة أهميته الاستثنائية من أهمية اللحظة نفسها، ومن المذبحة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ثمّ من حدّة الحراك وحجمه، ثمّ من التفاعل العالمي معه في الأيام الأخيرة، ثمّ من إدراك الولايات المتحدة و”إسرائيل” خطورته وقدرته الفائقة عل التأثير في المشهد.
فهل سيغيّر الحراك الطلابي الأميركي مسار الحرب على غزة؟ أم أنّ غزة، بما تمثل اليوم من رأس حربة للحقّ الفلسطيني، هي التي تغيّر الواقع في جامعات الولايات المتحدة، وفي العالم بأسره؟
من فيتنام إلى غزة.. حركة طلابية فعّالة
في الستينيات، نشأت حركة طلابية في الولايات المتحدة للمطالبة بـ”حرية التعبير” في الحرم الجامعي، وللدفاع عن حقوق الطلاب من ذوي الأصول الأفريقية، والمطالبة بتضمين المناهج الجامعية ما يتعلق بتاريخ الأميركيين الأفارقة وثقافتهم.
وكانت أبرز الاحتجاجات الطلابية في عام 1968، حين سيطر ما يزيد على ألف طالب على المبنى الإداري الرئيس في جامعة “هوارد”، التي يشكل الطلاب الأميركيون الأفارقة أغلبية طلابها.
وعلى خطى زملائهم في “هوارد”، أقدم طلاب آخرون لاحقاً على السيطرة على مبانٍ في مؤسساتهم، مطالبين بإلغاء عقود تربط الجامعة بمراكز أبحاث للأسلحة، وبمنع خطط لبناء صالات رياضية داخل حدائق عامة في أماكن يقطنها الأميركيون الأفارقة، أو غير ذلك.
ومع تورط الجيش الأميركي في الحرب على فيتنام، أصبحت مناهضة الحرب الهدف الرئيس للاحتجاجات الطلابية، بعد أن تسبب الإنفاق الأميركي الضخم على المغامرات العسكرية خارج الحدود بزيادة هائلة في عجز الموازنة، وأدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية داخل البلاد.
الدور الكبير للحراك الطلابي في جامعات الولايات المتحدة في مواجهة الحرب في فيتنام، دفع البعض إلى عدّها واحداً من الأسباب الرئيسة لإنهاء هذه الحرب، والتي تأتي مباشرةً بعد صمود الفيتناميين ومقاومتهم الشرسة للعدوان.
وانتقلت عدوى الاحتجاجات الطلابية من الولايات المتحدة إلى أماكن أخرى حول العالم، في طليعتها دول أوروبا، وتحت عناوين متعددة ترتبط بأولويات كل بلد وقضاياه، وهو مشابه بالضبط لما يحدث اليوم.
ما حدث بالتزامن مع حرب فيتنام، تكرر لاحقاً مع كل مغامرة عسكرية أميركية خارج الحدود، بحيث كانت الجامعات الأميركية منطلقاً لاحتجاجات طلابية ضد العدوان على أفغانستان بحجة الرد على هجمات 11 أيلول/سبتمبر، والقضاء على تنظيم القاعدة وحليفته حركة “طالبان”، وعلى العراق بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل.
ما وراء التضامن مع غزة.. شعورٌ بالمسؤولية
في هذا السياق، يمكن فهم الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية، بصفته امتداداً لوعيٍ نضاليّ كان له على الدوام موقف مبدئي من القضايا المصيرية، التي تحمل طابعاً عالمياً من جهة، وتتورط فيها حكومة الولايات المتحدة من جهة أخرى، الأمر الذي يفرض على الطلاب الأميركيين أن يقولوا كلمتهم بشأنها.
وإذ لا يقل التورط الأميركي في العدوان على غزة وضوحاً عن التورط في العراق أو أفغانستان أو فيتنام، يأتي خروج الطلاب الأميركيين هذه المرة انطلاقاً من شعورهم بمسؤولية بلادهم عن حرب الإبادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ 204 أيام، والتي وصل عدد ضحاياها إلى نحو 34500 شهيد و77500 جريح.
ولعل أهمية الحراك الطلابي الأميركي اليوم من أجل غزة مقارنةً بما سبقه من محطات مشابهة، أنه يأتي بعد فترة طويلة من السبات ظنّ فيها ما يُسمّى بـ”العالم الحر” أنه نجح تماماً في كيّ الوعي لدى الأجيال الجديدة وصناعة العالم الذي يريده، لولا أنّ المسؤولين عن تحديد لحظة انطلاق “طوفان الأقصى” كان لهم رأي مغاير.
ومن أهميته أيضاً أنه يأتي متمحوراً في الظاهر بشأن قضية محدّدة بطابعها الإنساني وحدودها الجغرافية، لكنه في واقع الأمر أقرب إلى “ثورةٍ عالمية”، ما بعدها لن يكون كما قبلها.
فالعنوان المطروح اليوم في تظاهرات الولايات المتحدة يتجاوز وقف إطلاق النار في غزة، وتحسين الظروف الحياتية لسكان القطاع، إلى إعادة رسم العالم بصورة مغايرة وفرض واقع جديد على القوة العظمى المهيمنة عليه.
تفهم الولايات المتحدة هذه المعطيات جيداً، وتتعاطى مع التظاهرات وفقاً لهذا الفهم، وهو ما يفسّر استخدامها العنف المفرط في مواجهتها، وإن كان أصل استخدام العنف ضد التحركات الطلابية ليس جديداً على الإدارات الأميركية المتعاقبة.
وفي سبيل تبرير العنف، يجري اتهام المتظاهرين بمعاداة السامية، وهي التهمة التي لم تعد تلقى قبولاً حول العالم مع افتضاح هشاشتها، أو بالغوغائية والدعوة إلى العنف وهو ما ثبت أيضاً عدم صحته من خلال تأكيد الأساتذة والطلاب المشاركين مراراً على سلمية تحركهم.
والمفارقة الأبرز هي أن الجامعات التي تتصدّر المشهد اليوم، مثل “كولومبيا” و”ييل”، تُعرَف في الأوساط الأكاديمية الأميركية بأنّها جامعات النخبة، وهذا لا يعني فقط نفي تهمة “الغوغائية” عن طلابها الآتين غالباً من طبقات محددة في المجتمع الأميركي، بل يؤكد فداحة الخسارة في المقلب الآخر، فهذه الجامعات أُعِدَّت لتخرّج الطغاة لا الثائرين عليهم. يكفي أن نعرف أن بين خريجي “كولومبيا” 30 من كبار المسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، على رأسهم وزير خارجيته أنتوني بلينكن، وأنّ من خريجي “ييل” مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزيرة التجارة جينا ريموندو، وزيرة الخزانة جانيت يلين ونائبها، والمبعوث الرئاسي الخاص لشؤون المناخ جون كيري، ومديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سامنتا باور.
فلسطين القضية العالمية.. “طوفان الأقصى” يعيد ترتيب العالم
هل تنتصر جامعات الولايات المتحدة الأميركية والعالم لغزة؟ أم تنتصر لنفسها من خلال وقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني؟ تتداخل الإجابة عن كل من هذين السؤالين حتى يصعب الفرز بينهما.
فمع التسليم باستفادة غزة من كل صوتٍ حر حول العالم رافضٍ لاستمرار الإبادة، فإنّ استعادة الحراك الطلابي في الولايات المتحدة لتاريخه المشرّف هو من بركات غزة وطوفانها المقاوِم، وهي بركاتٌ سبق أن شملت دولاً وشعوباً في أميركا اللاتينية وأفريقيا وغيرهما، وأنتجت تحولات سياسية داخلية فيها، أو تحولات على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة والموقف من “إسرائيل”.
كما أن افتضاح كيان الاحتلال أخلاقياً بعد طوفان الأقصى امتدّ ليشمل الغرب الذي وقف خلفه على الدوام، ويضطر اليوم إلى فعل ذلك بصورة سافرة، مع استيقاظ شعوبه على رفض ما حاولت الآلة الإعلامية الجبارة تلقينها إياه من أضاليل، وهو ما يعني أن غزة تساعد العالم على تنظيف نفسه من لوثة “إسرائيل” التي طبعت عقوداً من تاريخه بدأت بعد النكبة، لم يكن فيها الكيان إلا رأس حربةٍ لمشروع استعماري غربي غير مباشر يرث الاستعمار الغربي الصريح.
وبعد التحركات الشعبية التي زرعت خوفاً حقيقياً في قلوب أصحاب هذا المشروع، جاء دور التحركات الطلابية هذه المرة، بصفتها الأكثر تأثيراً وحملاً للدلالات على انقلابٍ اجتماعي، ومن قلب الجامعات الأميركية قبل غيرها، وهي الجامعات التي جرى الاشتغال عليها لتكون واجهة للحضارة الغربية المراد تصديرها إلى العالم. حضارة قوامها تمييع القضايا الإنسانية المحقة وصناعة إنسانٍ منشغل بإنجازاته الفردية، ولاهث وراء المفهوم الأجوف للحضارة ولامبالٍ بما يجري حوله.
وإذا كان “طوفان الأقصى” هو الحدث الأهم في العالم منذ عقود، فإنّ “ثورة الجامعات” هي الحدث الأهم في الولايات المتحدة منذ عقود، وخصوصاً أنّ هذه الثورة مرشحة للامتداد والتواصل، ومآلاتها مفتوحة وفق ما يؤكده خبراء ومتابعون.