عبدالباري عطوان: كلمة “مأزق” متواضعة جدا لوصف الوضع السعودي باليمن
بعد قرار منظمة “اطباء بلا حدود” سحب اطقمها الطبية، ووقف عملياتها في ست مستشفيات تشرف عليها في شمال اليمن احتجاجا على قصف الطيران السعودي لها، وقتل واصابة العشرات من المرضى والزوار، ها هي منظمة “مراقبة بيع الاسلحة” الدولية تطالب الدول العظمى المصدرة للاسلحة، ومن بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وقف بيع الاسلحة الى السعودية، والغاء جميع الصفقات الموقعة معها في هذا المضمار بسبب عملياتها الحربية في اليمن التي تقتل المدنيين وترتقي الى مستوى جرائم حرب.
هذه الدعوة غير المسبوقة جاءت خلال مؤتمر عقدته في جنيف امس منظمة التجارة العالمية، الذي يعتبر الثاني حول تجارة الاسلحة، ووصفت السيدة اما ماكدونالد، المتحدثة بإسم المنظمة الدول التي تبيع صفقات اسلحة الى السعودية “بممارسة” اسوأ انواع “النفاق”، وشاركتها الموقف نفسه منظمة “اوكسفام” العالمية التي حذرت بريطانيا بأن مصداقيتها في خطر اذا فعلت الشيء نفسه.
هذه الحملة الدولية التي بدأت تزداد شراسة، قد تؤدي الى وضع المملكة العربية السعودية على القائمة السوداء، والغاء صفقة اسلحة فرنسية بقيمة 18 مليار دولار، وقعها الامير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، وزير الدفاع، اثناء زيارته لفرنسا قبل بضعة اشهر، وصفقة اميركية مماثلة بقيمة 6 مليار دولار، وثالثة بريطانية بحوالي 4 مليارات دولار.
لا يخامرنا ادنى شك بأن هذه الحملة تأتي في اطار الضغوط التي تمارسها الدول الكبرى على المملكة من اجل وقف حرب “عاصفة الحزم”، وليس وقف صفقات الاسلحة، لانها، اي الصفقات، تشكل مصدرا مهما لدعم صناعة السلاح في هذه الدول، واعادة تدوير العوائد النفطية السعودية، ولكن المشكلة تكمن في صعوبة العثور على مخرج مشرف للقيادة السعودية من حرب الاستنزاف هذه التي تورطت، او جرى توريطها فيها، وجرّت معها دول خليجية وعربية اخرى، في ما عرف لاحقا باسم “التحالف العربي”.
مفاوضات الكويت للبحث عن حل سياسي لحرب اليمن انهارت بعد 99 يوما، والتحالف “الحوثي الصالحي” يمضي قدما في تثبيت اوضاعه الداخلية بتكريس المصالحة الوطنية، وتقديم “شرعية” بديلة تتمثل في المجلس السياسي الاعلى، وتشكيل حكومة، واعادة تفعيل مؤسسات الدولة وهياكلها، وخاصة البرلمان المنتخب.
وقف صفقات الاسلحة للسعودية، وفي مثل هذا التوقيت، يعني صدمة كبيرة لها، لانها بحاجة الى هذه الصفقات لسببين: الاول، تعويض ما خسرته من ذخائر ومعدات عسكرية على مدى الـ17 شهرا الماضية من عمر الحرب، والثاني، شراء اسلحة متقدمة، طائرات ودبابات وصواريخ في محاولة للاسراع بحسمها.
وربما يكون الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لا يحتاج الى تصديق البرلمان على صفقة الـ 18 مليار دولار التي وقعها مع الامير محمد بن سلمان، لكن الادارة الاميركية تحتاج الى مصادقة الكونغرس على صفقة الـ 6 مليار دولار، وتتضمن دبابات ابرامز وطائرات وذخائر، والشيء نفسه يقال ايضا في الصفقة البريطانية، وسحب الادارة الاميركية لمجموعة من مستشاريها العسكريين كانوا ينسقون مع القوات المسلحة السعودية، وقيادة “عاصفة الحزم”، وعملياتها في اليمن لا يشكل “فألا” طيبا لهذه القيادة.
السعودية تعيش “مأزقا” في اليمن، يتواضع امامه مأزق عراق صدام حسين في الكويت عام 1990، الذي استدعت القيادة السعودية في حينها نصف مليون جندي اميركي لاخراجه منها، فلم يعد امامها الا احد خيارين: الاول، ان تعلن الانسحاب من جانب واحد من الحرب في اليمن تقليصا لخسائرها، والثاني، ان تستمر في هذه الحرب حتى النهاية، اي استعادة مدينة صنعاء، ومدن اخرى مثل تعز، وفي هذه الحالة عليها ان تنتقل الى مأزق آخر لا يقل خطورة، وهو كيفية الحفاظ على هذه المدن، وحفظ الامن فيها، ومواجهة حرب عصابات من قبل رجال التحالف “الحوثي الصالحي” والقبائل المتحالفة معها، وفوق هذا وذاك سيتم وصف وجودها في صنعاء بأنه “احتلال” يستدعي “المقاومة” لانهائه.
القيادة السعودية حاولت الانسحاب مبكرا من هذه الحرب عندما اعلنت انتهاء “عاصفة الحزم”، والاعلان عن تحقيق اهدافها، واستبدالها بـ”اعادة الامل”، ولكن هذه الخطوة لم تكن “مقنعة”، وعادت طائرات “عاصفة الحزم” لقصف اهداف يمنية بطريقة عشوائية مثل المستشفيات والمدارس والاعراس، ومزارع الدجاج، لانها لم تعد تجد ما يستحق القصف من اهداف عسكرية.
شخصية سعودية زائرة لمدينة لندن، وقادمة من مدينة نجران، نعتذر عن ذكر اسمها لاسباب معروفة، اكدت لنا ان الحرب الحقيقة تجري الآن في جنوب المملكة، حيث التوغلات للقوات الحوثية في جازان ونجران وعسير، واقدام السلطات السعودية على تهجير قصري لآلاف العائلات حماية لارواحهم من جراء القصف الصاروخي وبمدافع الهاون والمورتر.
لا مفاوضات سلام في الكويت او غيرها، ولا “تحرير” وشيك لصنعاء، ونقل بطاريات باتريوت الى الجنوب للتصدي للصواريخ الباليستية القادمة من اليمن وتزداد اعدادها بإضطراد، وحملات شرسة من المنظمات الانسانية الخيرية الدولية التي تتهم المملكة بقتل الاطفال والمدنيين، وضغوط لوقف بيعها صفقات اسلحة، ونزيف مالي متصاعد في وقت تتآكل فيه ارصدة المملكة بسرعة، وتتآكل معها عوائد النفط لانخفاض اسعاره.
كلمة “مأزق” تبدو متواضعة جدا في وصف هذا النفق السعودي المظلم، الذي لا يوجد بصيص ضوء في نهايته حتى الآن، والاهم من ذلك انه يبدو نفقا اطول بكثير مما يتوقعه الكثيرون، بما في ذلك صناع القرار في المملكة، اما اليمن فهو في وضع اقل سوءا، لانه امتص الصدمة، وبدأ يتعايش مع الحرب، مثل اللبنانيين والعراقيين من قبله، ويرتب اوضاعه الداخلية، وما مظاهرة ميدان السبعين المليونية التي بايعت الحلف “الحوثي الصالحي”، واتفاق الشراكة الذي توصل اليه، وتأكيد الاصرار على مواصلة الحرب ضد السعودية وعاصفتها الجوية والارضية، الا بعض المؤشرات على ما نقول.
صحافي يمني زائر الى لندن، قال لنا “انتم لا تعرفون اليمن واليمنيين، هذا المقاتل اليمني كل ما يحتاجه هو قارورة مياه، وكمية من الشعير داخلها، وبضعة حبات من التمر، ومستعد ان يعيش عليها شهرا كاملا.
احد المقربين من “حزب الله” اللبناني، قال لي انه عندما جاءت دفعة اليمنيين الى الجنوب للانخراط في دورات عسكرية تدريبية، فوجيء المدربون بأنهم عندما بدأوا يشرحون لضيوفهم “تكتيكات” الانسحاب في جبهات القتال، فوجئوا باليمنيين يصيحون وقد بدت على وجوههم علامات العتب والغضب، لا تدربونا على الانسحاب، فهذه اهانة لنا، دربونا فقط على اعمال التقدم، نحن تعتبر الانسحاب اهانة، والله اعلم.