عين الحقيقة تنشر سلسلة كتابات القاضي حمود الأهنومي :(التأريخ يصنع وعينا)
التاريخ يصنع وعينا (1)
في التاريخ عبر ودروس تعطينا مزيدا من الوعي والبصيرة، وتاريخنا الثوري الجهادي في مواجهة الغزاة مليء بالمحطات التي سجَّل فيها آباؤنا دروسا غراء في الحرية والكرامة والعزة، تليق بيمانيتهم، وإيمانهم، ورجولتهم، وحريتهم، وكرامتهم، ولم يوحِشْهم قلة عددهم، كما لم يُضعِفْهم قوة أعدائهم، ولا كثرة عتادهم.
في هذه السلسلة من (التاريخ يصنع وعينا) نستعرض أحداثا تاريخية، نحاول أن نسلِّط عليها ضوء الاستبصار، لنأخذ منها الاعتبار، بما يعزِّز واقعنا الجهادي المشرق، وتضحيات أبناء يمننا الإيماني المونِقة.
في التاريخ الحديث احتل الأتراك اليمن، وكانوا من أقوى الغزاة الذين أخطأوا طريقهم، وضلوا في مسيرهم، فرمى بهم سوء القدَر والحظ التعيس إلى اليمن.
كان الأتراك أقوياء بقوة دولتهم الذاتية، واستبسال مقاتليهم المدربين الأشداء، لكنهم كانوا في اليمن يظلمون الناس بغير الحق، وينتهجون الفساد كطريقة حكم، ويمارسون التوحش كأسلوب إدارة، فلم يهدأ لآبائنا اليمنيين بال حتى نكَّلوا بهم، وطردوهم، ونالت اليمن بذلك لقب (مقبرة الغزاة)، و(مقبرة الأتراك)، و (مقبرة الأناضول).
سنقف اليوم مع محطة معركة الشاهل التي وقعت في يوم السبت 8 جمادى الأخرى سنة 1316هـ الموافق 29 أكتوبر 1898م، حيث كان اليمنيون يخوضون معركة التحرر والكرامة والعزة ضد أولئك الغزاة المحتلين، والولاة الظالمين، تحت قيادة الإمام المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين .
وصلت جيوش الأتراك إلى مدينة الشاهل، التي سبق وأن فتك رجالُ الشرفين فيها فتكا ذريعا بالغزاة ومرتزِقتهم، في هذه المرَّة جاءت إمداداتٌ جديدة، توجَّه قسم منها إلى الشاهل، بلغ عددُهم حوالي 6000 مقاتل، وكان هناك عدد قليل من المجاهدين اليمنيين موجودين في قرية الفصيح، لا يتجاوز عددهم الـ 25 مجاهدا في بداية الأمر، ثم تلاحقت طلائع المجاهدين ربما إلى بضع مئات، لكنَّ مدار المعركة دار على حوالي 50 مجاهدا فقط.
انقضَّ الأتراك على قرية الفصيح بأسلحتهم النارية، فالتحم بهم المؤمنون التحاما مباشرا، وأصدقوهم طعنا بالجنابي التي كانت أعظم سلاحهم، وحينها أدركوا أنهم وقعوا بين مخالب الأسود، فأرادوا الفرار، لكن خلفياتهم وقياداتهم كانت تضربهم بالسيوف، وبالمدفعية، فكانوا بين نارِ المجاهدين، ونارِ قياداتهم، فلم يسعهم سوى الفرار من الموت إلى التقحُّم في شعابه.
أخيرا .. انجلت المعركة عن مقتل ما يقارب 400 قتيل من الأتراك، وعن 130 جريحا منهم، واغتنام 100 بندق، واستشهد من المجاهدين 12 شهيدا، وجرح حوالي 40 جريحا، وكل ذلك بفضل الله وعونه.
… بقية المقالة تقرأونها في صحافة غد إن شاء الله
التاريخ يصنع وعينا (2)
مر علينا في المقالة السابقة تنكيل الثوار اليمنيين بجنود الغزاة الأتراك في الشاهل؛ وبسبب تلك الثورات أقسم عبدالله باشا الوالي التركي الجديد أن يطمس ذكر حاشد وبلاد الشرفين لكثرة ثوراتهم ضدهم؛ لذا ألقوا بكل ثقلهم العسكري والسياسي والاجتماعي لاحتلال الشرفين، واستطاعوا السيطرة المؤقتة عليها بعد خسارة فادحة، على إثرها وزعوا جنودهم على قرى الشاهل والمحابشة وكحلان كحاميات ومواقع عسكرية تفرض الاحتلال بقوة السلاح، فأرجف المرجفون أن الغزاة لا سبيل إلى هزيمتهم، وأن على الأهالي الخنوع والخضوع.
غير أن المجاهدين الأحرار من آبائنا في الشرفين أخلوا قراهم إلى المناطق الحصينة والخالية، ليتمكَّنوا من تنفيذ عملياتهم الثورية الجهادية من مناطقَ غير معروفة، والتجأوا إلى الله بالدعاء والضراعة، فسلَّط الله على الغزاة الأمراضَ الفتاكة، ولم تمضِ سوى شهور قليلة، حتى تجدَّد العزم عند قبائل الشرفين على طردهم، والتنكيل بهم، لا سيما في شهر رمضان حيث ثقلت وطأة الغزاة على الأهالي، وتضاعفت فاتورة سيطرتهم على أرضهم.
وعلى الرغم من خيانة بعض العناصر النفاقية وتمالؤهم مع الغزاة، بنشر ثقافة الخنوع، والتخويف، والأماني الكاذبة، إلا أن الغزاة أثقلوا ظهور أولئك الذين استكانوا لهم وأطاعوهم بالمفروضات المالية، والضرائب المالية، وطلبوا منهم البنادق، وهدموا بعض المساجد، ثم هدموا منازل بعض بيوت أهالي بني كعب ونوسان، وكانوا آنذاك عمدة أهل الشرف، وفرسان ذاك الميدان، والمشار إليهم بالبنان.
في آخر رمضان من سنة 1316هـ بدأت شرارة ثورة أبناء الشرفين من بني كعب ونوسان، وبدأوا بشن الغارات على مواقع الغزاة، والتنكيل بهم، ونهب بنادقهم وذخائرهم، والتضييق عليهم، والاستنزاف لمقدّراتهم.
اقتنع الغزاة أن لا مقام لهم في الشرفين، ففر مَن كان منهم في بني كعب، ونوسان، والجبر، بعدتهم وعتادهم، شرقا نحو بلاد السودة، لكن رجال الشرفين لاحقوهم على طول الطريق بالهجمات الخاطفة، والكمائن القاتلة، والمناوشات السريعة، ولما وصلوا منطقة الراحة، منعهم سيل وادي مور من عبوره، فاطرحوا في الراحة، لكن الثوار لم يدعوا للراحة إلى طريقهم سبيلا.
وفي سوق الدومة، أحاطت بهم مجاميع المجاهدين، وظل رجال بني كعب والحماريين يلاحقونهم حتى هناك بقيادة الشيخ يحيى بن علي المعازي، والشيخ صالح بن يحيى يمن، ففرُّوا إلى أسفل وادي أخرف، وهناك حامت على رؤوسهم حامية المنايا، ولولا أنهم وجدوا منفذا من جهة بعض القبائل المحايدة، سلكوا منه إلى مدينة السودة، لما خلص منهم غاز واحد.
أما من سقط من المغرَّر بهم في موالاة الغزاة، ومضى تحت ركابهم يقاتل إخوانه المجاهدين الثائرين، فإنهم اكتشفوا بسرعة أنهم مخطئون في حق أنفسهم وفي حق بلدهم ووطنهم وأهلهم، ومن أولئك يحيى بن جابر من أهالي منطقة الجميمة، الذي أعلن ولاءه للغزاة، وانضم إليهم طمعا في المال، لكنهم سرعان ما ساموه سوء العذاب، وعذَّبوه، فما كان منه إلا الفرار من أوساطهم.
وكان عدد من المنافقين يتحكَّمون في اتجاه مدينة السودة، وراق لهم البقاء تحت حكم الغزاة، ففتحت السودة أحضانها للزمرة الباقية من الغزاة، الهاربين من الشرفين، فنفذوا إليها بجلودهم، بعد رفرفة طائر الموت على أعينهم في كل لحظة ودقيقة.
في السودة لم يقابِل الغزاةُ أهلَها الخانعين المطيعين الحسنة بعشر أمثالها!
بل ساموهم سوء العذاب، وطلبوا منهم كفايتَهم، ومؤنةَ عساكرهم، من أولِ يومٍ رحَّبوا بهم، وهتفوا بالشكر لهم، وعلى رغم قصر المدة التي قضاها الغزاة في السودة، وهي ثمانية أيام، لكنها كانت أياما كئيبة، قد أرخت سدولها عليهم إرخاء مظلما، ومُشْعِرا بالعار.
يحدثنا المؤرخ القاضي علي بن عبدالله الإرياني أن الغزاة هؤلاء “أنزلوا بمن أطاعهم من أهل السودة النكال، وفجروا بنسائهم”، بالإضافة إلى فرض الغرامات المالية، والتكاليف العسكرية كما تقدم.
….
بقية المقالة تقرأونها في صحافة يوم غد إن شاء الله تعالى
التاريخ يصنع وعينا (3)
ذرائع الاستعمار
في خطابه بتاريخ 6 شوال الماضي ذكّر السيد القائد عبدالملك الحوثي شعبَه بأن الغزاة على مر التاريخ طالما اختلقوا الذرائع لتبرير اغتصابهم إرادة الشعوب، واحتلالهم بلدانها، وحريتها، وكرامتها، وأن الغزاة الجدد لا يختلفون عن سابقيهم في شيء، فذرائعهم كثيرة، وادعاءاتهم لا حدود لها، “ولن تعدم حتى الخرقاء علة” كما يقول المثل العربي.
والآن تعالوا إلى الماضي القريب جدا، وإلى بريطانيا الاستعمارية لنرى ما هي الذرائع والمسوغات التي رفَعَتْها لشنِّ عدوانها على اليمن؟
في أحد أيام شهر مارس من عام 1928م الموافق 1347هـ شنت طائرات بريطانيا الاستعمارية عدوانا جويا على عددٍ من المدن اليمنية، ابتداء من قعطبة، وإب، وتعز، ويريم، وذمار، في الوقت الذي كانت تلقي فيه مناشير ورقية على مناطق الضالع وإب وتعز ومختلف مناطق الشافعية، تبشِّرهم أن بريطانيا المسيحية النصرانية قادمة لتحرير الأراضي الشافعية الإسلامية من الحكم الزيدي الإسلامي، وكانت تحرِّض أبناءَ تلك المناطق على التمرُّد والثورة على حكومة صنعاء، وتعِدُهُمْ بإجلاءِ من سَمَّتهم بـ(الزيود) عن مناطقهم، وكانت تعدهم وتمنيهم، (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)
يذكر القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكِّراته، أنه على الرغم من “أن هذه الدعوة لم تلق إجابة” من أبناء المناطق الشافعية، إلا أن الإنجليز المستعمِرين ظلَّوا يعزفون هذا الموال “مدة طويلة جريا على قاعدتهم العتيدة (فرِّق تسد)”.
كانت بريطانيا قبل ذلك احتلت مدينة عدن الاستراتيجية بذريعةٍ هي أسخف من السخافة نفسها، وهي أن مواطنين يمنيين اعتدوا على سفينة بريطانية أثناء رسوها في الميناء، وأرادت معاقبتهم باحتلال المدينة!!.
والحقيقة أنها احتلتها منذ عام 1839هـ لاتخاذها قاعدة انطلاق لحماية مستعمراتها في الهند وجنوب شرق آسيا، فتعرَّضت لهجمات الثوار الأحرار من أبناء الجنوب، فقرَّرت احتلال العمق الاستراتيجي لهذه المدينة، وأنشأت ما سمي بالمحميات التسع في الجنوب العربي، ولما بسطت الحكومة اليمنية في صنعاء عام 1928م على كل الضالع وجحاف وحالمين والشعيب والأجعود، ووصلت طلائع الجيش إلى قرية ملاح بالقرب من لحج، أعلنت بريطانيا حربها على اليمن واليمنيين.
هذا التحرير للأراضي اليمنية استثار بريطانيا، ودفعت بأحد أبناء الضالع من الخونة وأبناء السلاطين ليطلب منها الحماية العسكرية، وهنا أنذرت بريطانيا حكومة صنعاء بالخروج من الضالع، بحجة أنه من المحميات التي وهبتها تركيا لبريطانيا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ولما رفض الإمام ذلك بكونه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق اندلعت الحرب، وصمد الجيش اليمني على تواضع عدته وعتاده أمام القوة التدميرية الهائلة لبريطانيا العظمى، فضربوا المدن البعيدة، وهدَّدوا بضرب صنعاء، وأطلقوا بموازاتها تلك المناشير المذهبية التحريضية، التي لم تلق رواجا في صفوف الشعب اليمني.
ويروي الرئيس الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني أن والده القاضي يحيى بن محمد الإرياني وعددا من شعراء اليمن أطلقوا القصائد التي تحث على جهاد بريطانيا، وتفضح دعاواها الخبيثة، ومن ذلك قوله:
يا بريطانيا رويدا رويدا
إن بطش الإله كان شديدا
لا تظنوا هدْمَ المدائن يُوهِي
عزمَنا أو يُلِينُ بأسا صلودا
ما رضينا للترك معْ قُرْبِهم في الـ
ـــدِّينِ منا فكيف نرضى البعيدا
وهمْ في الأنام أشجعُ جيشِ
فسلوهم هل صادفونا أسودا
يا بني ديننا نفيرا إلى الحر
ب فقد فاز مَنْ يموت شهيدا
قبل أن تصبحوا لذي الكفر يا قو
م أسارى أذلة وعبيدا
واعلموا أنكم مع الحق والحـــــ
ــــق كفيل بمنحكم تأييدا
ويُخلِّد في قصيدة ثانية ذرائع الإنجليز ومحاولتهم اللعب على الوتر الطائفي والمذهبي، على رغم كفرهم، وعداوتهم المحققة للإسلام، ويبين أن ادعاءاتهم مساعدة الشوافع ضد الزيود محض افتراء، وأن قصفهم المدن اليمنية بحجة استهداف الزيود نوع من الدجل الذي لا يُعَوَّل عليه، وأن ضررهم وظلمهم لأهل الجنوب أمر معلوم ومشاهَد، ولهذا دعا اليمنيين إلى النفير لجهادهم، فيقول:
ألا إن شر الخلق كفرا ودولة
أتت نحو حزب الله بغيا تحاربه
يريدون بلْعَ المسلمين وحكمَهم
عبيدا لهم فالعيشُ ساءت مشاربه
بريطانيا لم يكفها ما تملّكت
وقد ظلمت ظلما وعمت مضائبه
ألا فادفعوا عن دينكم وبلادكم
بجدٍّ وعزمٍ لا تلين جوانبه
ولا تهدموا مجدا بناه مشيّدا
أوائلُكم طالت سموا مراتبُه
ألا فانظروا في الإنجليز وفعله
إذا نشبت في المسلمين مخالبه
وعبرتكم فيمن يجاور أرضاكم
أذاقهمُ ما لا تطاقُ متاعبه
وقد كان منَّاهم غرورا خديعة
فخيَّبهم والكل ضاقت مذاهبه
وقد سمعت أذناي ما قاله لكم
بتغريره ذا شافعيٌّ أصاحبه
وما هدفي في الحرب أني أصيبه
وليس سوى الزيدي عمدا أحاربه
غرورٌ كما يُعتَادُ من كذباته
لتفريقكم حتى تلين مصاعبه
خذوا حِذرَكم من مكره وخداعِه
فكم خَدَع الملاق شعبا يشاغبه
أخيرا غادر الاستعمار، وغادرت معه ادعاءاته السخيفة، وتبريراته الواهية، لكن قول الله تعالى لم يغادر وعينا أبدا، حيث قال: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ).
…. بقية المقالة تقرأونها في صحافة يوم غد إن شاء الله
التاريخ يصنع وعينا (5): إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة
(1)
في لحظة ضُعف جنَح أهلُ صنعاء للمسالمة، واستسلموا للدعة والراحة، بل وشحَّت نفوسُهم على قليلٍ من المال ينفقونه في سبيل الله، فضاقت أن تُقْرِض الإمام الهادي يحيى بن الحسين في القرن الثالث الهجري بعض المال، لينفقه على عسكره، فيرد عنهم صولة القرامطة الجامحين في عصره، فخرج الإمام الهادي من صنعاء إلى صعدة، تحت ضغط الحاجة، والتمردات الداخلية، والتخاذل، والتواكل، والاستسلام للراحة، واللامبالاة.
وما هي إلا أيام قلائل وإذا بطلائع الجيش القرمطي بقيادة علي بن فضل قادمة كالطوفان المدمِّر، والإعصار المزمجِر، فاقتحموا صنعاء، وعبثوا بها أيما عبث.
لقد وقف المؤرخون طويلا، وهم يعدِّدون الفظائع والجرائم والموبقات التي ارتكبها ابن فضل وجيشُه في صنعاء، وفي كل مكانٍ دنّسته أرجلهم، وشكَّك بعضُ المؤرخين مؤخَّرا في حدوث تلك الفظائع، أو بعضِها، غير أن معاصرا للحدث وهو الإمام الناصر ابن الإمام الهادي أثبت في رسالته إلى أتباعه من زيدية الجيل والديلم، كل تلك الفظائع والانحرافات، ورسالته تلك تعتبر وثيقة تاريخية هامة، نشرها المجلس الزيدي الإسلامي مؤخرا بتحقيق الأستاذ جمال الشامي تحت عنوان (اليمن والأئمة الهادي والمرتضى والناصر).