عودة الحلقة المفقودة: المولد النبوي الشريف وشلال الإيحاءات…بقلم/عبدالرحمن مراد
دلَّ شلالُ الإيحاءات للتدفق الجماهيري الكبير إلى الساحات والميادين للاحتفاء بالمولد النبوي الشريف -على صاحبه وآله الكرام أفضل الصلاة وأتم التسليم- هذا العام، على أن اليمن ليس حضارة طارئة، ولكنه بلد يمتد في عمق التاريخ ويلزمه في زمنه هذا أن يقوم بتفكيك بنيته الحضارية والتاريخية والثقافية والاجتماعية ليستعيد مقوّماته الحضارية والسياسية والثقافية، ويستعيد مركزيته الإقليمية وصدارته التي كانت في غابر زمنه، ولن يصل إلى مبتغاه حتى يصنع من فكرته الدينية مشروعا سياسيًّا واعيا وقادرا على إحداث التحولات وتحريك عجلتها.
فمنذ عام 2011م أصبحت اليمن كالقصعة التي يتداعى عليها أكلتُها، بل أصبحت مضماراً لتصفية الحسابات بين الخصوم في الإطار الإقليمي أَو الدولي، فالصراعُ الذي يلبس العباءة الخليجية أصبح يفصح عن نفسه في المئزر اليمني، فقطر ترى في الإخوان يداً تدافع عنها، والإمارات اشتغلت على مسار الطغمة، والسعودية تبحثُ عن نفسها في ثوب السلفي، وأمريكا تصارع مشروعَ الصين وإسرائيل تريد فرضَ وجودها، وأمام مثل ذلك الاشتغال تغيّب اليمن كوطن، وكمعنى، وكحضارة، وكتاريخ، وكمشروع، لتبدو لكل متأمل حصيف حالة مضمارية بأفق من الفراغ القاتل، أي أن الذي يحدث باليمن لا يعدو عن كونه حالةً من حالات التيه التي تصيب الأمم في مراحل تاريخية مفصلية، إما عقاب لتصويب حالة انحرافية، أَو تهيئة لمرحلة مختلفة في تفاعلها الجيوسياسي والديمغرافي، ويبدو لي من خلال القراءة التأملية لمجريات الأحداث التي واكبْتُ أحداثها -كتابةً وتأملاً- منذ تفجرها في 2011م أن اليمن تتعرض لحالة فرز وتمايز وتدافع دفعاً لفساد قد حدث وبغية التهيئة لها لاستعادة دورها الحضاري والتاريخي، وذلك ما يبدو لي من بين غيوم الأزمة ودخان العدوان وحالات الابتلاء بالفقر والجوع والخوف ونقص الأموال والثمرات، وتلك الرموزُ تحمل بين وجعها العلامات بالبشرى وفق فطرة الله وقانونه الذي وضعه في كتابه، لعل الناس يرجعون إليه إذَا ابتعدوا عن مقاصد الحق والخير والعدل، ومالوا بفطرتهم إلى الطاغوت، وقد زاد يقيني بتلك العلامات والرموز من خلال شلالات الإيحاءات التي حملها الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام.
ويبدو لي من خلال مشاهد الميادين والساحات التي تحتفي بالمولد، أنه مع اكتمال دورة الزمن تكون اليمن قد تجاوزت مرحلة لتبدأ مرحلة جديدة، هذه المرحلة ستكون ذات تغاير وفصل، تغاير عن الماضي القريب الذي تاهت فيه اليمن، وفصل بين زمنين، زمن أمعن في الانحراف التاريخي واستغرق نفسه فيه، وزمن سوف يعمل على تصحيح الانحراف الذي حدث في سقيفة بني ساعدة، ليعيدَ ترتيب النسق الحضاري والثقافي والتاريخي إلى المجرى الطبيعي الذي دلت إشاراتُه الأولى ورموزه على تعاضده وتكامله ومن ثم واحديته، فالمشروع الإسلامي بكل قيمه ومبادئه الحضارية والإنسانية والحقوقية لم تكن قريش حاملاً حقيقيًّا له، بل كانت بيئة قروية عشائرية تقوم على قيم العصبية؛ ولذلك شكلت بيئة طاردة لهذا المشروع وكان الانتقال من القروية إلى المدنية يحمل دلالات كبيرة في الفكر الاجتماعي لم ينتبه إليه أحد، كما أن تمايز التنزيل بين المكي/ القروي والمدني/ اليثربي، يحمل دلالات ثقافية وعقدية لم تُقرأ في سياقها الحقيقي، ومن هنا يمكن أن يُقال إن المشروع الإسلامي الذي جاء؛ لإنقاذ البشرية من دروب الضلال إلى أنوار الهدى وحمله الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- كان مشروعاً مدنياً لا يمكنه التناغم إلّا مع القيم الحضارية والمدنية التي كانت تمتد في حمير ومن حمير في الأوس والخزرج «الأنصار».
فالتلازم بين الإسلام كمشروع يحمل الخيرية للبشرية، وبين حمير هو تلازم عضوي حدث في زمن بزوع الإسلام، فأبهر العالم المحيط يوم ذاك، وحين حدث الانحراف من خلال التأسيس له في سقيفة بني ساعدة ومحاولة قريش استعادة دورها الاقتصادي، ومن ثم استعادة المجد والسيادة كما بدا مكتملاً –أعني مشروع قريش- في زمن الخليفة عثمان بن عفان، ليبلغ أوج كماله بخروج الإمام علي بن أبي طالب من المعادلة الوجودية السياسية لتبدأ مرحلة التضليل وصياغة النصوص وتعزيز عوامل الصراع الوجودي وفق منظومة نصية قيمية تماهت قريش مع اليهود فيها لتبدع واقعا متناغما مع مشروعها، وهو ما اصطُلح عليه بالإسرائيليات فيما بعد، ثم كانت الفرق والصراعات كما يتحدث التاريخ، في ظل غياب حقيقي للحامل الحقيقي للمشروع الإسلامي.
وأمام كُـلّ تموجات اللحظة تبدو الحاجة إلى عودة الحلقة المفقودة إلى مكانها الطبيعي في المسار من ضرورات اللحظة التاريخية الفاصلة، وتلك الحلقة تحتاج وعياً بها، لا قفزاً على حقيقتها وفق طاقات انفعالية مدمّـرة، فخط قريش يعود إلى نفس مساره الثقافي والاجتماعي والسياسي التاريخي، فإذا كان هذا الخط في زمن التكوين وهو القرن الأول الهجري قد تناغم مع اليهود في حركة مقاومتهم ومقارعتهم للإسلام ونتج عنه ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالإسرائيليات، وهي منظومة أحاديث مكذوبة أبدعها الخيال اليهودي وتناغم معها الاستبداد السياسي السفياني والأموي، وبالعودة إلى التاريخ نجد تعاضدا بين السفيانية واليهودية في زعزعة استقرار المجتمع وفي حركة الاغتيالات التي نالت من الرموز السياسية والدينية في القرن الأول الهجري، وهو ما نجده اليوم في واقعنا، فالتاريخ الذي يبدأ على شكل مأساة دامية كالجمل وصفين وكربلاء… إلخ، ينتهي بمهزلة كحركة التطبيع التي يتهاوى إليها اليوم شذاذ الآفاق من رؤساء العرب.
وتلك حالة تتصل بشكل أَو بآخر بنظام القيم وتوزيع نظام القيم في حالة تواشج دائم بالسلطة بأشكالها المتعددة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية، ويجمع المفكرون على أن سوء ممارسة السلطة يطور دائما قيما سلبية تجد من يسعى لانتهاكها.
يحدث أن تتقاطع وجهات نظر الفاعلين الثقافيين والسياسيين، وحالة التقاطع هي التي تشكل باستقطاباتها النسيج الدلالي، الأمر الذي يجعل من قضية الالتباس قضية احتيال في مستوى يمكن التفكير فيه، فحقل الاحتمالات الدلالية المتشعب عنها يفصح عن قصور وعجز في التفسير والتأويل وتحديد المآلات، وهنا ينشأ –كما يقول المفكرون- نوع من التضاد الذي يتعمق كلما استمر سوء الفهم للفكرة، فالذين يمارسون ازدواجا ظاهرا في شلالات الإيحاءات هم أكثر حرصا على إرسال رسائل مشبعة بالرموز والقرائن، يهدفون من خلالها إلى تحقيق غايات ومقاصد في نفوسهم والوقوف أمام تلك الإيحاءات والقيام بتنفيذها والتأمل فيها يجعلها قابلة للفهم في كونها اتّجاها لا ينتج عنها إلّا قيم سلبية وقاتلة، فالتضحية بفلسطين وبالقضية الفلسطينية حالة قاتلة، وما أقدمت عليه السودان حالة قاتلة، فقد دفعت مئات الملايين وذهبت إلى التطبيع دون منافع أَو امتيازات، بل دفعت من قوت شعبها مئات الملايين في مقابل الوصول إلى قيم سلبية وقاتلة.
ما يميز الاحتفالَ بالمولد النبوي هذا العام هو الوعي بضرورات الإصلاح، فالإصلاح نسق فكري ثقافي حضاري تقدم علية الأمم لإنجازه بخطاب وتقنيات ومعطيات قادرة على التفاعل مع الواقع لا القفز على شروطه الموضوعية، وقادرة على فرض طابعها الخاص الذي تتسم به المرحلة أَو يتسم به المستوى الحضاري الحديث.
وهذا الطابع الخاص بدأ بتشكّل ويدل عليه الخطاب الثقافي في مطلق عمومه، وهو ماض في فرض نسقه الفكري والفني، من خلال عدد من المناشط الثقافية، وهو اليوم أكثر تجليًّا في اليمن من خلال المهرجان الثقافي الكبير والمتنوع في شتى الفنون وهو “مهرجان الرسول الأعظم” الذي تزامن مع تظاهرة غير مسبوقة في الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف.
ما يحدث اليوم في عموم الجغرافيا اليمنية هو عملية ثقافية تحفيزية تهدف إلى إكساب المجتمع هُـوِيَّة إيمانية مضافة، وهي تعتمد اعتمادا متزايدا على مختلف الجماعات؛ بهَدفِ الوصول للوحدة المشتركة أَو الإحساس بها، في ظل ما يتعرض له الإسلام من هجوم ومن تشويه متعمد، ويحمل شلال الإيحاء المتدفق من بين حروفها مشروعا نهضويا كَبيراً يصنع من الفكرة الدينية مشروعا سياسيًّا واعيا وقادرا على إحداث التحولات وتحريك عجلتها، وهذا ما تدل عليه رموز وإشارات خطاب السيد العلم قائد الثورة يوم المولد.