عوامل ميدانية جديدة أقفلت الأبواب بوجه واشنطن .. فما هي خياراتها للخروج من المأزق
شهدت الأيام العشرة الأخيرة بعد المئة منذ انطلاقة عملية طوفان الأقصى العديد من المستجدات الميدانية والمواقف السياسية والتسريبات الإعلامية المتعلقة بالعدوان الصهيوني على غزّة وامتداداته الإقليمية والعالمية.
وفي الوقت الذي كان الاشتباك السياسي قائمًا على معادلة يطرحها محور المقاومة بعنوان وحيد “أوقفوا الحرب على غزّة أولًا”، فإن الطرح الأميركي على ما يبدو تمثل بالإصرار على تسوية إقليمية شاملة بعد أن فشلت واشنطن في الأشهر الثلاثة الأولى للحرب في تمرير خياراتها وخيارات “إسرائيل”، كنتيجة طبيعية لفشلهما الميداني وتوسع الصراع إلى ميادين إقليمية جديدة وانعكاس ذلك على مكانة واشنطن ومستقبل وجودها في الإقليم ونفوذها العالمي.
وأمام هذا الانسداد الحاصل بوجه واشنطن و”تل ابيب” في الميدان والسياسة، وفي ظل إدراك واشنطن استحالة الاستمرار بالاشتباك “المتدحرج والمتصاعد والمنتشر”، فقد ظهرت العديد من المؤشرات حول استعداد واشنطن لتقديم حزمة من التنازلات الإقليمية.
وقبل الحديث عن تلك المؤشرات فإنه لا بد من الحديث أولًا عن العوامل الميدانية الجديدة التي أقفلت الأبواب بوجه واشنطن، ومن ثمّ العوامل السياسية التي دفعتها للتفكير بتغيير استراتيجيتها.
في الجانب الميداني؛ يمكن إيجاز مستجدات الوضع الميداني بالعوامل التالية:
• فشل العدوان الأميركي البريطاني على اليمن، وتسببه بارتفاع وتيرة العمليات التي تنفذها البحرية اليمنية وتوسعها لتشمل استهداف السفن العسكرية والتجارية الأميركية والبريطانية.
• فشل سياسة الاغتيالات التي لجأت إليها واشنطن و”تل أبيب” وانعكاس ذلك سلبًا على أمن قوات الاحتلال الاميركي في العراق وسورية، وعلى أمن الكيان الصهيوني.
• إعلان المقاومة العراقية عن استعدادها لتوسيع عملياتها ضدّ القوات الأميركية وإصرارها على إخراجها من العراق وسورية.
• دخول المقاومة العراقية على خط استهداف الكيان الصهيوني بشكل أوسع، حيث شملت عملياتها استهداف موانئ الكيان الصهيوني على البحر المتوسط “حيفا واسدود”، وما يعنيه ذلك من فرض حصار بحري من المتوسط يضاف إلى حصاره من قبل اليمن في البحر الأحمر.
• فشل واشنطن و”تل ابيب” في تحييد جبهة الشمال مع لبنان عن المعركة سواء بالسياسة أو بالتهديد، والعجز عن مواجهة المقاومة في لبنان التي أظهرت ردعًا استتثنائيًا أرعب الكيان الصهيوني.
• أخيرا؛ اليقين بالفشل في معركة غزّة، وارتفاع عدد القتلى من جنود الاحتلال، من خلال المفاجآت التي تحققها المقاومة الفلسطينية والتي نتج عنها ما يقارب 60 قتيلا من الجيش الإسرائيلي خلال خمسة أيام باعتراف “تل ابيب” نفسها.
في الجانب السياسي الإقليمي والدولي:
• فشلت واشنطن في محاولاتها لتفجير العلاقات بين إيران وجيرانها في الإقليم كنتيجة محتملة لسياسة الاغتيالات والتفجيرات التي اتبعتها.
• فشلت واشنطن في تمرير مراوغتها لطرح حل الدولتين سواء عبر تسوية إقليمية دولية أو عبر حلفائها بشكل منفرد ومستقل.
• فشلت واشنطن في محاولاتها لإقناع الصين والهند بالانضمام لتحالفها العسكري في البحر الأحمر، وباتت تخشى من انقلاب دول الجنوب العالمي ضدها.
• فشلت واشنطن في إقناع روسيا بمفاوضات ثنائية على أساس الأمن الاستراتيجي، وأعلن لافروف بأن موسكو ليس لديها ما تناقشه مع واشنطن بعد أن ردت على وثيقتها المتعلقة بهذا الموضوع.
• وجدت واشنطن نفسها تحت الضغط فيما يتعلق بوجودها في العراق بسبب حماقاتها واضطرار الحكومة العراقية لتفعيل ملف خروج القوات الاميركية تحت ضغط الشارع العراقي والمقاومة العراقية.
• يضاف لتلك العوامل العامل الجيوسياسي في ظل تفعيل روسيا والصين والهند وإيران للعديد من الممرات التجارية البرية والبحرية فيما بينها ومع المحيط الاسيوي والأوراسي وهذه الممرات هي “ممر شمال جنوب، والممر الصيني الباكستاني، وممر بحر الشمال، وطريق الحرير”، وكلّ ذلك بالتزامن مع عرقلة أو تجميد الممرات التي تحتاجها الولايات المتحدة واوروبا “ممر البحر الأحمر والممر الهندي الأوروبي، وممر طريق التنمية العراقي”.
في المؤشرات حول استعداد واشنطن للتراجع؛ فإنه يمكن التركيز على أمور عدة:
• الحوار العراقي الأميركي حول خروج قوات التحالف من العراق بغض النظر عن العنوان الذي تجري تحته المباحثات.
• التقارير التي سربها الإعلام الأميركي حول سحب قوات الاحتلال الاميركي من سورية، والذي جرت مناقشته بين اركان إدارة بايدن بحسب معلومات متقاطعة نشرتها مجلة “فورين بوليسي” و”بولتيكو”.
• الإعلان عن لقاء في أوروبا سيجمع مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليم بيرنز مع نظرائه المصري والإسرائيلي إلى جانب رئيس الوزراء القطري لمناقشة موضوع وقف إطلاق النار والأسرى.
• أخيرًا وهو الأهم، صدور قرار محكمة العدل الدولية بالنظر في الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” بتهمة ارتكاب إبادة جماعية.
قرار محكمة العدل الدولية يأمر “إسرائيل” باتّخاذ تدابير منع وقوع أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، وتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزّة، وأعطى “إسرائيل” مهلة شهر لتنفيذ التدابر التي تضمنها قرار المحكمة، ولكنه لم يتضمن قرارًا لوقف إطلاق النار.
بقراءة أولية، يمكن القول إن قرار المحكمة ذو صبغة سياسية أكثر منها قضائية، على الرغم من تغليفه بطابع إنساني، والقرار يفسح المجال لـ”إسرائيل” للنزول عن الشجرة ويعطيها الوقت الكافي لذلك، ويتوافق مع ما حاولت واشنطن تمريره مؤخرًا لتبرئة نفسها وإلصاق التهمة بـ”إسرائيل”، ولاتّخاذ الإجراءات الكفيلة لوقف الحرب وتصفية الحسابات داخل البيت الإسرائيلي تحت سقفه عبر استخدام واشنطن للقرار للضغط على قيادات الكيان الصهيوني، وبالتالي تبقى “إسرائيل” محمية أميركية يجب عليها الدفاع عنها، وبالتالي فإن القرار يمثل مخرجًا سياسيًّا لكل من واشنطن و”تل أبيب”.
لا شكّ بأن محور المقاومة وحلفاءه يدركون حجم المأزق الأميركي، ويعلمون بأن قرار المحكمة جرت صياغته ليكون مخرجًا لواشنطن، لكنّهم يدركون أيضًا بأنهم يستطيعون استغلال مهلة الشهر التي تضمنها القرار لزيادة الضغط على واشنطن وحليفتها “إسرائيل”، وتحويل تلك المدة إلى مزيد من الجحيم المستعر الذي يهدّد وجود الكيان الصهيوني ونفوذ الولايات المتحدة، لذلك فإن على واشنطن أن تكون أكثر التزامًا بتنفيذ شروط محور المقاومة وعدم اللجوء للمراوغة في هذا المهلة القاتلة، وأن تنازلاتها يجب أن تبدأ من وقف العدوان على غزّة وانتهاء بخروج قواتها من سورية والعراق والاعتراف بمعادلات الردع والاشتباك الجديدة التي تشمل الإقليم ككل في اليمن وفلسطين وفي لبنان وسورية والعراق.
لعل واشنطن باتت على يقين بكلّ ذلك، ولعلها باتت أقرب من أي وقت مضى للاعتراف ولو ضمنيًا بهزيمتها، لكنّها بالتأكيد تبحث لنفسها عن مكسب يعوضها عن تلك الهزيمة، وبالنسبة لها فإن هذا المكسب وهو الأهم بنظرها يتمثل بالتطبيع السعودي الإسرائيلي.
وليس من المبالغة القول إن الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط بات عنوانها “القبول بالتنازلات مقابل التطبيع السعودي الإسرائيلي”، وتعتقد واشنطن بأن هذا الملف هو الوحيد القادر على التغطية على الهزيمة التي منيت بها “إسرائيل” وعلى تراجع الهيبة الأميركية في الإقليم.
من الواضح أن تصريحات بايدن المتكرّرة والتي يعتبر فيها بأن طوفان الأقصى كان الهدف منه عرقلة التطبيع السعودي الإسرائيلي ومنع اندماج “إسرائيل” في الإقليم، تهدف إلى تغيير نتائج الطوفان كشرط لوقف العدوان، ولذلك فإن واشنطن لجأت مؤخرًا إلى السير بسياسة المساكنة مع الاشتباك القائم إلى حين تحقيق هذا الهدف.
وبالنسبة للسعودية فالأمر لا يحتاج لعناء وتدل عليه تصريحات المسؤولين السعوديين وجميعها تصب في خانة التطبيع مقابل وقف العدوان ووعود أولية بإقامة دولة فلسطينية.
موقع العهد اللبناني :حيّان نيّوف