عن تحوّلات القوة في اليمن: استراتيجية «الردع» الأميركية تفقد فاعليّتها

لم يعد المشهد الإقليمي يحتمل مقاربات تقليدية في فهم طبيعة الصراعات المستجدّة؛ إذ تشكّلت، منذ عقود، معادلات الردع في المنطقة وفق حسابات القوة العسكرية المباشرة، لكنّ التحولات الأخيرة كشفت عن أنماط جديدة من المواجهة تتجاوز الأطر الكلاسيكية للحروب النظامية. وبات اليمن، الذي كان يُنظر إليه كدولة غارقة في صراع داخلي، اليوم، طرفاً رئيسياً في إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، ليس فقط كامتداد لـ«جبهة المقاومة»، بل كلاعب مستقلّ فرض نفسه كقوة قادرة على تغيير المعادلات، وتحويل الممرات الملاحية إلى ساحة استنزاف استراتيجي.

ولم يكُن إعلان قائد حركة «أنصار الله»، السيد عبد الملك الحوثي، دخول فصل جديد من فصول تفعيل تلك الإمكانات، مجرد تصعيد عابر في حرب متعددة الجبهات، بل محطة تؤسّس لواقع جديد؛ إذ باتت معركة البحر الأحمر امتداداً عضوياً لمعركة غزة، ضمن مسار تصعيدي مدروس يأخذ في الاعتبار قواعد الاشتباك المتغيّرة في المنطقة. لكنّ اللافت أن واشنطن لم تنتظر تنفيذ «أنصار الله» تهديداتها الجديدة، بل سارعت إلى توجيه ضربات استباقية ضد اليمن، في رسالة واضحة بأن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لن تسمح بتحوّل البحر الأحمر إلى ساحة ردع فعّالة تربط بين صنعاء وغزة.

وفي المقابل، لم يكُن التصعيد اليمني، والذي يتركّز على استهداف حاملة الطائرات الأميركية «هاري ترومان» والضرب في عمق الكيان، عشوائياً، بل يأتي ضمن استراتيجية مدروسة، تتخذ من تجربة «حزب الله» نموذجاً، مع فارق جوهري: كيان الاحتلال لا يملك خيار التعامل مع صنعاء كما تعامل مع الجبهة اللبنانية، ولا يمكنه تهديدها بغزو بري، ولا حتى ممارسة ضغوط اقتصادية إضافية على بلد يعيش أصلاً تحت الحصار منذ أكثر من تسع سنوات، لكنه رغم ذلك نجح في بناء قدراته العسكرية في ذروة التصعيد، لا كترف استراتيجي، بل كضرورة وجودية.

ومنذ اللحظة التي بدأ فيها استهداف السفن الإسرائيلية، بدا واضحاً أن صنعاء تدير معركتها وفق تصعيد تدريجي، لا يكشف كل الأوراق دفعة واحدة. وعلى هذه الخلفية، جاءت العمليات الأولى محدودة، لكن نوعيتها تطوّرت سريعاً، وصولاً إلى استهداف سفن أميركية وبريطانية في سياق الرد على العدوان المباشر. وفي هذا السياق، يؤكد الباحث في الشؤون العسكرية، العميد عبد الغني الزبيدي، في حديثه إلى «الأخبار»، أن هناك أسلحة لم تدخل إلى الخدمة بعد ولم يُكشف عنها، مشيراً إلى أن «الخطوط الحمر في المواجهة قد تتغيّر بحسب معطيات الميدان، من مثل حدوث تدخل مباشر للقواعد الأميركية في المنطقة، أو تحرك بريّ للميليشيات على الأراضي اليمنية». ويضيف: «هذا دليل على أن قرار اليمن بدخول هذه المواجهة مبنيٌّ على معرفته بالخيارات المطروحة أمامه على الطاولة وبقدراته العسكرية التي يمتلكها».

تجد واشنطن نفسها أمام معضلة مركّبة: لا القدرة العسكرية كافية لحسم المواجهة، ولا الضغط الاقتصادي قادرٌ على «تركيع» صنعاء

على أن هذه التطورات تأتي بعد أكثر من تسع سنوات من الحرب، لم تكن صنعاء خلالها مُدرجة في الحسابات الإسرائيلية كمصدر تهديد استراتيجي مباشر، بل كانت تل أبيب تتابع الملف اليمني كجزء من المعركة السعودية – الإيرانية، ولم تضعه ضمن دائرة الأولويات الأمنية. لكن مع بدء العمليات العسكرية في البحر الأحمر، تغيّرت المقاربة تماماً، إذ منذ 19 تشرين الثاني عام 2023 – أي استهداف أول سفينة في البحر الأحمر – أصبح اليمن تحت مجهر الاستخبارات الإسرائيلية، التي تحاول دراسة نقاط القوة والضعف في هذه الجبهة المستجدّة، مع فارق أساسي هنا، أن تل أبيب لا تستطيع تطبيق السيناريوات التي استخدمتها ضد لبنان أو إيران، لأن اليمن لا يخضع لأي من الأدوات التقليدية التي تعتمدها إسرائيل في إدارة التهديدات.

وهنا، تبرز الأزمة التي تواجهها الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، واضعاً ملف «تحقيق السلام الإقليمي» ضمن أولوياته، سواء لتلميع صورته داخلياً أو لتعزيز أوراقه الدولية في مواجهة الصين وروسيا. لكنّ التعامل مع «الأزمة اليمنية» يتطلب أدوات مختلفة عن تلك التي استُخدمت في العقود الماضية. فالحصار الاقتصادي، الذي لطالما كان السلاح المفضّل لواشنطن في حروبها غير المباشرة، فقد تأثيره الفعلي أمام طرف نجح في بناء قوته العسكرية وسط الحصار، وليس بفضل اقتصاد ريعي أو مساعدات خارجية. كما أن التهديد بالتصعيد العسكري الشامل لم يعُد خياراً واقعياً، بعدما أثبتت الضربات الأخيرة عجزها عن إحداث تغيير في موازين القوى.

وعليه، تجد واشنطن نفسها أمام معضلة مركّبة: لا القدرة العسكرية كافية لحسم المواجهة، ولا الضغط الاقتصادي قادر على «تركيع» صنعاء، فيما الوقت لا يعمل لصالح الأولى، لأن معادلة «البحر مقابل غزة» باتت واقعاً يفرض نفسه على الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. ويعيد هذا التحول تعريف أسس المواجهة الإقليمية، حيث لم يعد بإمكان القوى الكبرى فرض إرادتها كما في السابق، بل باتت ملزمة بالتعامل مع مراكز قوى جديدة، تتشكّل على قاعدة الاستقلالية العسكرية والسياسية، لا كامتدادات وظيفية لأنظمة حليفة.

وهكذا، ليس ما يجري اليوم في البحر الأحمر، مجردَ معركة تكتيكية، بل هو مؤشر إلى تصدّع منظومة الهيمنة الغربية في الإقليم، حيث لم يعد بإمكان واشنطن وتل أبيب التعامل مع الخصوم وفق قواعد التفوق التقليدي، بعدما دخلت المنطقة مرحلة جديدة، أصبحت فيها المعارك تُحسم على أساس القدرة على الصمود والاستنزاف الطويل الأمد، لا على أساس التفوق التكنولوجي أو الهيمنة الاقتصادية.

وإذا كانت الغارات الأميركية قد كشفت شيئاً، فهو أن التورط العسكري في هذه الجبهة لن يكون مجرد عملية ردع سريعة، بل قد يتحوّل إلى مستنقع استنزاف جديد يفرض على واشنطن إعادة النظر في حساباتها الإقليمية، خصوصاً في ظل ارتباط المواجهة اليمنية بالتصعيد في غزة وبقية ساحات الصراع في المنطقة. وما دام البحر قد تحوّل إلى ساحة اشتباك، فإن استراتيجيته لن تتحدد في مكاتب البنتاغون أو تل أبيب، بل في ميادين القتال التي أثبتت أن الزمن لم يعد يعمل لصالح القوى التقليدية في الشرق الأوسط.

مريم السبلاني

قد يعجبك ايضا