عن أسطورة “ميدي” واستشهاد نجل صديقي
عين الحقيقة/ كتب /محمد عائش
الألم يعتصر قلوبنا معك يا صديقي القاضي عبد الله النعمي، في استشهاد نجلك البطل “زكريا”، لكن حسبك وحسبنا أن زكريا قضى شهيدا في واحدة من أروع ملاحم البطولات الوطنية: وهو يتصدى لزحفِ العدو حتى مات على صدر العدو..
وفي واحدة من أعز جبهات الدفاع عن اليمن: ميدي.
وميدي أسطورة الأساطير في هذه الحرب. دعكم، مؤقتاً، من كل جبهة أخرى، فذروة الذُّرى لما يمكن أن يصل إليه إخفاق طرفٍ محاربٍ، مجهزٍ بأحدث عدة وعتاد؛ بلغتها السعودية في ميدي، وباتت تعيشها يومياً هناك كقضاء وقدر.
ولو كانت أمام المملكة أية فرصة للاقتناع بأن لا جدوى من عدوانها، وأن حربها لم يعد ينقصها من الفشل إلا إعلانه والاعتراف به، لكانت اقتنعت عبر “ميدي” وحدها ومنذ الأشهر الأولى من عمر العدوان.
“ميدي” حيث الصحراء مفتوحةً؛ كراحة الكف، لا يظللها شيء إلا السماء وطائرات العدو، مستويةً؛ كصفحة الماء، لا شيء ينتصب فيها، حجراً أو شجراً، ولو ليوازي منتصف ساق مقاتل.
وعلى استوائها، وانكشافها، فإن الطيران يقصفها شبراً شبراً، إنشاً إنشاً.
ومع ذلك فشل كل زحف له عن إنجاز أي تقدم، منذ بداية العدوان، باستثناء تقدمه أربعة كيلومترات صحراوية وراء الخط الحدودي عند بداية العاصفة وقبل أن تتشكل أمامه جبهة دفاعية هناك.
ومن حينها وحتى اللحظة لم يستطع مبارحة مكانه، رغم آلاف المحاولات.
والفضل في ذلك لثلة من الشباب أنجبتهم أمهاتهم مرةً واحدة، ليختصروا تاريخاً من بأس اليمنيين مرة واحدة، وفي جبهة واحدة.
يغمرون أنفسهم بالرمل، تحت حر الشمس وفوق قيظ الصحراء، كامنين لكل زحف حتى يردوه على أعقابه، وببنادقهم الفردية فقط.
هكذا جرت المعارك دايما وهكذا تجري حتى الآن.
كلام مثل هذا قد يبدو مبالغاً فيه، لكن “ميدي” هي من تبالغ، والمقاتل اليمني هناك هو من يبالغ، بأدائه القتالي المعجز، وبكرامته الوطنية الصلبة.
يمنيون، شباب، أبطال، من أنحاء متفرقة من اليمن، أحدث من سقط منهم شهيدا “زكريا” وقبل عشرة أيام سقط هناك أيضا صديق آخر من أبناء قريتي، هو علي محمد الجرعي، شاب مثله مثل زكريا، عاش كلٌ منهما حياته كملاك، وأنهاها كإنسانٍ يمنيٍ لا ينام على ضيم.
يضحون يومياً، ويألمون كما يألم عدوهم، لكنهم ينجزون أمثولة يمنية وإنسانية ستستعصي يوماً ما على الخيال.
هل تتذكرون مقاطع الفيديو التي كانت تبث لحشود هائلة من آليات الجيش السعودي المتوجهة إلى الحدود اليمنية، كل تلك التحشيدات المرعبة أين ذهبت، وأين اختفت؟؟ وكيف لم نرٓ لها غباراً في المعركة إن لم نرٓ إنجازاً؟!!
لقد تلاشت أمام هذا الاستبسال الذي أحدثكم عنه، وعلى طول النقاط الساخنة في الخط الحدودي، والذروة ميدي، وتاليةً لها حرض.
ميدي، وبمعزل حتى عن الحيثيات الأخلاقية والوطنية، هي معركة لا يمكن أن يُكتب عنها إلا شعراً، ولا غرابة أن يتورط بعض أصحاب الخزعبلات الغيبية فيفسر ما يحدث هناك بأنهم الملائكة، إن كان من الجانب اليمني، أو يقول إنهم الجن والسحر والشعوذة إن كان من قوم العريفي والعودة (وقد قالها هؤلاء الأخيرون وفي كبريات صحفهم ووسائل اعلامهم)!
عليك أن تكون على قدر من العقلانية، حتى تعرف ماذا يمكن للأوطان أن تَخلق من بطولات، وماذا يمكن للقضايا المحقة أن تجترح من معجزات ؛ وإلا فإنك لن تعرف أين تصنف معركة ميدي بالضبط، أو كيف تعبر عن اندهاشك بأداء المدافعين فيها؛ بالتحديد.
رحمك الله يا زكريا ورحم زملائك الشهداء جميعاً