علي السراجي يكتب عن (القشة الكورية والفيل الأمريكي )
كمتابع اجد الصراع الأمريكي مع كوريا الشمالية مفصلي وذو اثر لا يستهان به فهو تجسيد حقيقي لصراع الأقطاب والقوى الدولية الممتد في اعماق التاريخ والذي يتكرر ويطفو الى السطح في منعطفات عالمية تكون موسسه لمراحل وحقب جديده ، فمنذ اللحظة التى اصدر فيها الرئيس الامريكي ترامب الأوامر لأسطوله الحربي ليتحرك باتجاه كوريا الشمالية وهددها بالتدمير بضربة جوية ، اصبح خيار أمريكا الوحيد الانتصار او الهزيمة ولا مجال اخر أمامها ، فان تراجعت تحت اى حجة او مبرر وتحت اي تخريجه سياسية قد تصنعها الصين او روسيا او بريطانيا او غيرها من دول العالم ، تكون أمريكا قد فقدت هيبتها وقوتها وذهبت نحو موت بطي قد يستمر لسنوات ،
قد يقول محلل استراتيجي ذكي ان أمريكا تسطيع الهروب بفتح جبهة حرب جديده في سوريا مثلا او في اليمن او في افريقيا او في اي مكان اخر في العالم ، بالتأكيد ان هذا التوقع منطقي ومخرج للهروب لكن ربما لدوله في غير وضع أمريكا وفي غير حالتها ، فهروب أمريكا لفتح جبهة حرب حتى في المريخ لن يكون إلا مجرد تخدير موضعي لسقوط كلي وانحدار تام بغض النظر عن زمنه ، شخصيا اعتبر هروبها الى اي مكان اخر مجرد إنهاك لها في مستنقعات ذات اثر وبعد ثانوي وفي مصلحة خصومة المتربصين بها والذين يضحكون بقوة بعد نجاحهم في نصب الفخ بأحكام وهم يعلمون ان أمريكا قد اصبحت في خانة الخيارات العدمية كما يقال بالانجليزية “Only One Way” نعم انها طريق واحده ،
ما الذي دفع أمريكا الى تهديد كوريا الشمالية وتحريك أسطولها؟ ان لم تكن قادرًه على الذهاب بعيدا نحو خيارات تحسم المعركة لصالحها او تحقق توازن ، ثم اذا كان الهدف هو الحصول على تسوية مناسبة! فكان بالإمكان التوصل اليها عبر قنواتها السياسية والدبلوماسية ، فقرار ترامب اقل ما يمكن وصفه به بالخطوة القاتلة التى تردد الكثير من الروساء الأمريكيون قبل الأقدام عليها خاصه وان الظروف قد تغيرت وتبدلت فمنطقة شرق اسيا اصبحت قوة عسكرية وسياسية واقتصادية لا يستهان بها ،
فكيف يمكن لقوه عظماء تحكم العالم ان تهرب من مواجهه مصيرية ولا تريد ان تخسر كل شي؟ بالتأكيد انها ستخسر كل حلفاءها الذين سيجدون أنفسهم ضعاف امام خصوم أقوى وهو الامر الذي سيدفعهم الى مراجعة خياراتهم والالتحاق بخصوم أمريكا ، فهل من المعقول ان كوريا الجنوبية ستظل تنتظر ذلك الامريكي الذي اصبح نمرا من ورق؟ ام انها ستذهب نحو المصالحات والتحالف مع عدو الامس ليصبح صديق اليوم بالتأكيد انها ستفعل ذلك ، ولن تكون اليابان التى تجد نفسها محاطة بالقواعد العسكرية الامريكية من كل جانب دون جدوي وفائدة بعيده عن ذلك الخيار ، بالتأكيد ان المعادلة ستتغير كليا ان لم تكن قد تغيرت كليا لمصلحة دول شرق اسيا بدرجة أولى وروسيا بدرجة ثانية ،
ان من يعود الى مراجعة التاريخ سيكتشف كيف ان أمريكا تمكنت من إنهاك خصومها وإسقاطهم ومحاصرتهم ودفعهم الى خانة الانتحار والسقوط باتخاذهم خطوات وقرارات كانت مصيرية وعدميه ، فمن يراجع الصراع الامريكي مع الاتحاد السوفيتي سيجده حالة طبق الأصل للصراع الصيني الامريكي اليوم ، خاصه بعد ان تضخمت الدولة الامريكية سياسيا وعسكريا واقتصاديا واصبحت وحش عجوز لم يعد قادر على تحريك ساكنا الا في بحثه عن خصوم ضعاف وبعيدا عن ارضه واستثمار سمعتة وتاريخية السابق لتحقيق عوائد واموال ، بالتأكيد انه سيكتشف حجم الورطة التى وقعت فيها أمريكا والتى كشفت سوأتها لخصومها وأصدقاءها ،
فالولايات المتحدة الامريكية وجمهورية الصين الشعبية والاتحاد السوفيتي كانوا يخوضون صراعات الهيمنة على العالم ومحاولة تشكيل النظام الجديد ، ففي حين كانت الولايات المتحدة تواجه الثورة الكوبية المواجهه للرأسمالية الامريكية المدعومة من قبل الاتحاد السوفيتي ، كانت ايضا قد سارعت الى خوض حربا مباشرة في فيتنام في حدود الصين لمواجهة التوسع والتمدد الشيوعي والاشتراكي في محيطها ، فأمريكا تدرك ان التهديد الذي يواجهها في منطقة الشرق الأوسط هو تهديد خسارة نفوذ فقط اما التهديد الذي يواجهها من دول شرق اسيا وروسيا هو تهديد مصيري يتعلق بوجودها ككيان مستقل ونظام دولي لاعب رئيسي في صناعة خريطة العالم السياسية ، ولهذا كانت الاستراتيجية الامريكية تتمثل بهزيمة التحالف الأشتراكي الشيوعي في عمقه الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وومحاصرته وهزيمته في محيطة الإقليمي وامتداده الجغرافي والديمغرافي والأيدولوجي ،
وبتكرار الأحداث وجدت أمريكا نفسها اليوم امام معادلة جديدة تتمثل بفقدانها نفوذها وتهديد أمنها القومي مباشرة من قبل التحالفات الجديدة التى تشكلت في العالم ، فالصعود والتوسع الصيني الروسي في منطقة الشرق الأوسط خاصه بعد عودة روسيا الى تشكلها القديم وسعيها الى استعادة اجزاء إمبراطورياتها المتناثرة وما ازمة القرم وأوكرانيا وجورجيا الا خير دليل على ذلك ، وكذلك بروز الصين كقوة اقتصادية وعسكرية كبرى في العالم منافسة للسياسات والتوجهات الاقتصادية والعسكرية الامريكية وتحالفها الاروبي والآسيوي كاليابان وكوريا الجنوبية وغيرها ، ناهيك عن نمو كوريا الشمالية الخصم للدود للرأسمالية الامريكية والنظام الأشتراكي الوحيد الذي نجا من ضربات الرأسمالية الامريكية التى أسقطت كل الانظمة وأضعفتها منذ خمسينات القرن الماضي ، وكلها كانت ولازالت مؤشرات على مقدار التراجع الامريكي على كافة الاصعدة والمستويات ،
اخيراً يمكن القول او الجزم ان كل المتغيرات والعوامل التى شكلت معادلة الصِّراع اليوم قد أنتجت حالة تختلف كليا عن الوضع قبل اكثر من خمسين سنة ، وهنا يكمن التحدي فالعالم يواجه خياراته بما يمتلك من قدرات ومقابل تطورها تطور الصراع وتنوع ، فالمعادلة العسكرية التى كانت تعتمد على مبدأ التفوق وتوازن الردع والرعب قد تشكلت لكنها اثبتت فشلها فرغم التفوق النتيجة واحده والسقوط حتمي والدخول في مربع الاستنزاف لا مناص منه ،