عاشوراء …مشعل متوهج
منذ أربعة عشر قرناً من الزمن تقريباً، ونحن نحيي ذكرى عاشوراء في حياتنا، حتى تحوّلت إلى عادةٍ متأصّلة متجذّرةٍ في وجداننا الديني؛ ينشأ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير.
وما زالت تتنامى وتتَّسع وتمتدّ في كلّ ساحةٍ يتحرّك فيها الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين سعوا على إبقاء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) ومأساة كربلاء حيّة في قلوب المؤمنين، وفي كلِّ زمان ومكان لإدامة زخم الثورة الحسينية؛ لتحقيق هدفها في الإصلاح والتغيير، فجاء في كثير من الروايات التأكيد على الجانب المأساوي في حادثة عاشوراء.
إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه الدماء وهُتكت فيه الحرمات، وسُبي فيه الذراري والنساء، وأُضرمت النيران في المضارب، ولم تُرعَ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا».
ومن المعطيات المهمّة التي أفرزتها واقعة عاشوراء، وكان لها أثر مهم في إيقاظ الأُمّة واستنهاضها هو ما حصل من شعور كبير بالتقصير والندم لدى شرائح واسعة من الأُمّة الإسلامية، لا من جهة واقع عاشوراء المأساوي وما حصل من مصائب وآلام، لكن من جهة أنّ الأُمّة أحسّت بأنّها ارتكبت خطأً جسيماً وذنباً لا يُغتفر بترك الإمام الحسين (عليه السلام) وحيداً في مواجهة أعدائه من دون أن تُقدِّم له العون والنصرة ومقاتلة خصومه وظالميه.
لقد تميّزت النهضة الحسينية المباركة بقائدها الكبير وأهدافها ودوافعها الرسالية المتنوّعة، فحملت بذلك كلِّ مقومات العظمة والكبرياء، وكان لها تأثيرها البالغ في هداية المجتمع الإسلامي، وإيصاله إلى أهدافه الحقيقية التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية والعقل السليم.
وفي هذا الضوء ينبغي أن تُقرأ هذه النهضة العظيمة قراءة واعية، وتُدرس دراسة جادّة؛ كي يُمكن الاستفادة منها بالشكل الصحيح والمطلوب. ومن الضروري في هذا المجال الالتفات إلى جملة من الأُمور، أهمّها:
ـ أن تُلاحظ واقعة عاشوراء بما هي مقطع تاريخي ضمن سلسلة حوادث مترابطة يتأثر بعضها ببعض، ويكشف بعضها عن أسرار بعضها الآخر.
ـ أن يُنظر إلى واقعة عاشوراء بنظرة شمولية، فلا تُلاحظ الجنبة العسكرية بمعزل عن المعطيات الفكرية والثقافية، أو الأخلاقية والفقهية، وهكذا.
ـ أن تُلاحظ كيفية إدارة الإمام الحسين (عليه السلام) لواقعة عاشوراء من بداية الانطلاق وحتى الاستشهاد، كحادثة واحدة ممتدة في عمود الزمان.
ـ أن تُدرس أحوال المجتمع الإسلامي قبل واقعة كربلاء، بشكل دقيق، وتُلاحَظ الظروف المؤثّرة آنذاك، والتي انبثقت في قلبها تلك الواقعة العظيمة والأليمة.
هكذا يقف الإنسان الذي يحمل قيماً، ولكن حينما يكون المجتمع خاوياً ومجرّداً من القيم، وحينما تضعف هذه المبادئ الأساسية بين أفراد المجتمع، ترتعد الفرائص عند ذلك، وأكثر ما يستطيع المرء عمله في مثل هذا الموقف هو أنّه يستمهلهم ليلة واحدة للتفكير في الأمر. وحتى لو فكّر سنة كاملة لوصل إلى نفس النتيجة، ولاتّخذ نفس القرار؛ إذ لا قيمة لمثل هذا النمط من التفكير. فلابدّ من اليقظة والحذر في كلِّ وقت، وقراءة التاريخ والحاضر قراءة واعية ومدروسة؛ حتى لا تتكرر المأساة.
الأهداف النبيلة لنهضة عاشوراء
إنّ عاشوراء بعد أن غيّرت الرأي العام، وكان لها الأثر البالغ على الساحة الإسلامية، قد تدلّت أغصانها وأينعت ثمارها. كانت كربلاء الرافد الأعظم في دعم المسيرة الإسلامية على المستوى الإسلامي العام. إنّ هذه النهضة المباركة دعمت مبادئ الإسلام وقِيَمه وثبتتها، وجعلت مشعل الهداية الإلهيّة متوهجاً ومُشِعّاً في الأرض، وعلى مدى الدهور والأعصار، وكذلك حافظت على مظاهر الدِّين الإسلامي وشعاراته ولافتاته، وكانت المانع القوي والدرع الحصين في وجه سياسة الشيطان، التي كان يؤدِّيها بنو أُميّة لضرب المبادئ الإسلامية والمظاهر الدينية، للقضاء على آخر سُبل الهداية الإلهيّة: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (التوبة: 32). فكان الإسلام محمّدي الوجود حسيني البقاء، وتجلّت – بوضوح – مقولة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: «حسين منّي وأنا من حسين».
كانت من أهمُّ أهداف نهضة عاشوراء، التالي:
– إعلاء كلمة الله تعالى: حيث كان الهدف النهائي من هذه النهضة المباركة هو إعلاء كلمة الله تعالى، وإيجاد الآليات والضمانات التي تساعد في الحفاظ عليها، قال الإمام الحسين عليه السلام: «وأنا أولى مَن قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا»، استناداً إلى قوله تعالى: «وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا» (التوبة: 40).
– نصرة الدِّين وإعزاز شريعة الله تعالى: إنّ هذا الهدف من أهم الأهداف في الإسلام ومن الأُسس التي تستحق أن يُبذل من أجلها الغالي والنفيس، بل حريّ بالمرء أن يبذل مهجته من أجل ذلك، وهذا الهدف السامي قد صرَّح به الإمام عليه السلام، وبيَّن أنّه مأخوذ بنظر الاعتبار في نهضته المباركة من خلال كلامه عليه السلام: «وأنا أولى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله». فإنّ المنطلقات التي بيّنها الإمام الحسين عليه السلام في كلمته هذه – والتي تبيّن أحد أهمّ منطلقات ثورة الإصلاح – مرتكزة إلى آيات قرآنية متعدّدة، بل إنّ روح القرآن الكريم بشكل كلّي، تدعو إلى نصرة دين الله وإعزازه. قال تعالى: «حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» (الأنفال: 72)، وقوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» (الأنفال: 39).
نعم، لقد نصر الإمام الحسين عليه السلام دين الله سبحانه، كما نصر الله تعالى نهضة الإمام الحسين عليه السلام، فقد انتصر دم الإمام الحسين عليه السلام على سيف الظالمين، كما تحقّق هدفه في عزّة دين الإسلام، فقد استمر هذا الدِّين الحنيف بفضل تلك الدماء الزاكيات، فبعد أربعة عشر قرناً، لا تزال نهضة عاشوراء حيّة، ولا تزال قدوة لكلّ أهل العالم. وأمّا أعداء الإمام الحسين عليه السلام، فقد اندحروا واندثروا في غياهب الزمن.
– طلب الإصلاح: كان أحد أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام هو إصلاح الأُمّة الإسلامية، في كل الأبعاد الفردية والاجتماعية والعقائدية والسياسية والاقتصادية. يقول الإمام الحسين عليه السلام: «إنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي؛ أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب».
ويُعتبر طلب الإصلاح أحد أهمّ أهداف الأنبياء عليهم السلام، والتي بُيِّنت في القرآن الكريم بشكل واضح، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان النبي شعيب عليه السلام: «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» (هود: 88). وقال تعالى: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» (النِّساء: 114).
القبس