صنعاء تلاحق الانسحاب الإماراتي
أخرجت صنعاء رؤيتها للتحول الإماراتي في اليمن إلى العلن. «التريث» لدى حركة «أنصار الله» اليمنية وحلفائها، عقب إعلان أبوظبي «شبه الانسحاب»، كان يقود إلى توجس يمني من أن «المناورة» الإماراتية إذا ما كانت احتماء بالتحولات الإقليمية فإنها لن تكون كافية لتجاوب أكبر، وبالتالي إما أن يترجم الأمر خروجاً جدياً وتفكيكاً لمنظومة «الاحتلال» في اليمن، أو استكمالاً للعمليات لفرض مزيد من التراجع الإماراتي. العملية النوعية التي نفذت أمس في عدن تترجم موقفاً صلباً لدى صنعاء، ورسالة حازمة بأن أي خداع إماراتي من خلال تعزيز حضور الميليشيات التابعة لأبو ظبي لتغذية الحرب وإدارة النفوذ من الخلف لن يُغضّ عنه الطرف. والرسالة تعقب إظهار الإماراتيين مساعي لتزخيم الاعتماد على القوى المحلية، تحديداً في الجنوب، بغية تهيئتها لما بعد الانسحاب، عبر استحداث معسكرات تدريب وزيادة عدد عناصر الميليشيات التي استدعت قادة لهم في الآونة الأخيرة إلى أبوظبي لتنفيذ هذا البرنامج.
وفي تفاصيل ما جرى أمس، نفذت القوات اليمنية عملية مشتركة للقوتين الجوية والصاروخية، استخدمت فيها طائرة «قاصف K 2» وصاروخاً بالستياً متوسط المدى (تحفظ المتحدث باسم القوات اليمنية، يحيى سريع، عن الكشف عن طبيعته)، مستهدفة قاعدة «الجلاء» في البريقة في عدن، حيث كان يقام عرض عسكري وحفل تخريج دفعة تابعة لـ«لواء الدعم والإسناد»، وأخرى تابعة لـ«لواء الصاعقة الحادي عشر»، وهما قوتان تتبعان ميليشيا «الحزام الأمني» الإماراتية الإمرة والتمويل. وأسفرت نتائج العملية عن مقتل 36 من القادة والعناصر العسكريين المتواجدين وجرح آخرين، أبرزهم القيادي منير اليافعي (الملقّب بـ«أبو اليمامة») وهو ضمن دائرة صغيرة من الشخصيات التي يعتمد عليها النفوذ الإماراتي، وتحظى بصلة مباشرة بأبو ظبي. «أبو اليمامة» كان قائد أبرز الألوية في ميليشيا «الحزام الأمني» المتخصصة بفرض النفوذ على الأرض ومواجهة قوات الرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، أكثر من تخصصها في جبهات الحرب والقتال، واشتُهر بتنفيذه العمليات القذرة لصالح الإماراتيين والإشراف على سجون التعذيب والإخفاء القسري ذائعة الصيت (يشرف على سجن سري في قاعدة «الجلاء» المستهدفة نفسها).
من شأن الضربة النوعية في قاعدة «الجلاء»، وسقوط هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى العسكريين، أن يضعفا من معنويات القوى المحلية المتعاونة مع التحالف السعودي الإماراتي، لا سيما أنها المرة الثانية التي تتعرض فيها تلك القوى لضربة موجعة خلال أشهر قليلة. إذ كانت الضربة الأولى منتصف الشهر الأول من العام الجاري في قاعدة «العند» في محافظة لحج، وباستخدام أسلوب مشابه (طائرة مسيرة)، وقد قتل فيها قائد العمليات العسكرية وقائد الاستخبارات العسكرية وعدد آخر من كبار الضباط في ما يسمى «جيش الشرعية» أثناء تواجدهم في عرض عسكري.
ضربة البريقة تكشف مرة أخرى خللاً بنيوياً في المنظومة العسكرية والاستخبارية التابعة لـ«التحالف»، جراء الاختراق العميق والرفيع المستوى الذي حصل للقوى المحسوبة على الإمارات، كما حصل سابقاً في اختراق «جيش الشرعية» في «العند» على المستوى الأمني، ما يدلّل على أن جناحَي «التحالف»، السعودي والإماراتي، ليسا بمنأى عن الاختراق من قِبَل الاستخبارات في صنعاء. إذ لم تقدم «أنصار الله» على الاستهداف إلا بناءً على معلومات استخباراتية دقيقة، ترصد تحركات قيادات «الحزام الأمني» وموعد حضورهم الحفل العسكري، وهو ما يمثل اختراقاً كبيراً، ليس للقوى المحلية اليمنية فحسب، بل كذلك لقوات «التحالف» التي تتواجد في أهم المعسكرات في عدن، ومنها مقر القيادة العامة للقوات الإماراتية في البريقة (لا تبعد سوى بضعة كيلومترات قليلة عن قاعدة الجلاء، وهي المسؤول الأول عن حمايتها جواً من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة). تجدر الإشارة إلى أن الاختراق المذكور يعتمد بالدرجة الأولى على العنصر البشري، بالإضافة إلى مصادر أخرى لا تقل أهمية.
نجاح عملية «الجلاء» يثبت من جديد الفشل في حماية القواعد العسكرية التابعة للقوى المحلية العاملة تحت راية «التحالف»، وأن تلك القواعد ليست مشمولة بمنظومة دفاع جوي ملائمة لمثل هكذا تهديدات على المستوى العسكري، علماً أن القواعد العسكرية التابعة لـ«التحالف» مُزوّدة بمنظومة «باتريوت»، وتخضع لإجراءات أمنية وعسكرية مشددة، ويُحظر دخولها حتى على القادة العسكريين في «الشرعية» والفصائل الموالية للامارات إلا بشكل محدود، وبعد الخضوع لتفتيش دقيق ومهين. مع ذلك، وعلى الرغم من أن العملية ليست الأولى من نوعها، فإن أسئلة سرت في الشارع اليمني حول توقيت مقتل أحد «الصناديق السوداء» للإمارات، وعدم مشاركة الضباط الإماراتيين في الاحتفال أو تفعيل منظومة الدفاع الجوي، وهي أسئلة تكررت مثيلات لها في أحداث أخرى، ودافعها الأكبر التخبط وعدم ثقة القوى المحلية بـ«التحالف». وعلى إثر الهجوم، بدأت عناصر «الحزام الأمني» عمليات ملاحقة انتقامية من السكان المتحدّرين من المحافظات الشمالية، كما حاولت إغلاق الطرق المؤدية إلى تلك المحافظات، وسط حالة تخبط وغضب.
وتأتي ضربة معسكر «الجلاء» في مسار تراكمي، وتدشيناً لـ«المرحلة الثانية من عام الحسم» الذي أعلنته القيادة اليمنية، وكذلك بالتزامن مع استهداف منشأة عسكرية في الدمام شرقي السعودية. وهي مرحلة تفيد بأن صنعاء باتت تهدد فرص «التحالف» في إنشاء مشاريع وكيانات مناطقية وجغرافية ومذهبية تخدم الأجندات الخارجية على حساب وحدة الأراضي اليمنية. كما يأتي الاستهداف بالاستفادة من الظرف الإقليمي الذي توفر بعد التراجع الأميركي عن التهديدات العسكرية، والتواصل السياسي الحاصل بين كل من إيران والإمارات، والذي أكد من دون شك على تراجع دور أبو ظبي في اليمن من الطليعة والتصدي المباشر إلى الجلوس على المقعد الخلفي.