صنعاءُ ترُدُّ على واشنطن: السلامُ لا يُبنى على “تصريحات”
في إطارِ مسارِ المناورة السياسية الذي تسلكُه الولاياتُ المتحدةُ للالتفاف على شروط ومتطلبات السلام الفعلي في اليمن، دفع البيتُ الأبيض، أمس الأول، بمبعوثه الخاص إلى اليمن، للحديثِ عن “اعتراف” واشنطن بشرعية سلطةِ صنعاء ومكاسبها على الواقع، في لهجة بدت وكأنها جديدةٌ، وكان بالإمْكَان اعتبارها “مؤشرًا” جيِّدًا، لكنها على ميزان “الجدية” لم تختلفْ عن الكثيرِ من التصريحات السابقة، التي تحدث فيها البيت الأبيض عن “إنهاء الحرب”، من حَيثُ افتقارِها للسلوك العملي الذي يصادق عليها، ومع ذلك فقد مثّل الحديثُ الأمريكي عن “الواقع” دليلًا واضحًا على فشل مهمة العدوان على اليمن، وفشل كُـلِّ الضغوط التي مورست ضد صنعاء وقيادتها، بمقابل نجاح خيارات الردع اليمنية التي ألجأت العدوَّ إلى “تعديل منطقه”، وبشكل يؤكّـد أنها قادرةٌ أَيْـضاً على دفعه نحو تعديل سلوكه.
لا تغييرَ حقيقيًّا في الموقف الأمريكي
تصريحاتُ المبعوث الأمريكي، تيم ليندركينغ، جاءت خلال ندوة شارك فيها عبر الانترنت، وقال فيها: إن الولايات المتحدة “تعترف” بأنصار الله “كلاعبٍ شرعي وكمجموعة حصلت على مكاسبَ مهمة، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يلغيَهم أَو يزيحَهم من إطار الصراع”. وأضاف: “دعونا نتعامل مع الوقائع الموجودة على الأرض”.
جاء ذلك ضمن كلام طويل ردّد فيه ليندركينغ نفسَ الدعايات المرتبطة بالتصور الأمريكي المغلوطة للواقع، لكن هذه الجزئية أثارت الانتباه؛ لأَنَّ البعض اعتبرها “تغيُّراً” إيجابياً في موقف الولايات المتحدة تجاه صنعاء، ولكن كان لا بد من تمرير هذا التصريح أولاً على عدة موازين لقياس قيمته الفعلية، خُصُوصاً وأنه صادرٌ عن الجهة التي تسقط تصريحاتها “الإيجابية” دائماً في اختبار الجدية.
في هذا السياق، وبعيدًا عن المبالغات والتكهنات، فَـإنَّ كُـلَّ ما عبّر عنه كلام ليندركينغ هو إدراكُ الولايات المتحدة لاستحالة تجاوز المعادلات التي فرضتها صنعاء على الواقع، عسكريًّا وسياسيًّا وجماهيريًّا، ولكن هذا ليس جديدًا، فالبيتُ الأبيضُ يدركُ ذلك منذ مدة، وتوجُّـهُه نحو المشاورات وإن كان لغرض المناورة، يعكسُ هذا الإدراك بوضوح، لكن ذلك لم يكن كافياً طيلةَ الفترة الماضية لإثبات أي “تغيير” حقيقي في الموقف الأمريكي “العدائي” تجاه صنعاء.
وحقيقة أن الولايات المتحدة لا زالت إلى الآن مُصرةً على سلوك المراوغة والابتزاز بالملف الإنساني، ومتوجّـهة بوضوح نحو تكثيف “الضغوط” على صنعاء، تجعلُ كلامَ “المبعوث” خالياً من أي معنى يمكن أن يشير إلى تغيير في الموقف.
لذا، من الزاوية المتعلقة بالموقف الأمريكي من استمرار العدوان والحصار، كانت قيمة كلام ليندركينغ صفراً، بل ربما تكون قيمة سالبة إذَا ما نُظر إليها كمحاولة جديدة للتضليل الإعلامي وتسجيل نقطة وهمية في رصيد ما تسميه الإدارة الأمريكية “جهود السلام”، وهذه نظرة واقعية خُصُوصاً وأن ليندركينغ قدّم هذا “الاعتراف” في سياق حديثه عن ما أسماه “تشجيع الحوثيين” للموافقة على “التسوية السياسية” التي لا تعني في قاموسه حتى الآن سوى مقايضة المِلف الإنساني بمكاسبَ عسكرية وسياسية.
ومن هذه الجهة، كان لصنعاء رد واضح على لسان عضو المكتب السياسي لأنصار الله، محمد البخيتي، الذي قال: “لم نسعَ يوماً لنيل شرعيتنا من أمريكا وإنما لاستعادة سيادة واستقلال اليمن وتحرير كُـلّ شبر من أرضه، وقد قدمنا الكثير من التضحيات وصمدنا صموداً لم يسبق له في التاريخ مثيل، والمطلوب من دول العدوان وعلى رأسها أمريكا وقف عدوانها ورفع حصارها وسحب قواتها واحترام إرادَة الشعب اليمني”.
اعترافٌ بفاعلية خيار الصمود والردع
من جهة أُخرى، كان لا بد من النظر إلى كلام ليندركينغ كتعبير عن “الحالة” التي تعيشُها الولاياتُ المتحدة وتحالُفُ العدوان في ظل استمرار المواجهة، ومن هذه الزاوية يمثل كلام المبعوث الأمريكي إقرارًا واضحًا بالفشل في تحقيق الأهداف الرئيسية للعدوان على اليمن، ويتضمن ذلك فشل كُـلّ أساليب الضغط التي استخدمها الأمريكيون وأدواتهم لإخضاع البلد والسيطرة عليه تحت غطاء “شرعية” لا علاقةَ لها بالشعب ولا بمصالحه وإرادته.
المبعوث الأمريكي عبّر بوضوح عن أن صمودَ صنعاء وقوتها الرادعة المتعاظمة، أجبر الولايات المتحدة على اللجوء إلى تعديل “المنطق” وارتداء أقنعة “ناعمة” للخداع والمناورة؛ لتعويض الفشل الذريع على الواقع، وبالتالي فهو يقر بأن خيار الصمود والقوة فعال جِـدًّا، وأنه يمكن لو تصاعدت وتيرته أن يؤدي إلى ما هو أكثر من مُجَـرّد تعديل المنطق.
وفي هذا السياق، علّق عضو المجلس السياسي الأعلى، محمد علي الحوثي، على كلام المبعوث الأمريكي، قائلاً إن “اليمن اليوم بفضل الله انتصر بصموده وقوته في الدفاع عن نفسه فحقّق بها شرعيته واستقلاله وعلى المجتمع الدولي أن يحترم التعامل معه بندية بعيدًا عن الإملاءات بالقوة والابتزاز بالتجويع لمصادرة حقه في الإيقاف الفوري للعدوان والحصار، وفرض التدخل في شئونه السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها”.
ومن موقف القوة هذا أَيْـضاً، علّق نائبُ وزير الخارجية بحكومة الإنقاذ، حسين العزي، قائلاً إن: “الخطاب الواقعي دائماً مهم ومطلوب وكل تعديل إيجابي في مواقف الدول تجاه صنعاء سيكون لا شك محل ترحيبنا، (لكن) على صعيد السلام سيبقى من المهم للغاية الدفع نحو خطوات عملية وملموسة الأثر تلبي بشكل فعال استحقاقات شعبنا ومطالبه العادلة؛ باعتبَار ذلك السبيل الوحيد والأمثل لبناء الثقة ومعالجة المخاوف”.
إجمالاً، بدت صنعاءُ، كالعادة، عصيةً على “الخداع” أَو الانجرار إلى مربع المناورات، وفي مجموع ردودها على تصريحات المبعوث الأمريكي، كانت حريصة على تثبيت حقيقة رئيسية هامة، هي أن الميدان العملي هو الميدان الوحيد لقياس المواقف، وأنه بدون إيقاف العدوان ورفع الحصار والكف عن استخدام الملف الإنساني كورقة ابتزاز، سيبقى أي تصريح للعدو، مهما بدا “إيجابياً”، بلا معنى، وفي أحسن الأحوال، مُجَـرّد اعتراف بالفشل وبصوابية موقف صنعاء، لكنه لا يكفي لبناء “ثقة” أَو توفير أرضية للسلام.
صحيفة المسيرة