صنعاءُ تتجاوزُ تقديراتِ واشنطن وتبدأُ الردَّ من مستوى متقدم..ورطةُ أمريكا في اليمن
– السفن التجارية الأمريكية تتلقى توجيهات بتجنب البحر الأحمر
– عملية استهداف السفينة الأمريكية تجسد تحذير قائد الثورة وتضع إدارة بايدن في مأزق حقيقي
– الظرف الزمني والمكاني للضربة بعثر كُـلّ الحسابات والخطط العملياتية للعدو
في ديسمبر الماضي، وصف قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، أي اعتداء أمريكي على اليمن، ولو بضربات محدودة، بأنه سيكون “ورطة حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة” للولايات المتحدة، وبعد أقل من شهر من هذا التحذير الذي اختارت واشنطن تجاهله، في خطأ تقليدي فاضح، استهدفت صواريخ القوات المسلحة اليمنية سفينة أمريكية في خليج عدن، في ضربة تاريخية غير مسبوقة ترسخ من حَيثُ ظرفها الزمني والمكاني وما تضمنته من أبعاد ودلالات، معادلة استراتيجية أكبر وأوسع بكثير من “صورة الردع” التي أراد البيت الأبيض رسمها من خلال الاعتداء على اليمن، ففي الوقت الذي حاول فيه الأمريكيون نقل المواجهة إلى داخل الأراضي اليمنية، فوجئوا وبضربة واحدة بأن وجودهم في البحرين الأحمر والعربي أصبح في قلب ميدان مواجهة غير مألوفة كُـلّ ضربة فيها لها تأثيرات استراتيجية مزلزلة عليهم، وكلّ ما لديهم من حسابات تصعيد تقليدية لا تكفي لمواجهة تلك التأثيرات، ليجدوا أنفسهم أمام تجسيد دقيق للتحذير الذي اختاروا تجاهله.
لم تحدّد القوات المسلحة في بيانها، يوم الاثنين، نوع السفينة الأمريكية المستهدفة في خليج عدن، فيما قال الجيش الأمريكي إنها كانت سفينة حاويات، لكن على أية حال فَــإنَّ تحذيراتِ قائد الثورة في الـ20 من ديسمبر الماضي كانت واضحة وصريحة بأن أي اعتداء أمريكي على اليمن سيجعل البوارج والمصالح والملاحة الأمريكية هدفاً مباشراً للعمليات العسكرية اليمنية، وقد مثل استهداف السفينة الأمريكية تدشيناً واضحًا لهذه المعادلة التي يبدو بوضوح أن البيت الأبيض لم يدرس احتمالاتها جيِّدًا من قبل؛ بسَببِ اعتماده على تقديرات خاطئة للموقف اليمني، لكنه اليوم سيضطر بلا شك إلى ذلك، وسيجد أنه “تورط” بالفعل في مواجهة غير عادية.
وخلافاً للعملية السابقة التي أعلنت فيها القوات المسلحة عن استهداف سفينة أمريكية كانت تقدم الدعم للكيان الصهيوني، فَــإنَّ الضربة الأخيرة وجهت رسالة صريحة بأن مُجَـرّد كون السفينة أمريكيةً بات كافياً لاستهدافها بغض النظر عن وجهتها وعملها، وهو تطور كبير تتحمل مسؤوليته إدارة بايدن التي أصرت أن تهاجم اليمن نيابة عن الكيان الصهيوني وتجاهلت التحذيرات المسبقة الصريحة التي حدّدت تداعيات هذا الخيار العدواني.
وبحسب المعلومات فَــإنَّ الإدارة الأمريكية للتنبيهات البحرية، قد طلبت من السفن التجارية الأمريكية عدم المرور بالقرب من البحر الأحمر حتى إشعار آخر، عقب الهجوم اليمني الأخير؛ وهو ما يمثل بداية تأثير واسع على الملاحة الأمريكية، وعلى التواجد الأمريكي بكله في المنطقة؛ لأَنَّ بيان القوات المسلحة قد حدّد بوضوح أن كافة السفن والقطع الحربية الأمريكية أصبحت أهدافاً مشروعة، الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة أصبحت تواجه مشكلة شبيهة بتلك التي يواجهها الكيان الصهيوني والتي كانت تداعياتها المزلزلة والكبيرة على العدوّ هي من واشنطن في الأَسَاس إلى ارتكاب حماقة الاعتداء على اليمن.
لقد أثارت الهجمات العدوانية على اليمن فجر يوم الجمعة، انتقادات واسعة داخل الولايات المتحدة وتحذيرات من قيام إدارة بايدن بجر البلاد إلى حرب لا أفق لها في الشرق الأوسط، الذي بات يشهد بالفعل غلياناً يهدّد الوجود الأمريكي في المنطقة بكلها، أما بدء تأثر حركة الملاحة الأمريكية، وتحول القطع الحربية للولايات المتحدة إلى أهداف عسكرية معلَنة لليمن؛ فهو دليل على أن الولايات المتحدة قد انجرَّت بالفعل إلى هذه الحرب، وَإذَا كانت أول مفاعيل هذه الحرب هو استهداف السفن والقطع البحرية الأمريكية (وهي معادلة متقدمة جِـدًّا للبدء بها)، فهذا يعني أنها حرب لا تستطيع الولايات المتحدة كسبها، بل يعني أن الخسائر الأمريكية فيها ستكون تاريخية وكبيرة بالصورة التي ينتج عنها تغيير كبير في موازين القوى بالمنطقة والعالم.. إنها فعلاً “ورطة” بكل ما تعنيه الكلمة.
وقد حرصت القوات المسلحة على أن تجعل عملية استهداف السفينة الأمريكية استثنائية في كُـلّ تفاصيلها، وبالشكل الذي يوصل إلى الولايات المتحدة رسائل “الورطة” التي وقعت فيها على كُـلّ المستويات، فالظرف الزمني للعملية جاء بعد ثلاثة أَيَّـام شهدت ضربات عدوانية شنها جيش العدوّ الأمريكي على عدة مناطق في اليمن وزعم من خلالها أنه استطاع الحد من جزء كبير من قدرة اليمن على شن هجمات مستقبلية، وبالتالي فقد كان توقيت العملية رسالة واضحة بأن خطة الهجوم على اليمن بأكملها كانت إخفاقاً ذريعاً، ليس لأَنَّها لم تنجح في التأثير على القدرات اليمنية فقط، بل وَأَيْـضاً؛ لأَنَّها سببت تداعيات عكسية أكبر بكثير.
مسرح العملية عزز هذه الرسالة أَيْـضاً وبشكل مهين للولايات المتحدة التي حرصت على استهداف محافظة الحديدة في هجماتها العدوانية؛ بهَدفِ الحد من قدرات القوات البحرية اليمنية على شن هجمات في البحر الأحمر، لتتفاجأ بشكل صاعق بهجوم في خليج عدن؛ وهو ما يعني أن التقديرات الأمريكية كانت خاطئة بشكل فاضح، وأن القوات المسلحة تستطيع استهداف أية نقطة في البحر من أية نقطة في الجغرافيا البرية اليمنية، وهو ما كانت قد أعلنته القيادة اليمنية حرفياً قبل وقت طويل، لكن الولايات المتحدة اختارت تجاهله كالعادة، وكانت النتيجة أن البوارج الأمريكية لم تستطع مساعدة السفينة المستهدفة -بحسب تصريحات مسؤولين أمريكيين- وهو ما يعني أن الهجوم لم يكن في الحسبان أصلاً.
وإلى جانب الرسائل الزمنية والمكانية، فَــإنَّ استهداف السفينة بشكل ناجح لم يستطع حتى الجيش الأمريكي إنكاره، يمثل صفعة قوية تسقط كُـلّ العناوين التي نسجها الأمريكيون حول تحَرّكهم العدواني ضد اليمن، وعلى رأسها عنوان “تأمين” مرور السفن الدولية، فالضربة اليمنية كشفت بوضوح أن الولايات المتحدة عاجزة حتى عن تأمين سفنها، وأن أمن الملاحة أصلاً لا يتحقّق بالبلطجة وعسكرة البحر.
ولا يخفى أن استهداف السفينة الأمريكية قد أثبت للعالم مرة أُخرى أن المشكلة في البحر الأحمر لا تتعلق بالملاحة الدولية، بل هي مشكلة الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” اللتين تريدان مواصلة إبادة الشعب الفلسطيني بدون أي إزعاج، فالقوات المسلحة لم تهاجم السفن الأمريكية قبل الاعتداء على الأراضي اليمنية برغم انخراط واشنطن الكامل في جريمة الإبادة بقطاع غزة، وما تمثله العملية الأخيرة من تطور جديد في ساحة المواجهة البحرية يثبت أن صنعاء لا تستخدم قوتها في البحر الأحمر بصورة عشوائية كما تروج الولايات المتحدة، بل وفق ضوابط واضحة تضمن ألا يتأثر بهذه القوة سوى الكيان الصهيوني ومن يختار التورط معه.
وبالإضافة إلى كُـلّ ما سبق، فَــإنَّ تدشين استهداف السفن الأمريكية ليس المشكلة الكبرى الوحيدة التي اصطدمت بها واشنطن، حَيثُ حرصت القوات المسلحة اليمنية في بيانها العسكري على تأكيد حتمية الرد على العدوان الأمريكي البريطاني، وهو ما يحمل رسالة واضحة بأن المواجهة مفتوحة على كُـلّ الاحتمالات والخيارات، وأن استهداف السفن والتأثير على الملاحة الأمريكية برغم ما يمثله من زلزال استراتيجي، لا يزال جزءاً من حساب ردع غير مكتمل، ومع كُـلّ اعتداء جديد ترتفع فاتورة هذا الحساب.
المسيرة | ضرار الطيب: