“سيف القدس”.. عودة الى العروبة الحقة
عبير بسّام
ليس مقبولاً أن نتحدث عن العروبة كما تمثلها حكومات دول التطبيع في الخليج، والتي أججت مشاعر الاستياء بين أبناء الشعب العربي. اتفاقيات التطبيع دفعت البعض الى التقوقع داخل هويته الوطنية، بعد أن باتت العروبة وكأنها مجلبة للعار. بالتأكيد لم تمثل دول التطبيع يوماً العروبة التي قادت حركات التحرر على كامل مساحة الوطن العربي، لا سيما بعد أن شهدنا حلقات الرقص واللقاءات والقبل ما بين أمراء وملوك والإمارات والبحرين وغيرها من الدول العربية التي وقعت اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني. قد يطبّع بعض الحكام، لأنهم خونة ومتزلفون يخافون على كراسيهم ومكتسباتهم أكثر من خوفهم على مصالح شعوبهم وأمتهم. وهؤلاء لا يمكن أن يمثلوا إلا ساعات التخاذل التي يمثلها المارق في أي حيّ من أحيائنا، ولكن ذلك لا يعني أبدًا أنه القاعدة، هذا استثناء.
العرب، هل هم أمة نائمة وأمة مستكينة؟ لم يكونوا كذلك يومًا. ونحن نتحدث عن تاريخنا الحديث، نتحدث عن اليمن الذي كان مقبرة للغزاة العثمانيين وهو اليوم مقبرة للغزاة “الصهاينة” وإن ارتدوا الكوفية. يقاتل في الحقيقة مجموعة من المرتزقة ساقتها زعامات ارتبطت منذ نشأتها بالاستعمار البريطاني ومن ثم بالأميركي، واعتمدت عليه في بقائها على رأس سلطتها وعلى حماية جيوش ومخابرات غربية. حكمت شعبها بسيف سلط على الرقاب ومن ثم بإغراقه في أتون الملذات السطحية والغربية حتى بات لا يستطيع ابن الصحراء أن يتحمل قيظها. ولولا ذلك لم يكن من الممكن أن تستمر حتى اليوم. بالتأكيد نحن لا نتحدث عن العودة للعيش في المضارب التي استقبل فيها السفير السعودي المعتذرين عن تصريح الوزير شربل وهبة أو غيرها، ولكن نتحدث عن الخروج عن طبيعة المكان الجغرافية والإنسانية والقومية. قوم منذ أن نشأت ممالكهم ارتبطت مصالحهم بالاستعمار البريطاني والأميركي.
لقد كان في ما شهدته الأيام الأخيرة من شهر رمضان خير دليل على أن العرب ليسوا عرب التطبيع. والتحرك الذي شهدناه في الأيام العشرة الأخيرة على طول وعرض البلاد العربية دعماً لفلسطين هو الدليل الحي. وحتى هذا لم يكن بالجديد فرغم ما تعرض له اليمن من عدوان التحالف الصهيوني، الا أنه أبدى تأهبه للتحرك من أجل مساندة سوريا وفلسطين في كل لحظة. وتظهّر كذلك في صمود سوريا دفاعاً عن فلسطين والمقاومات العربية في أيّام الحرب كما في أيّام السلم. واستقبال الرئيس الأسد في 20 أيار/ مايو للفصائل في دمشق، والتي احتضنتها هذه المدينة منذ النكبة وحتى اليوم، وطول سنين الألم في سوريا وتحمل الضغوط الدولية واليوم الاقتصادية، فيه يتجلى معنى العروبة الحقيقي.
خروج الكويت عن الإجماع الخليجي في التعامل والتطبيع مع الكيان الصهيوني، ووقوفها إلى جانب الشعب العربي في فلسطين أمر يشهد له. وهي تعتبر ظاهرة في الخليج العربي يجب الوقوف عندها لمعرفة أسبابها، مع العلم أن اجتياح صدام، وليس العراق، للكويت، كان له تداعيات كبيرة على المجتمع الكويتي وعلى علاقته بالفلسطينيين. ولكن الكويت كانت قادرة على لملمة الجراح والسمو فوقها، وهذا أيضاً أمر يشهد لها، وبقيت القضية الفلسطينية قضية جامعة ولم تفرق، ولم تستطع الكويت حتى كقيادة القبول بما لا يقبل به شعبها. واليوم تعبر الكويت على المستوى الشعبي والرسمي عن الدعم الكامل للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية.
وبينما تتخذ الكويت موقفًا متمايزًا، تعلن السعودية العداء للشعب العربي، في اليمن وسوريا وحتى في كل مكان عبر اطلاق المجموعات الإرهابية والتكفيرية وتمويلها، وعندما بدأ اليمن بتحقيق الانتصارات عليها، انطلقت حرب التحالف الصهيوني – الأميركي عليه بقيادة السعودية والإمارات، ولأجله جندت مرتزقة من بلدان شتى. في الحقيقة، لا يمكننا تبين المواقف الحقيقية لشعب الجزيرة العربية عبر تغريدات بعض المطبعين، فنحن لا نعرف مواقف أهلنا في الإحساء والمنطقة الشرقية ونجد والحجاز بسبب التعتيم الإعلامي في داخل المملكة والإمارات. ولا يصلنا من مواقف هؤلاء سوى تلك التي تطلقها المعارضة من خارجهما.
ولكن ما أفرزه انطلاق المقاومة الفلسطينية في انتفاضة القدس من تضامن شعبي عربي، لم يكن مفاجئاً في الحقيقة. واذا كانت ذاكرتنا قصيرة فلنطلها قليلاً. في الحقيقة لطالما كانت المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني حالة جامعة ما بين العرب من المحيط إلى الخليج. ونحن نتحدث هنا عن الجزائر واليمن في الخمسينيات والعمليات الفدائية التي ضمت في صفوفها شبابا من جميع الدول العربية. ومن ثم الانتفاضة الأولى في فلسطين في العام 1987، وحتى صدمة أوسلو، التي تسببت بتراجع الزخم العربي، وولدت مشاعر اليأس الشديد في شارعه. ولكن هذا الزخم العربي عاد لينشط من جديد بعد تحرير جنوب لبنان في العام 2000، حيث انتشرت صور قائد المقاومة في بيوت العرب من المغرب وحتى شمال سوريا، وكان الجميع ينتظر خطابه، ويستمد منه الأمل. وبعدها جاءت انتفاضة الأقصى في العام 2000 والتي تولد معها أمل بتجدد حرب التحرير في فلسطين. واذا ما كنا سنقيس المشاعر العربية بمقياس مواقف الحكام العرب والذين تآمروا على المقاومة في لبنان في العام 2006، فسنجد أن العرب كانوا مصدر خيبة أمل لكل من يرى أن هناك أملا في الجمع العربي.
الأمر يختلف بالطبع في سوريا والمغرب العربي والعراق والكويت واليمن. وحتى اليوم وبعد عشر سنوات من نقل الصراع مع العدو الصهيوني إلى صراع داخلي ضمن الدول العربية بعد انفجار ما سمي بالربيع “العربي”، ربيع ابتدأ بحركات شبابية أرادت التحرير من أنظمة بالية ومن أجل تحسين أوضاعه الإقتصادية، لتصبح حركات اقتتال داخلي قوامه حركات ارهابية انشأتها الولايات المتحدة ومولتها المملكة السعودية من القاعدة إلى داعش إلى النصرة، التي رعتها كل من تركيا وقطر، عشر سنوات تركت فيها فلسطين وحدها، وترك الشعب الفلسطيني لمواجهة مصيره والمؤامرات التي حيكت ضده وليس آخرها صفقة القرن، وصفقات التطبيع. في هذه المرحلة لم يكن ملفتاً وقوف سوريا أو لبنان المقاوم إلى جانب الفلسطينيين اذ إننا اعتدنا وقوفها إلى جانب فلسطين؛ ولكن كان الملفت وقوف اليمن، الذي يعاني من الجوع والحرب من أجل حريته، والذي جمع أبناؤه التبرعات من أجل فلسطين وأهل غزة.
واذا ما استثنينا السعودية والإمارات، فإن المسيرات والمظاهرات المتضامنة مع القدس وغزة ملأت الشوارع العربية والعالم. العراق عاد إلى موقعه المتقدم في دعم فلسطين، امتدت المظاهرات في دول المغرب العربي، في سوريا، وكشفت مظاهرات الأردن التي نددت باتفاقية وادي عربة وبطلب طرد السفير الإسرائيلي عمق الاستياء العربي من اتفاقيات العار مع الإسرائيلي. ولا يظنن أحد أن الشعب العربي في الأردن يرضى عن اتفاقيات التعاون العسكرية التي أبرمها النظام الأردني مع الأميركي من أجل استخدامه كمنصة للهجوم على باقي الدول العربية ودول المنطقة، كما حدث ابان احتلال العراق. موقف الشارع الأردني أجبر الحكومة الأردنية على اتخاذ موقف في الأمم المتحدة، لاستيعاب نبض الشارع. واليوم، نحن نشهد من جديد هبة عربية حقيقية، هبة، حولت انتباه الشعب العربي نحو فلسطين، البوصلة الجامعة، وهي الوحيدة القادرة على اظهار معدن الشعب العربي أنه ما زال معدناً نفيساً لم يتغير ولم يتبدل.