سوريا: آن أوان «استعادة» الشمال ..أصابع الاتهام تدلّ على واشنطن

بينما كانت السلطات السورية تستعدّ لتشييع ضحايا الهجوم بالطائرات المُسيّرة، والذي استهدف حفل تخريج دفعة من الكلية الحربية في حمص، وأودى بحياة 89 شخصاً وتسبّب بإصابة 277 آخرين، بينهم نساء وأطفال، شهدت سماء حمص هجوماً آخر بمُسيّرات حاولت استهداف المستشفى العسكري، قبل أن تتصدّى القوات السورية لهذا الهجوم وتفشله. وعلى إثر ذلك، انطلقت مراسم التشييع الرسمية من مستشفيات عدّة في حمص وحماة واللاذقية، مقرونة بحداد وطني لمدّة ثلاثة أيام، وحالة صدمة في الشارع السوري الذي كان يعتقد أنه تجاوز هذا النوع من الهجمات منذ أعوام عديدة.

وجاء هجوم الأمس، وفق مصادر ميدانية، من غربي حمص، وحمل بصمات منفّذي الهجوم السابق نفسها، غير أنه تمّ التعامل معه بنجاح وإفشاله. وعلى أيّ حال، فإن ما حدث في اليومين الماضيين أكّد ما أعلنه «مركز المصالحة الروسي» في حميميم مراراً، على مدار الشهور الستة الماضية، من أن المسلّحين باتوا يمتلكون قدرات تكنولوجية حديثة تتعلّق بالطائرات المُسيّرة، في إشارة غير مباشرة إلى تلقّيهم دعماً من قوى دولية تملك هذه التكنولوجيا. وحتى قبل يومين من مجزرة الكلية الحربية، تحدّث نائب رئيس «المصالحة الروسي»، الأدميرال فاديم كوليت، في تصريحات، عن تلقّي معلومات عن استعدادات يجريها مسلّحو «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أنصار التوحيد»، والذين ينشطون تحت عباءة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) التي تسيطر على إدلب، شمال غربي البلاد، لشنّ هجمات بالطائرات المُسيّرة وأنظمة صواريخ متعدّدة بعيدة المدى، على قواعد روسية وسورية. وأتى هذا التصريح بالتوازي مع تصريحات أطلقها رئيس الاستخبارات الخارجية الروسي، سيرغي ناريشكين، عن أن الولايات المتحدة «تعدّ بمساعدة مسلّحين لتنفيذ هجمات إرهابية في سوريا في الأماكن العامة المزدحمة وضدّ المؤسسات الحكومية»، الأمر الذي أثار ربطاً بين نشاط الفصائل في إدلب، والنشاط المتزايد في البادية السورية الممتدّة إلى منطقة التنف، والتي تقع فيها القاعدة الأميركية الأكبر على الأراضي السورية.

على أن قائمة الهجمات على مواقع للجيش السوري تصدّرها، خلال الشهرين الماضيين، كلّ من: «أنصار التوحيد»، وهو فصيل يضمّ مقاتلين سابقين في تنظيم «القاعدة» تمّ تشكيله بعد حلّ فصيل «جند الأقصى»، وينشط على جبهات القتال في ريفَي اللاذقية وإدلب، و«الحزب الإسلامي التركستاني»، الذي يضمّ مقاتلين إيغور وينشط أيضاً على جبهات القتال من ريف اللاذقية وصولاً إلى ريفَي حماة وإدلب، و«داعش» الذي تنشط خلاياه في البادية، إلى جانب «هيئة تحرير الشام» (التي تقود أنصار التوحيد والتركستاني). وقوبلت هذه الهجمات بتنفيذ الجيش السوري سلسلة حملات عسكرية في البادية وعلى خطوط التماس في منطقة «خفض التصعيد»، تمّ خلالها استهداف معسكرين لتدريب المقاتلين في إدلب، وثلاثة مستودعات ومركز لتطوير الطائرات المُسيّرة، في الوقت الذي تابعت فيه الطائرات السورية والروسية عمليات المراقبة وجمع المعلومات لتحديد أماكن تطوير وتخزين هذه الأسلحة في إدلب.

بدت لافتة حملة التشويش والتضليل المتعمّدة التي تقودها وسائل إعلام عديدة في محاولة لتبرئة الفصائل «الجهادية» من هذه المجزرة

وأمام هذه المعطيات، بدأ الجيش السوري، فور الهجوم الذي تعرّضت له الكلية الحربية، وما نجم عنه من مجزرة كبيرة، بشنّ حملة واسعة النطاق على مناطق مختلفة من محافظة إدلب، انضمّت إليها لاحقاً طائرات من سلاح الجو الروسي. وطاولت عمليات الجيش التي تُعتبر الأوسع منذ سنوات، مناطق مختلفة شمالي إدلب وجنوبيها، بالإضافة إلى مناطق انتشار المسلحين قرب سهل الغاب، وفي ريف اللاذقية، وفق مصادر ميدانية تحدّثت إلى «الأخبار»، مؤكدةً أن العملية «لا تزال مستمرة لتحقيق أهداف عديدة أبرزها إنهاء البنية التحتية للفصائل في إدلب». ولربّما تمثّل تلك الخطوة بوابة لشنّ عملية برية تستهدف المعقل الأبرز للفصائل «الجهادية» في سوريا، علماً أن تنفيذ العملية كان متوقّعاً قبل بضعة أشهر، عندما نقل الجيش السوري تعزيزات عسكرية كبيرة إلى محاور القتال في ريف إدلب، قبل أن يعلّق نشاطه بالتوازي مع الدفع الروسي والإيراني نحو التطبيع بين دمشق وأنقرة. وكانت موسكو وطهران تأملان فتح الباب أمام إنهاء وجود «الجهاديين» من دون مواجهة منفردة، غير أن جهودهما قوبلت بمعوّقات عديدة أبرزها رفض أنقرة سحب قواتها غير الشرعية من سوريا، بالإضافة إلى عدم وفائها بتعهّدات عديدة سابقة تقضي بفتح طريق حلب – اللاذقية (M4).
على الصعيد السياسي، بدت لافتة موجة التضامن في الأوساط العربية مع دمشق، والإدانات العديدة للهجوم الذي تعرّضت له الكلية الحربية في حمص، إذ دانت كلّ من لبنان وسلطنة عمان والإمارات ومصر والأردن والعراق وتونس والجزائر ودول أخرى، الهجوم، في وقت أعلنت فيه رئاسة الجمهورية تلقّي الرئيس السوري، بشار الأسد، برقيات تعزية من نظرائه الإيراني إبراهيم رئيسي، والروسي فلاديمير بوتين، والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، ورئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري. كما تلقّى وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، اتصال تعزية وتضامن من نظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، فيما تلقّى وزير الدفاع السوري، العماد علي عباس، اتصالاً مماثلاً من نظيره الروسي، سيرغي شويغو. كذلك، صدرت إدانات عديدة أخرى من الهند وفنزويلا وعدد من الأحزاب العربية وحركات المقاومة وعلى رأسها «حزب الله» وحركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين، وغيرهما. كما دانت «جامعة الدول العربية» الهجوم، مشدّدةً على «ضرورة مواصلة جميع الجهود الهادفة إلى القضاء على الإرهاب بكل أشكاله»، فيما لم يصدر عن السعودية أي تعليق حتى مساء أمس.

أما الموقف الغربي، فلم يكن مفاجئاً، إذ جاء كعادته بعيداً من أيّ تضامن مع سوريا، مركّزاً بشكل أساسي على محاولة ضمان استمرار الأوضاع الحالية، الأمر الذي ظهر بوضوح على لسان المبعوث الأوروبي الخاص إلى سوريا، دان ستوينيسكو، الذي عبّر عن قلقه ممّا سماه «تصاعد العنف في سوريا». والموقف نفسه تبنّته المبعوثة الفرنسية إلى سوريا، بريجيت كرني، التي دعت إلى «وقف إطلاق النار»، قبل أن تجري اتصالاً هاتفياً بالشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز الوجوه التي تقود تظاهرات السويداء، مؤكّدة دعمها لهذه التظاهرات، علماً أن ثمّة اتهامات لفرنسا بوقوفها وراء تزويد الفصائل «الجهادية» بالتقنيات اللازمة لتطوير الطائرات المُسيّرة، والتي تسبّبت بمجزرة حمص الأخيرة.
بدوره، استعار المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، التصريحات التي كانت تطلقها الأمم المتحدة بداية الحرب السورية، معبّراً، في بيان، عن «قلقه البالغ إزاء تصاعد العنف في سوريا»، معتبراً أن «المشاهد المروّعة التي سُجّلت يوم الخميس في سوريا تظهر أن الوضع الراهن في البلد الذي مزّقته الحرب غير قابل للاستمرار». ويأتي بيان بيدرسن بالتزامن مع تعثّر إعادة إحياء مسار «اللجنة الدستورية»، بعد أن غيّر المبعوث الأممي موقفه ورفض عقد الاجتماعات في سلطنة عمان، وأبدى إصراره على عقدها في جنيف السويسرية التي كانت السبب في تجميد هذا المسار، جرّاء تخلّيها عن حياديّتها في الحرب الروسية على أوكرانيا. وتجري مداولات عديدة لدراسة إمكانية عقد اللقاءات في عاصمة أخرى غير مسقط التي رفضها بيدرسن، وهي مداولات لا يبدو، وفق الظروف الحالية، أنها ستخرج بأيّ جديد.

وفي ظلّ التطوّرات الأخيرة، بدت لافتة، أيضاً، حملة التشويش والتضليل المتعمّدة التي تقودها وسائل إعلام عديدة في محاولة لتبرئة الفصائل «الجهادية» من هذه المجزرة، وتوجيه الاتهامات إلى أطراف عديدة أخرى بينها الحكومة السورية نفسها، في سيناريو عرفته سوريا بداية الحرب قبل أكثر من عقد، في وقت خرجت فيه «هيئة التنسيق الوطنية» (جزء من المعارضة السورية في الداخل) بموقف يمكن اعتباره الوحيد في الأوساط المعارضة الذي يدين هذا الهجوم. كذلك، دانت «الإدارة الذاتية» في مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) التي يقودها «حزب الاتحاد الديموقراطي»، الذي تعتبره تركيا امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني»، الهجوم، متّهمة أنقرة، التي تشنّ في الوقت الحالي حملة عسكرية مكثّفة على مواقع سيطرتها، بالوقوف وراءه.

 

الاخبار

قد يعجبك ايضا