سجن الشميسي… كابوس اليمنيين في السعودية
عليك اعتياد أن تُفتضح على مرأى مئات العيون المحيطة بك إن ساقتك الأقدار إلى سجن الترحيل الأشهر في المنطقة الشرقية خارج العاصمة السعودية الرياض “سجن الشميسي”، فمراحيضه من دون أبواب، وإن أصابك العطش عليك أن تشرب من صنبور الماء نفسه الذي غسل به من سبقك في المراحيض القليلة، التي لا يتوقف استخدامها على مدار الساعة من مئات المعتقلين، ولا يمكن التخلص من رائحتها المنتشرة في المكان على مدار الساعة، ولا من الأمراض التي قد تنتقل من شخص لآخر بسبب شدة الازدحام في المكان، لدرجة يمكن أن تضطر للبقاء في حالة جلوس دائم ولا تتمكن من التمدد على أرض المعتقل شديد الحرارة.
الشميسي ليس فقط سجناً في الرياض، فأكبر سجن أو (مركز إيواء) يقع في المنطقة الغربية على بعد 20 كيلومتراً في الطريق بين مكة وجدة اسمه الشميسي أيضاً، لا سبب واضحاً لتسمية السجنَين بالاسم ذاته، فيما يقع السجن الثالث في المنطقة الجنوبية بجيزان، ويشتهر باسم “الكربوس”. وفي هذا الأخير القريب من الحدود اليمنية، قد تحصل على فرصة أسرع لترحيلك إلى اليمن مقارنة بسجني الشميسي بالرياض ومكة اللذين قد يستمر اعتقالك فيهما لأسابيع قبل ترحيلك.
إذا كانت سعة العنبر 200 سجين مثلاً، فإنه يتمّ الزجّ بـ600 سجين في المساحة ذاتها، مع وجبات من الأرز والعدس، تُقدّم بطريقة مهينة وبكميات قليلة للغاية. ولم يعد المجهولون (من دخلوا السعودية بطريقة غير رسمية) وحدهم مهددون بالاعتقال في أية لحظة والزج بهم في أحد هذه السجون، فقانون العمل السعودي المعدّل يجعل كل مقيم على أراضي المملكة هدفاً محتملاً للاعتقال ثم الترحيل عبر قافلة باصات الترحيل الخاصة بالسجون. وهي باصات نقل برّي كبيرة، تختلف عن الباصات الأخرى باحتوائها على شبك حديدي يفصل مقصورة القيادة عن المعتقلين، كاحتياطات أمنية تضمن عدم تعرّض السائق أو الأمن المرافق له للاعتداء من قبل المرحّلين. كما استُحدثت أخيراً احتياطات أخرى، هي “الكلبشات” (الأصفاد) الحديدية التي تكبل اليدين والقدمين، إذ يتمّ وضع قدم أحد المرحّلين إلى جانب قدم مرحّل آخر بـ”كلبشة” واحدة، لا يتم فكها إلا عند الوصول إلى الوجهة الأخيرة، وهي منفذ العبر بمحافظة حضرموت اليمنية.
الرحلة من سجن الشميسي بمكة إلى العبر، تستغرق نحو 16 ساعة، ولا تتوقف الرحلة لأي سبب في الطريق حتى للتبوّل. ويقوم المرحّلون على متنها باستخدام العلب البلاستيكية للتبول، لذلك تكون رائحة الباصات غير محتملة على مدار الرحلة. ويتم حشر مرحّلين بأضعاف مقاعد الركاب المتاحة، حتى المسافة الفاصلة بين الكراسي كممر في الأحوال العادية يتراكم فيها العشرات فوق بعضهم. كما سينصحك أصحاب التجارب السابقة بعدم إبداء أي قدر من التذمّر أو الاعتراض، فذلك، إن كنت محظوظاً، سيعرّضك لبعض الشتائم الحادة، أما إن كان مزاج عنصر الأمن غير مناسب فقد يفكّ حزامه العسكري العريض (القائش)، ويهوي به على جسدك بكل بساطة.
سعيد، يمني مغترب بالسعودية منذ 30 عاماً، خرج هو وصديقه في إحدى المرات إلى معرض سيارات لشراء سيارة، من دون الإدراك أنه لن يعود بسيارته الجديدة إلى منزله في اليوم ذاته، فهو مقيم بشكل رسمي، وله أعمال تجارية تمنحه دخلاً محترماً. لكن دورية للشرطة أوقفت الرجلين ونقلتهما إلى قسم الشرطة وتحرير تقرير بعنوان “ضبط في حالة تلبّس بممارسة التسوّل”، ثم أودعتهما سجن الشميسي بمكة، حيث لا يمكن لمن دخله أن يخرج منه إلا إلى مكتب جوازات العبر بالحدود اليمنية.
يقول سعيد لـ”العربي الجديد”، إنه “كنت وصديقي نرتدي الملابس اليمنية الاعتيادية حين ألقي القبض علينا من دون أية قابلية للتفاوض، رغم إظهارنا لبطاقة الإقامة المجددة وفق القانون، فطيلة فترة إقامتي الطويلة لم أتعرّض لتصرّف كهذا”.
عموماً، في الشرطة أو قبلها وطالما لم يتم إدخال بياناتك على النظام الآلي، يمكنك دفع بعض المال والخروج وفقاّ لأهواء من يعتقلك، لكن في الشميسي يصبح الأمر شبه مستحيل، فالمشكلة تكمن في القسم وتتمحور حول أن المحقق المختص لن يسمع منك حرفاً واحداً ضد كلام من اعتقلك. وفي بعض الأحيان يطلب المختص من الجندي أن يقسم اليمين على صحة مبررات اعتقالك، وهذا أقصى ما تنتظره ما لم يقم أحدهم بالمراجعة لإخراجك قبل قرار الترحيل، أو تقوم سفارة بلدك بذلك، لكن السفارة اليمنية تكتفي بإرسال مندوب منها إلى الشميسي لتوقيع قرار الترحيل، ولا تدافع عن المغتربين اليمنيين مهما كانت الإجراءات تعسفية بحقهم، كما أكد مرحّلون يمنيون.
بدوره، يسرد صالح وهو يركز نظراته على الأرض، تجربة أخرى، ويقول لـ”العربي الجديد”، إنه “كنت في طريقي إلى جدة عائداً من اليمن بعد إجازة قصيرة، وتم توقيفي بنقطة تفتيش بمنطقة نجران، وعندما قلت للجندي إنني مغترب نظامي وليس هناك ما يستدعي التوقيف، طلب مني هاتفي الجوال. الله يلعن الواتس أب ويلعن الحرب، فقد وجد بعض الرسائل المتبادلة على بعض المجموعات تنتقد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وتدخّل التحالف في اليمن، لم أكتبها أنا ولم أظن أنها قد تشكل خطورة لأقوم بحذفها، إلا أنها تسببت بسجني 6 أشهر وجلدي 80 جلدة وترحيلي بشكل نهائي”.
أيضاً، لم يكن رشيد أوفر حظاً، فهو فني كهرباء، قُتل بعض أقاربه في الحرب، وأُصيب بما يشبه الاكتئاب. كان يطلق لحيته لأشهر، ثم فجأة يحلقها بالموس. هذا التصرّف لفت انتباه عناصر الأمن، فقاموا باعتقاله وتعذيبه لأيام، خرج بعدها يسير بصعوبة، فقد أصيبت أعصاب إحدى قدميه جراء التعذيب. ورغم عدم ثبوت أية تهمة على الرجل، فقد أطلقه الأمن من دون ترحيله. إلا أنه لم يحتمل البقاء بالسعودية ليعود إلى اليمن بقلب مكسور.
أما يحيى، فيكتب على ورقة الرسوم التي يدفعها كل مغترب سنوياً في السعودية في مقابل تجديد الإقامة والتأمين ورسوم مكتب العمل، وأجور متابعة الإجراءات، كان المبلغ خلال العام 2017 (4550 ريالاً سعودياً، أي نحو 1214 دولاراً)، لكنه ازداد كل عام بواقع 2400 ريال سعودي (640 دولاراً)، ووصل خلال العام الحالي إلى 6950 ريالاً سعودياً (1854 دولاراً)، وعام 2019 إلى 9350 ريالاً سعودياً (2494 دولاراً).
ولفت يحيى في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنه “لم يعد لنا مكان في السعودية، لقد أضعنا أعمارنا هناك، واليوم لا تكفي رواتبنا لتسديد الرسوم المفروضة، ونفقات معيشتنا، ومع هذا لو خرج أحدنا من محله أو سكنه فإنه يخاف من العودة، لأن الشرطة قد تعتقله في أي وقت وأي مكان، ويكون مصيره الشميسي”. وأضاف “قل لـ(وزير الخارجية السعودي عادل) الجبير، إن هؤلاء هم المليون لاجئ يمني الذين تحدث عنهم”، وذلك في إشارة إلى تصريحات الوزير السعودي قبل أيام عن استيعاب المملكة لمليون لاجئ يمني خلال الحرب، والحقيقة أنه تم منح قرابة نصف مليون يمني إقامة رسمية بعد دخولهم بتأشيرة زائر، فتحولوا إلى مقيمين سرت عليهم الرسوم المفروضة على كل مقيم في السعودية.
خلال الأعوام الأخيرة تم توطين/ سعوَدة (أي جعل المهنة متاحة للسعوديين حصرياً) قطاع الاتصالات وصيانة الهاتف الجوال وبيع الذهب. وقد اضطر الآلاف من اليمنيين إلى مغادرة السعودية لأنهم أصبحوا غير قادرين على العمل في هذه المجالات أو تغيير المهنة إلى المهن التي لا زالت متاحة لغير السعوديين.
في هذا الصدد، كشف وليد، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أن “محلي لصيانة الهواتف النقالة كان يدرّ دخلاً يومياً محترماً، وبعد توظيف سعوديين فيه بحكم القانون الجديد، بتّ لا أحصل على 20 في المائة من ذلك الدخل. وهذا لا يكفي مرتبات للعمال السعوديين، لأن أجورهم مرتفعة، وساعات عملهم محددة، ونشاطهم وخبرتهم أقل بكثير من اليمنيين”. لذلك باع وليد المحل مسجلاً خسارة كبيرة، والديكور الذي كلفه 50 ألف ريال سعودي (13335 دولاراً)، اضطر لبيعه مقابل 5 آلاف ريال فقط (1334 دولاراً)، ثم عاد لليمن وفتح محلاً صغيراً بما تبقّى له من مال.
وتوجّه معظم تجّار الذهب إلى الإمارات لاستثمار أموالهم أو فتح فروع هناك مع نقل رأس المال على مراحل، هرباً من أعباء قانون توطين تجارة الذهب، لكن العمال أنفسهم غير قادرين على الحصول على حلول لمشكلة إقصائهم من أعمالهم بهذه البساطة، ولا تجديد إقامتهم إذا كانت المهنة المدونة فيها قد أصبحت محصورة على السعوديين. بالتالي يصبحون بحكم القانون مخالفين يتم القبض عليهم وترحيلهم، سواء في الشارع العام، أو بمداهمة منازلهم، فكل عمارة يسكن فيها يمنيون معرضة للمداهمة ليلاً أو نهاراً.
لا توجد إحصائيات رسمية بعدد المغتربين اليمنيين في السعودية، إلا أن إحصائيات سعودية قالت إنهم يمثلون 20 في المائة من إجمالي العمالة الأجنبية، وهناك تقديرات رجّحت وصولهم إلى مليوني مغترب، إلا أن دراسة نشرها موقع “محيط” أخيراً كشفت أن “عددهم يتجاوز 1.3 مليون مغترب بقليل”، ومع هذا فإنهم أكثر الجنسيات تضرراً من تعديلات قانون العمل السعودي.
يعود ذلك لأن المهن المشمولة بقانون التوطين/ السعودة هي تحديداً المهن التي يعمل فيها اليمنيون تقليدياً. وتعد أسواق العطور والملابس حالياً والذهب والهواتف سابقاً مجال عملهم الأساسي، وبعضهم يعملون عند غير كفيلهم في مخالفة للقانون، لأن كل سعودي يمكنه استقدام عمالة أجنبية وقد لا تكون لديه فرص عمل، فيبيع تأشيرات العمل بمبالغ كبيرة تتجاوز 15 ألف ريال سعودي (4 آلاف دولار) أحياناً، ثم يقول لمن اشتراها إن عليه البحث عن عمل في مكان آخر. وهكذا يخسر المغترب مبلغاً كبيراً لشراء تأشيرة يحتاج لأكثر من عام لسداد قيمتها، وقد يتعرّض للاعتقال كمخالف لقانون العمل ولم يتمكن من مجرد استعادة ما خسره بشراء التأشيرة.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها اليمنيون المغتربون بالمملكة لحملات ترحيل واسعة، ضمن حملة “وطن بلا مخالف” التي تطلق بين وقت وآخر، كان أشهرها مطلع 2014. في ذلك الوقت أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً عن الانتهاكات التي تعرّض لها المرحّلون من السعودية، أكدت فيه حدوث الكثير من الوقائع والممارسات التي سمعتها من 15 مغترباً يمنياً.
حتى عام 1990 كان اليمنيون لا يخضعون لكفيل سعودي كاستثناء أوجبته اتفاقية الطائف (1934) بين البلدين، لكن الأمر اختلف بعد موقف اليمن من حرب الخليج الثانية وإخراج قرابة مليون مغترب يمني من الخليج، وبعد توقيع اتفاقية الحدود الأخيرة عام 2000، نقضت السعودية اتفاقها في شأن الامتيازات السابقة للمغتربين اليمنيين، لكنها قضمت 460 ألف كيلومتر مربّع من الأراضي اليمنية (جيزان، ونجران، وعسير) بموجب الاتفاقية نفسها.