روائي فلسطيني يكتب: اليمن لن يترك شعب فلسطين وحده في الميدان
اليمن يؤكّد فعلياً وعملياً أن فلسطين قضية قومية، وأنه مستعدّ لدفع ثمن التحدي فداء لفلسطين ولعروبة فلسطين، وأن شعب فلسطين ليس وحده في الميدان.
قال تشرشل: سوف أغرس علماً عند كل بئر بترول!
لم يكن الغاز قد ظهر في بلاد العرب بعد، وكانت الأهمية للنفط، وما كان لبريطانيا أن تتخلى عن هذه الثروة، فزرعت أعلاماً كثيرة لدول لا لزوم لها. انتقلت من البداوة إلى امتلاك ثروات ما كانت تتخيلها أو تحلم بها، وأخذت تتصرف بالشكر والولاء لمن أغرقوها بنعمة ثراء مفاجئ يحسدون عليه.
ومع تنامي تلك الثروات، أخذت تلك الدويلات تبحث عن مبررات تقنع برفرفة أعلامها وتنافسها وتمايزها عن بني جلدتها الفقراء الذين لا يتمتعون بنعيم ثروات مفاجئة نقلتهم من البداوة إلى زمن “مدن الملح”، كما وصفها الدكتور السعودي الأصل عبد الرحمن منيف واستفاض فيها في روايته الضخمة “مدن الملح” بأجزائها الخمسة.
بعد الحرب العالمية الثانية، ورثت الإمبراطورية الأميركية ممتلكات ومجد بريطانيا التي أفل مجدها، وتكرّس الأفول في أعقاب حرب 1956 لها ولشريكتها فرنسا في عدوانهما الثلاثي على مصر الناصرية انتقاماً من تأميمها قناة السويس ولدعم ثورة الجزائر في ثورتها، مع التحاق ذيلهما (إسرائيل) والتصاقه بمؤخرة الإمبراطورية الأميركية وربط مصيره بها (من صفات هذا الذيل أنه متنقل، ويقدّم خدماته لمن يرعاه ويديم وجوده).
تلك الدول، أو الدويلات، لم تعد ترتبط بالأمة العربية، بكفاح شعوبها وبقضاياها، فهي احتمت بالقواعد التي تحتلها من دون أن يزعجها الأمر، سواء زُرعت تلك القواعد بهدف مواجهة الاتحاد السوفيات أو الدول العربية الثورية، بخاصة مصر الناصرية التي دعمت كل حركات التحرر في الوطن العربي الكبير، وثورة اليمن التي قادها المشير عبد الله السلال عام 1962، وذلك للتخلّص من حكم عائلة أحمد حميد الدين الجهول المظلم الذي سجن شعب اليمن العريق في ظلمات التخلّف، وتحملت مصر الناصرية تكاليف باهظة في دعمها اليمن وشعبه العريق، وفي الحرب التي شنتها السعودية واستخدمت فيها المرتزقة، عرباً وغير عرب، ناهيك بالدعم الأميركي والصهيوني لتلحق الهزيمة بثورة شعب اليمن وبالحضور الناصري.
واصلت السعودية تآمرها المستمر على اليمن، لخوفها من امتلاك اليمن ثرواته واستقلاله، فهو بلد كبير، وشعبه ذكي عاشق للحريّة، وهو لم يقبل أن يكون مستعمراً لبريطانيا، ولن يقبل أن يكون مستعمراً ومُحتلاً بالقواعد الأميركية، ولن يقبل شعب اليمن أن يكون مجرّد أيد عاملة في السعودية، وأن تتحكم فيه وتحبسه السعودبة في حالة التخلف التي ابتلته بها أُسرة حميد الدين.
لم تتوقف المؤامرات التي استهدفت اليمن وشعبه، من تكريس للانشقاق بين شماله وجنوبه، ودس الأسافين في صفوفه، حتى وصلنا إلى هذه الأيام التي طمعت دولة أبناء زايد فيه، وعملت على احتلال أجزاء من أرضه الغنية موقعاً وثروات في جنوبه، بهدف استثمارها مع الكيان الصهيوني، وأشغلته السعودية بحرب طاحنة استهدفت شعبه بالموت والدمار أكثر من 8 سنوات، ولكنه هزم المتآمرين والمرتزقة وأميركا التي خططت للحرب وأدارتها.
توقّع المتآمرون أن يستكين اليمن وقيادته الثورية في أعقاب 8 أعوام من الحرب التدميرية المنهكة، دفع ثمن صموده فيها، وركن إلى التقاط الأنفاس، ففاجأ أعداءه وأعداء الأمة العربية بموقفه المنحاز علناً بالسلاح إلى فلسطين ممثلة بمقاومته في قطاع غزة، فقصفت قواته المسلحة الباسلة أم الرشراش، أي ميناء “إيلات” المحتل منذ عام 1949 على البحر الأحمر، ليفاجئ العدو الصهيوني بموقف حاسم مؤثّر اقتصادياً بحرياً وأمنياً، ومن دون أن تأبه قيادة اليمن الثورية الشجاعة لردود الفعل الأميركية التي تدير حرب الكيان الصهيوني علناً بعد طوفان الأقصى فجر 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، والتي فوجئت بترنح كيانها الصهيوني المزروع فزاعة في قلب الوطن العربي.
انتقل اليمن إلى الإعلان العملي أن باب المندب محرّم على السفن الإسرائيلية المتجهة إلى ميناء “إيلات”، سواء كانت إسرائيلية أو سفناً مستأجرة متجهة إلى ذلك الكيان، وبوضوح: ما دام قطاع غزة محاصراً، فيجب أن يدخله التموين والدواء والوقود، ولن يرفع الحصار قبل ذلك مهما كلف الأمر.
نفّذ اليمن تهديده ووعيده بوضع اليد على سفن، وبضرب بعضها، وهو ما دفع عدداً من شركات الملاحة العالمية إلى تحويل مسارها الطويل المُكلف إلى طريق رأس الرجاء الصالح، مع ما في ذلك من تكلفة باهظة مالاً ووقتاً إضافياً.
فضح اليمن دول الخليج المتواطئة على فلسطين وقضيتها العربية، ودفعها إلى اللوذ بالصمت، وهو يتصدّى للعربدة الأميركية التي تبحث عن تحالف يدّعي أنه يحمي الملاحة في البحر الأحمر، رُغم أن البحرية اليمنية أعلنت أنها لا تستهدف السفن التي تعبر ممر باب المندب متجهة بعيداً من الميناء الإسرائيلي، وأنها في أمان، فالهدف فقط مرور السفن الإسرائيلية، أو السفن التي تخدم الكيان الصهيوني، والمتجهة إلى ميناء الكيان الصهيوني في “إيلات”.
اليمن الدولة العربية حقاً، فعلياً وعملياً، الذي يتصدى للكيان الصهيوني، وللعربدة الأميركية، غير آبه لما تحاول أن تحشده أميركا وتهديداتها وقطعها البحرية المتزاحمة استعراضياً للتخويف والإرهاب، فقد قالها بصراحة: سنقصف بكل ما يتوفر لدينا من أسلحة كل ما يتهددنا…
لقد أنقذ اليمن العربي الشجاع، قيادةً وشعباً، المقاومة الفلسطينية، وأخرجها من الشعور بأنها تخوض معركة فلسطين وحدها، وأنها مخذولة من الدول العربية. وبهذا أعاد اليمن فلسطين قضيةً وشعباً إلى حضن أمتها وقلبها، ووضعها في موقعها الحقيقي كقضية عربية أولى بامتياز؛ قضية صراع عربي صهيوني إسرائيلي بعدما دفعت الأنظمة العربية القيادة الفلسطينية إلى منزلق وورطة أوسلو، وأوهمتها بأن هذا الخيار فيه خلاصها، فاستجابت لقصر نظرها وضيق أُفقها، ولعجزها عن رؤية أبعاد القضية الفلسطينية، وفي المقدمة بعدها القومي الذي يضع كل الدول العربية أمام مسؤولياتها، وأمام الاختبار الحقيقي، لا مواقف الكلام وبعض الدعم المالي التافه لتبرير التخلّي عن القضية وتحويلها إلى قضية إقليمية تستدعي “التعاطف” والدعم المادي والكلامي الذي انتهى بالتطبيع بين دول الخليج، باستثاء الكويت، والكيان الصهيوني، ومنها من اندفع أبعد في تطبيعه، فبات حليفاً تابعاً للكيان الصهيوني، وهذا ما تمثله “إمارات أبناء زايد”.
اليمن بموقفه القومي الشجاع الفاعل المتصدي المتحدي أعاد القضية العربية الفلسطينية قضية قومية، والمتآمرون أرادوها صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً، ثم أرادوها صراعاً بين قطاع غزة والكيان الصهيوني تسهيلاً للإجهاز على القضية الفلسطينية نهائياً خدمة لأميركا والكيان الصهيوني، ولكن المقاومة البطلة المعجزة المُذهلة في قطاع غزة فاجأت الأعداء والأصدقاء، وما زالت، والنصر حليفها ومعها من يناصرها في ميادين المواجهة المنفتحة على احتمالات تخيف العدو في جنوب لبنان والعراق وجبهة اليمن بشعبه وقواته المسلحة بكل ما يتوفر لديها من أسلحة تمكنها من تحدي أعداء فلسطين والأمة العربية…
اليمن البلد العربي العريق الذي لم تهزمه وتحتله أي إمبراطورية يتصدى للكيان الصهيوني التابع المهزوم أمام المقاومة الفلسطينية على رمال غزة، فوق الأرض وتحتها، وللإمبراطورية الأميركية، ويفتح باب معركة كبرى مع العدوانية الأميركية، وهو بهذا يضاعف من مأزق دويلات التطبيع والتبعية، ويفضح خيانتها، ويستنهض روح الأمة العربية ممثلة بملايين العرب في أقطارهم المحكومة بالتابعين والمتخاذلين عن نصرة فلسطين.
اليمن بلد الحشودات المليونية في كل مدنه، بلد الصمود في وجه الحرب الظالمة العدوانية عليه طيلة سنوات قاسية وحصار ظالم لئيم. اليمن لا يترك فلسطين وحدها في براثن أميركا الصهيونية وتآمر دول النفط والتطبيع. إنه يمننا. إنه يمن العرب الأقحاح الشرفاء الشجعان؛ العرب الذين يستنهضون روح أمتهم؛ اليمن المقاتل بسلاح يصنعه ولا يشتريه بالمليارات ويخزنه في المستودعات حتى يصدأ، كما تفعل دول الثراء النفطي التي تشتري السلاح بالمليارات خدمة لمصانع الأسلحة في أميركا.. ذلك السلاح الذي لا يحرر ولا يحمي شبراً من أرض العرب، وأقدسها فلسطين.
اليمن يؤكّد فعلياً وعملياً أن فلسطين قضية قومية، وأنه مستعدّ لدفع ثمن التحدي فداء لفلسطين ولعروبة فلسطين، وأن شعب فلسطين ليس وحده في الميدان.