رسالة الإمام زيد الى علماء الأمة
رسالة الإمام زيد الى علماء الأمة.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
إلى علماء الأمَّةِ الذين وجبت للَّه عليهم الحجة، مِن زيد بن علي بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
سلام على أهل وَلاَية اللّه وحِزبِه.
ثم إني أوصيكم مَعْشَر العلماء بحظِّكم من اللّه في تقواه وطاعته، وأن لا تبيعوه بالـمَكْس([1]) من الثَّمَن، والحقير من البَذل، واليسير من العِوَض، فإن كل شيء آثرتموه وعَمِلتم له من الدُّنيا ليس بخَلَفٍ ممازيَّن اللّه به العلماء من عباده الحافظين لرعاية ما استرعـاهم واستحفظهم من أمره ونهيه، ذلك بأن العاقبة للمتقين، والحَسْرَةَ والنَّدامة والويل الدائم للجائرين الفاجرين.
فتفكّروا عباد اللّه واعتبروا، وانظروا وتَدَبَّروا وازدجروا بما وعظ اللّه به هذه الأمَّة من سوء ثنائه على الأحْبَار والرُّهبان.
إذ يقول: {لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].
وإنما عاب ذلك عليهم بأنهم كانوا يشاهدون الظَّلمة الذين كانوا بين ظهرانيهم يأمرون بالمنكر، ويعملون الفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، ويرون حق اللّه مُضَيَّعاً، ومالَ اللّه دُولة يؤكل بينهم ظلماً، ودولة بين الأغنياء، فلا يَمْنعون من ذلك، رغبةً فيما عندهم من العَرَض الآفل، والمنزل الزائل، ومُدَاهنة منهم على أنفسهم.
وقد قال اللّه عز وجل لكم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ [لَيَأْكُلُونَ أَمْـوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]،] كيما تحذروا.
وإذا رأيتم العَالِم بهذه الحالة والمَنْزِلة أنزلتموه منزلة من عَاثَ في أموال الناس بالْمُصَانَعة ([2])، والمُدَاهنة، والمُضَارعة ([3]) لِظَلَمَهِ أهل زمانهم، وأكابر قومهم، فلم ينهوهم عن منكر فعلوه؛ رغبة فيما كانوا ينالون من السُّحْت ([4]) بالسكوت عنهم.
وكان صُدُودُهم عن سبيل اللّه بالإتِّباع لهم، والإغترار بإدِّهَانهم، ومقاربتهم الجائرين الظالمين المفسدين في البلاد؛ ذلك بأن أتباع العلماء يختارون لأنفسهم ما اختار علمـاؤهم، فاحذروا علماء السوء الذين سلكوا سبيل من ذَمَّ اللّه وباعوا طاعة اللّه الجائرين ([5]).
إن اللّه عز وجل قال في كتابه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَـدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44]].
فعاب علماءَ التوراةِ والإنجيلِ بتركهم ما استحفظهم من كتابه ـ وجَعَلَهم عليه شهداء ـ خَشْيَة الناس، ومواتاة([6]) للظالمين، ورضىً منهم بأعمال المفسدين. فلم يؤثروا اللّه بالخشية فَسَخِط اللّه عليهم لَمَّا اشتروا بآياته ثمناً قليلاً، ومتاعاً من الدنيا زائلاً.
والقليل عند اللّه الدنيا وما فيها من غَضَارَتِهَا ([7]) وعيشتها ونعيمها وبهجتها؛ ذلك بأن اللّه هو عَلاَّم الغيوب، قد عَلِمَ بأن ركوبَ معصيَتِهِ، وركوب طاعَتِهِ، والمداهنة للظلمة في أمره ونهيه، إنما يلحق بالعلماء للرَّهْبة والرَّغبة من عند غير اللّه، لأنهم علماء بالله، وبكتابه، وبسُنَّة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ولعَمْري لو لم يكن نال علماءَ الأزمنةِ من ظلمتها وأكابرها ومفسديها شدةٌ وغلظة وعداوة ما وَصَّاهم اللّه تعالى وحذّرهم، ذلك أنهم ما ينالون ما عند اللّه بالهوينا، ولا يخلدون في جنته بالشهوات.
فكره اللّه تعالى للعلماء ـ المُسْتَحْفِظِين كُتُبَه وسُنَّته وأحكامه ـ ترك ما اسْتَحْفَظَهم، رغبةً في ثواب مَنْ دُونَه، ورهبةَ عقوبةِ غيره.
[فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وقد مَيَّزَكم اللّه تعالى حَقَّ تمييز، ووسَمَكم سِمَةً لا تخفى على ذي لُبّ، وذلك حين قال لكـم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]].
فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده.
ولعَمْرِي لقد استفتح الآية في نَعْت المؤمنين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا بالموعظة.
وقال تعالى في الآخرين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ}[التوبة:67].
فلعَمْرِي لقد استفتح الآية في ذمهم بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا، واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هَيِّنُها وشَدِيْدُها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: الدعاء إلى الإسلام([8])، والإخراج من الظُّلْمَة، ورَدّ الظالم، وقِسْمَةِ الفَيء والغنائم على منازلها، وأخذ الصَّدقات ووضعها في مواضعها، وإقامة الحدود، وصِلَةِ الأرحام، والوفاء بالعهد، والإحسان، واجتناب المحَارم، كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول اللّه تعالى لكم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2]، فقد ثَبَتَ فرضُ اللّه تعالى، فاذكروا عهد اللّه الذي عاهدتموه وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة:7].
عباد اللّه، فإنما تصلح الأمورُ على أيدى العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونـة الظالمين الجائرين، فكذلك الجهال والسفهاء إذا كانت الأمور في أيديهم، لم يستطيعوا إلا بالجهـل والسَّفَه إقامتها، فحينئذ تَصْرُخُ المواريث، وتضج الأحكام، ويفتضح المسلمون([9]).
وأنتم أيها العلماء عصابةٌ مشهورة، وبالورع مذكورة، وإلى عبادة اللّه منسوبة، وبدراسة القرآن معروفـةٌ، ولكم في أعين الناس مهابةٌ، وفي المدائن والأسواق مكرمةٌ، يهابكم الشَّريف، ويكرمكم الضَّعيف، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه، يُبدَأ بكم عند الدُعْوَةِ والتُحْفَة ([10])، ويشار إليكم في المَجَالس، وتشفعون في الحاجات إذا امتَنَعَت على الطَّالبين، وآثارُكم مُتَّبَعَةٌ، وطُرُقُكُم تُسْلَك، كل ذلك لما يرجوه عندكم مَنْ هُوَ دونكم مِنْ النَّجاة في عرفان حق اللّه تعالى، فلا تكونوا عند إيثار([11]) حق اللّه تعالى غافلين، ولأمره مضيِّعين، فتكونوا كالأطباء الذين أخذوا ثَمَنَ الدَّواء واعْطَبوا المرضى، وكرُعَاةٍ استوفوا الأجر وضلوا عن المرعى، وكحراس مدينة أسلموها إلى الأعداء، هذا مثل علماء السوء.
لا مالاً تبذلونه لله تعالى، ولا نفوساً تُخاطرون بها في جَنْبِ اللّه تعالى، ولا داراً عطلتموها، ولا زوجة فارقتموها، ولا عشيرة عاديتموها.
فلا تتمنوا ما عند اللّه تعالى وقد خالفتموه، فترون أنكم تَسْعَوْن في النُّور، وتَتَلَقَّاكم الملائكة بالبشارة من اللّه عز وجل؟ كيف تطمعون في السَّلامة يوم الطامَّـة؟! وقد أخْدَجْتُم الأمانة ([12])، وفارقتم العِلْمَ، وأدْهَنتم في الدين، وقد رأيتم عهـد اللّه منقوضاً، ودينه مبغوضاً، وأنتم لا تفزعون، ومن اللّه لا ترهبون، فلو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤنة في جنب اللّه لكانت أمور اللّه صادرة عنكم، وواردة إليكم.
عباد اللّه لا تُمَكِّنوا الظالمين من قِيَادكم ([13]) بالطمع فيما بأيديهم من حُطامِ الدنيا الزَّائل، وتراثها الآفل، فتخسروا حظكم من اللّه عز وجل.
عباد اللّه استقدموا إلى الموت بالوثيقة في الدين، والإعتصام بالكتاب المتين، ولا تعجبوا بالحياة الفانية، فما عند اللّه هو خير لكم، وإن الآخرة هي دار القرار.
عباد اللّه انْدُبُوا الإيمان، ونوحوا على القرآن، فوالذي نفس (زيد بن علي) بيده لن تنالوا خيراً لا يناله أهلُ بيتِ نبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أصبتم فضلاً إلا أصابوه فأصبتم فضله.
خطاب لعلماء السوء
فيا علماء السوء أكببتم على الدنيا وإنها لناهية لكم عنها، ومحذرة لكم منها، نَصَحَتْ لكم الدنيا بتصرفها فاسْتَغْشَشْتُمُوها، وتَقَبَّحَتْ لكم الدنيا فاستحسنتمُوها، وصَدَقَتْكم عن نفسها فكذَّبتمُوها.
فيا علماء السوء، هذا مِهَادكم الذي مَهَدْتمُوه للظالمين، وهذا أمانكم الذي ائتُمنتُموه ([14]) للخائنين، وهذه شهادتكم للمبطلين، فأنتم معهم في النار غداً خالدون: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75]، فلو كنتم سَلَّمتم إلي أهل الحق حقهم، وأقْرَرْتم لأهل الفضل بفضلهم، لكنتم أولياء اللّه، ولكنتم من العلماء به حقاً الذين امتدحهم اللّه عز وجل في كتابه بالخشية منه.
فلا أنتم عَلَّمتم الجاهل، ولا أنتم أرشدتم الضَّال، ولا أنتم في خلاص الضعفاء تعملون، ولا بشرط اللّه عليكم تقومون، ولا في فِكَاكِ رقابكم، ولا السلبَ إلا سلبكم.
يا علماء السوء اعتبروا حالكم، وتفكروا في أمركم، وستذكرون ما أقول لكم.
يا علماء السوء إنما أمنتم عند الجبَّارين بالإدْهَان، وفزتم بما في أيديكم بالمُقَارَبَة، وقربتم منهـم بالْمُصَانَعَة([15])، قد أبحتم الدين، وعطلتم القرآن، فعاد عملكم حجة للَّه عليكم، وستعلمون إذا حَشْرَجَ الصَّدر، وجاءت الطامة، ونزلت الدَّاهية.
يا علماء السوء أنتم أعظم الخلق مصيبة، وأشدهم عقوبة، إن كنتم تعقلون، ذلك بأن اللّه قد احتج عليكم بما استحفظكم؛ إذ جعل الأمور ترد إليكم وتصدر عنكم، الأحكام من قِبَلِكم تُلْتَمَس، والسُّنن من جِهَتِكم تحتبر، يقول المتبعون لكم: أنتم حجتنا بيننا وبين ربنا. فبأي منزلة نزلتم من العباد هذا المنزلة؟
فوالذي نفس (زيد بن علي) بيده لو بينتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحق الذي تعرفون، لتَضَعْضَعَ بُنْيَان الجبَّارين، ولتهَدَّم أساس الظالمين، ولكنكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلا، وادْهَنتم في دينه، وفارقتم كتابه.
هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق، كي تتعاونوا على البر والتقوى، ولاتعاونوا على الإثم والعدوان، فأمْكَنتم الظلمة من الظلم، وزيَّنتم لهم الجَورَ، وشَدَدْتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة، فهذا حالكم.
فيا علماء السوء محوتم كتاب اللّه محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً، فَنَدَّ ([16]) والله نَدِيْدَ البَعِيْرِ الشـارد، هرباً منكم، فبسوء صنيعكم سُفِكَت دماء القائمين بدعوة الحق من ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ورُفِعَت رؤوسهم فوق الأسنة، وصُفِّدوا في الحديد، وخَلَصَ إليهم الذُّل، واستشعروا الكَرْب، وتَسَرْبَلوا الأحزان، يتنفسون الصُّعَـداء ([17])، ويتشاكون الجهد؛ فهذا ما قدمتم لأنفسكم، وهذا ما حملتموه على ظهـوركم، فالله المستعان، وهو الحكم بيننا وبينكم، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.
دعوته ـ عليه السلام ـ إلى نصر الحق
وقد كتبت إليكم كتاباً بالذي أريد من القيام به فيكم، وهو: العمل بكتاب اللّه، وإحياء سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فبالكتاب قَوَام الإيمان، وبالسُّنَّة يثبت الدين، وإنما البدع أكاذيب تُخْتَرَع، وأهواء تُتَّبَع، يتولى فيها وعليها رجالٌ رجالاً صدُّوهم عن دين اللّه، وذادوهم عن صراطه، فإذا غَيَّرها المؤمن، ونهى عنها المُوَحِّد، قال المفسدون: جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!!
وأيم اللّه ماالبدعة إلا الذي أحدث الجائرون، ولا الفساد إلا الذي حكم به الظالمون، وقد دعوتكم إلى الكتاب فأجيبوا داعي اللّه وانصروه.
فوالذي بأذنه دَعَوْتُكم، وبأمره نصحتُ لكم، ما ألتمس أَثَرَةً على مؤمن، ولا ظلماً لِمُعَاهِد، ولوددت أني قد حميتكم مَرَاتع ([18]) الهَلَكَة، وهديتكم من الضلالة، ولو كنت أوْقِدُ ناراً فأقذفُ بنفسي فيها، لا يقربني ذلك من سخط اللّه، زهداً في هذه الحياة الدنيا، ورغبة مني في نجاتكم، وخلاصكم، فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والمَوْفُوْرين حظاً ونصيباً.
عباد اللّه انصحوا داعي الحق، وانصروه إذا قد دعاكم لما يحييكم، ذلك بأن الكتاب يدعو إلى اللّه وإلى العدل والمعروف، ويزجر عن المنكر.
فقد نَظرنا لكم وأردنا صلاحكم، ونحن أولى الناس بكم، رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جَدُّنا، والسابقُ إليه المؤمن به أبونا، وبنته سيدة النِّسوان أمُّنا، فمن نَزَل منكم منزلتنا؟ فسارعوا عباد اللّه إلى دعوة اللّه، ولا تنكلوا عن الحق، فبالحق يُكْبَتُ([19]) عَدُوُّكم، وتُمْنَع حريمكم، وتأمن ساحتكم.
وذلك أنا ننزع الجائرين عن الجنود، والخزائن، والمدائن، والفيء، والغنائم، ونُثْبِتُ الأمين المؤتمن، غير الرَّاشي والمرتشي الناقض للعهد؛ فإن نَظْهَر فهذا عهدنا، وإن نستشهد فقد نصحنا لربنا، وأدينا الحق إليه من أنفسنا، فالجنة مثوانا ومنقلبنا، فأي هذا يكره المؤمن، وفي أي هذا يرْهَب المسلم؟ وقد قال اللّه عز وجل لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: {وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107].
وإذا بدأت الخيانة، وخُرِبَت الأمانة، وعُمِل بالجور، فقد افتضح الوالي. فكيف يكون إماماً على المؤمنين من هذا نعته وهذه صفته؟!
اللهم قد طلبنا المعذرة إليك، وقد عَرَّفْتَنَا أنك لا تُصلح عَمَلَ المفسدين، فأنت اللهم ولينا، والحاكم فيما بيننا وبين قومنا بالحق.
هذا مانقول وهذا ما ندعوا إليه، فمن أجابنا إلى الحق فأنت تُثِيْبه وتجازيه، ومن أبى إلا عُتواً وعناداً فأنت تعاقبه على عتوه وعناده.
فالله اللّه عباد اللّه أجيبوا إلى كتاب اللّه، وسارعوا إليه، واتخذوه حَكَماً فيما شَجَر بينكم، وعدلاً فيما فيه اختلفنا، وإماماً فيما فيه تنازعنا، فإنا به راضون، وإليه منتهون، ولما فيه مُسْلِمون لنا وعلينا، لانريد بذلك سلطاناً في الدنيا، إلا سلطانك، ولا نلتمس بذلك أثرة على مؤمن، ولا مؤمنة، ولا حُرٍّ، ولا عبد.
عباد اللّه فأجيبونا إجابة حَسَنة تكون لكم البشرى بقول اللّه عز وجل في كتابه: {فَبَشِّرْ عِبَادِي(17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، ويقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت: 33].
عباد اللّه فاسرعوا بالإنابة وابذلوا النصيحة، فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل (القرآن)، وفينا كان يهبط (جبريل) عليه السلام، ومِنْ عندنا اقتبس الخير، فَمَنْ عَلِمَ خيراً فمنا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن النَّاهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود اللّه.
عباد اللّه فأعينونا على من استعبد أمتنا، وأخرب أمانتنا، وعَطَّل كتابنا، وتَشَرَّف بفضل شرفنا، وقد وثقنا من نفوسنا بالمضي على أمورنا، والجهاد في سبيل خالقنا، وشريعة نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم، صابرين على الحق، لا نجزع من نائبة مَنْ ظَلَمَنا ، ولا نَرْهَبُ الموتَ إذا سَلِمَ لنا دِيْنُنَا ، فتعاونوا تنصروا، يقول اللّه عز وجل في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ويقول اللّه عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 ـ 41].
عباد اللّه فالتمكِين قد ثبت بإثبات الشريعة، وبإكمال الدين بقول اللّه عز وجل: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات: 54]، وقال اللّه عز وجل فيما احتج به عليكم : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].
عباد اللّه فقد أكمل اللّه تعالى الدِّين، وأتم النعمة، فلا تنقصوا دين اللّه من كَمَاله، ولا تُبَدِّلوا نعمة اللّه كفراً فيحل بكم بأسه وعقابه.
عباد اللّه إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خُذْلانَكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا.
عباد الله، فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم في ظلمنا، فكلُّ مالٍ للَّه أنفقوه، وكل جمعٍ جمعوه، وكل سيف شَحَذُوه ([20]) وكل عدل تركوه، وكل جور رَكِبوه، وكل ذمة للَّه تعالى أخفروها ([21])، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نَبَذوه، وكل حكم للَّه تعالى عطّلـوه، وكل عهد للَّه نقضوه فأنتم المعينون لهم على ذ لك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد اللّه إن الأحبار والرُّهبان من كل أمة مسؤلون عما استحفظوا عليه، فأعِدُّوا جواباً للَّه عز وجل على سؤاله.
اللهم إني أسألك بنبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم تثبيتاً منك على الحق الذي ندعوا إليه وأنت الشهيد فيما بيننا، الفاصل بالحق فيما فيه اختلفنا، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة.
والسلام على من أجاب الحق، وكان عوناً من أعوانه الدالين عليه.