رسائلُ اليمن في العام التاسع: سلامٌ كاملٌ أو معركة حاسمة ولا مساحة للمراوغة
مثَّلت ذكرى يومِ الصمودِ الوطني هذا العامَ مدخلًا لمرحلةٍ جديدةٍ من المواجهة، حَيثُ تزامن حلولُ الذكرى مع جملةِ رسائلَ وتأكيدات وجّهتها صنعاءُ والقيادةُ الوطنية، كشفت من خلالها تفاصيلَ الموقف التفاوضي للعدو، وجددت تذكيره بالتزاماته، كما حذّرت من التداعيات التي المترتبة على التنصل عن تلك الالتزامات، وأكّـدت الجهوزية لاتِّخاذ جملة من الخيارات الاستراتيجية النوعية التي بات معلومًا أن تحالف العدوان ورعاته كانوا يحاولون -طيلة الفترة الماضية- تحييدَها؛ وهو الأمر الذي يوحي بوضوح بأن مرحلةَ “خفض التصعيد” باتت على وشك الانتهاء، وأنه بات هناك تقييمٌ شبهُ نهائي لموقف العدوّ، سيترتب عليه تغييرٌ جذري وتأريخي في مسار الحرب.
خطابُ قائد الثورة، السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بمناسبة الذكرى هذا العام، حمل أبرزَ تلك الرسائل والتأكيدات، وقد خلق انطباعًا واضحًا بأنها تمهِّدُ لمرحلة جديدة، وليست مُجَـرّد تنبيهات عامة؛ لأَنَّها تأتي في توقيت مهم يتزامن مع انتهاء عام كامل على بدء حالة التهدئة بجزأَيْها: (الهُدنةِ وخفضِ التصعيد)، وهي الفترة التي تم اختبار فيها نوايا تحالف العدوان على طاولة التفاوض، وفي الميدان بشكل يكفي لتبين حقيقة موقفه ورغبته تجاه السلام.
عضوُ الوفد الوطني، عبد الملك العجري، عزَّزَ هذا الانطباعَ الذي خلقه خطابُ قائد الثورة؛ إذ أكّـد في حديث لـ “المسيرة”، أن صنعاء كانت طيلة الفترة الماضية “تحاول أن تعطيَ أكبرَ فرضة ممكنة لعودة الطرف الآخر، على أن يكون هناك تحَرّك عملي، ولا يستمر في التكتيك والتلاعب” مُضيفاً أن صنعاءَ “لا تراهنُ على قدرة السعوديّة على التحرّر من الضغوط الأمريكية لكنها تدعوها لتلقف الفرصة قبل أن تنتهي”.
ويشيرُ ذلك إلى أن صنعاء قد توصلت إلى تقييم شبه نهائي بأن السعوديّة لا تمتلكُ رغبةً واضحةً في التوجّـه نحو السلام، وأن الحرص الوطني على إتاحة المجال أمام جهود الحل يأتي في إطار إقامة الحُجَّـة وتبرئة الذمة، بغض النظر عن المؤشرات السلبية الواضحة من جانب العدوّ الذي أكّـد العجري أن صنعاءَ راقبته طيلة الفترة الماضية “وهو يستخدمُ تكتيكَ إبقاء اليمن في حالة من اللا سلم واللا حرب، بينما يؤجِّجُ صراعًا داخليًّا؛ بهَدفِ تخفيض سقف المطالب اليمنية العادلة وهو ما لن يحصل عليه”.
هذه التوضيحُ الدقيقُ لأهداف العدوّ، من جانب عضو الوفد الوطني المفاوض، يشير بوضوح إلى أن الوضع قد تجاوز مرحلة منح الطرف الآخر ميزة الشك في دوافعه؛ لأَنَّه قد أثبتها بشكل واضح وبصورة لم تعد تقبل التأويل، وبالتالي فَـإنَّ ما تبقى من الفرصةِ الممنوحة له يتعلق فقط بوضعه أمامَ خيارات نهائية حاسمة يتحمَّلُ مسؤوليةَ تبعاتها أمام العالم كله.
وفي هذا السياق، يدلل العجري على سوء نوايا العدوّ بما قام به مؤخّراً فيما يتعلق بطيران اليمنية وعرقلة الرحلات وحركة السفن ومحاولات الضغط، والتي يؤكّـد أن “فيها تصعيد واضح وخطير”
ويضيف أن صنعاء “لن تظل في حالة مراجعة ومراقبة دائمة ولن تسمح بمارثون جديد من التلاعب، وفي حال عادت الحرب فستتغير القواعد وَإذَا كانت السعوديّة تسعى لإخراج نفسها من الحرب فَـإنَّ عودة الحرب ستجعل منها هدفاً استراتيجيا للعمليات”، مُضيفاً أن “قائدَ الثورة أكّـد أن طريق السلام استراتيجي وموضوعي وثابت ومن بينه إعادة الإعمار ومعالجة الأضرار التي لا يمكن للعدو أن يغادر بدونها”
ويؤكّـد أنه “مثلما دفعت السعوديّةُ فاتورةَ الحرب فعليها أن تدفعَ فاتورة الخروج منها وإصلاح الوضع وجبر الضرر”.
عند هذه النقطة التي يتم فيها توضيح الموقف بشكل شفاف ووضع العدوّ أمام ضرورة اتِّخاذ قرار نهائي، تحرص صنعاء عادةً على توضيح ما يترتب على كُـلّ خيار مطروح، وخُصُوصاً ما يتعلق بخيار الرفض لمطالب الشعب اليمني؛ مِن أجل تحميل العدوّ المسؤولية عما سيحدث.
ويقدم العجري في هذا السياق توضيحًا لما توعَّد به قائد الثورة، في خطابه الأخير، بشأن الاستعدادات القتالية للعام الجديد، حَيثُ يؤكّـد عضو الوفد الوطني أن “الصواريخ البعيدة ستكون جزءًا من معادلات فك الحصار أكثر من أية مرحلة سابقة” مُذَكِّرًا بإشارة قائد الثورة إلى أن هذه الصواريخ “فتاكة وعالية الدقة”.
ويضيفُ أنه: “إذا عادت الحرب فستكون على أَسَاسِ معادلة النفط مقابل النفط والمطارات مقابل المطارات، وستكون لها تداعيات كبيرة على المنطقة”.
هذه المعلوماتُ تحدِّدُ بشكل دقيق طبيعةَ المرحلة التي ستنطلق بعد انتهاء حالة “خفض التصعيد” التي يبدو بوضوح أنه لم تتبقَّ منها إلا مساحة اتِّخاذ القرار النهائي من قبل العدوّ؛ فالحديثُ عن “معادلات فك الحصار” يبلور فكرة واضحة عن طبيعة التوجّـه القتالي لصنعاء وعن طبيعة العمليات العسكرية التي ستنفذ؛ فمن الواضح أن هذه العمليات ستستهدف المنشآت الاقتصادية والحيوية الحساسة للأعداء، وهو أَيْـضاً ما كان قائدُ الثورة قد حرص على توضيحِه في خطابه عندما توعَّدَ باستهداف “المنشآت التي يعتمد عليها العدو”، و”تمزيق أنسجة الضرع الحلوب”، وهو توصيف يستخدم حصريًّا للمنشآت النفطية.
لكن ذلك ليس كُـلَّ شيء، فَـإنَّ تأكيدَ قائد الثورة على أن الصواريخَ ستكون فتَّاكةً وقوية التدمير، وتنبيه عضو الوفد الوطني إلى هذه النقطة بشكل خاص، يحملُ إشارةً إلى أن عمليات المرحلة القادمة ستكون عقابية أكثر منها تحذيرية، وأن العدوَّ قد يجد نفسه أمام ضربات تدمّـر منشآته الحيوية بشكل كامل بدلاً عن تدمير خزانات ومرافق معينة؛ الأمر الذي سيكون أثرُه غيرَ مسبوق.
هذه الإشارة تعززها أَيْـضاً إشارة أُخرى جاءت في خطاب قائد الثورة، بخصوص انتقال القوات المسلحة من تكتيكات الدفاع إلى تكتيكات الهجوم؛ وهو ما يعني بالضرورة حدوث تغيير جذري في طبيعة وتأثير العمليات العسكرية، بما في ذلك العمليات العابرة للحدود.
إن هذا الوعيدَ الدقيقَ في تفاصيله يمنحُ العدوّ فرصة أخيرة لمراجعة حساباته بشكل موضوعي لاتِّخاذ القرار النهائي؛ فإذا كانت العملياتُ العسكرية السابقة قد أحدثت تأثيرات مزلزلة فعلًا خلال المراحل الماضية ودفعت العدوّ إلى اللجوء للهُدنة، فَـإنَّ الانتقال إلى مستوى أعلى من الردع سيؤدي بلا شك إلى أضرار تصعُبُ العودة إلى ما قبلها، وقد تكون الهرولة بعدها إلى طاولة المفاوضات مرة أُخرى متأخرة جِـدًّا فيما يتعلق بإمْكَانية تدارك الضرر.
وبالإجمال، فَـإنَّ الرسائلَ والتحذيراتِ التي رافقت إحياءَ ذكرى يوم الصمود الوطني هذا العام، بما في ذلك رسائلِ التفويض الشعبي الكبير، تشيرُ كُلُّها وبوضوح إلى أن فترةَ التهدئة التي استمرت عاماً كاملا، لم تكنْ نتيجةً لنجاح العدوّ في ألاعيبه الالتفافية؛ لتفادي كلفة استمرار العدوان والحصار، بل كانت فاصلًا عملت فيه صنعاء على إعداد العُدَّة لإطلاق مرحلة أُخرى من المواجهة القتالية تختلفُ كَثيراً عن المرحلة الأولى التي استمرت ثَمَـانِي سَنَوَاتٍ، وأن هذا الفاصلَ لم يعد يتسعُ إلا لاتِّخاذِ الخيار الأخير من جانب العدو: إما السلامُ الشاملُ الفعلي غيرُ المنقوص، أَو الحربُ الحاسمة.
المسيرة