رئيس تحرير موقع “الميادين نت “يكتب عن : “طوفان الأقصى” وجبهات الإسناد (2-3) لماذا اليمنيون راديكاليون إلى هذا الحد؟
كان استثمار ورقة المضائق وإغلاق مخارج البحر الأحمر أدوات الجيوش العربية في حروبها ضد “إسرائيل”، ولكن ما يربك الاحتلال اليوم أن اليمن وحده، بقواته المسلحة، يفعل ذلك!
ابتداءً، لا بد من الإشارة إلى أن استخدام مفردة “الراديكالية” يأتي هنا للدلالة إلى “الجذرية”، وليس إلى التطرف، على الطريقة التي تحاول فيها وسائل الإعلام الغربية حرف اتجاه المصطلح.
اليمن راديكالي (جذري)، لأنه لم يسمح أن يُطبَّق القانون الدولي بانتقائية، ضد الفلسطينيين دائماً ومع “إسرائيل” غالباً. اليمن راديكالي لأن لسان حاله يقول، إذا كانت علاقات القوة هي المعيار الوحيد في المواجهة، وإذا كان الغرب يسمح لـ”إسرائيل” باستخدام كل أوراق الضغط والقهر المحتملة (استهداف مستشفيات، وقود، أطفال، نساء، طعام، ماء، مبان، إلخ…)، فإن اليمنيين قرروا أن يدعموا فلسطين على طريقتهم الراديكالية الخاصة، ولسان حالهم يقول: “ليس من المفروض أن يثير احتجاز السفن التجارية الإسرائيلية استنكاراً دولياً؛ إذا لم تثره صور الأطفال الخدج في غزة”.
إذا كانت جبهة غزة تشهد مواجهة برية حامية وإطلاقاً دورياً للصواريخ، وكانت جبهة حزب الله في جنوب لبنان تبدع في الإصابات والعمليات الدقيقة والفعّالة ضد مواقع الاحتلال وآلياته، فإن اليمن هو “مايسترو” الجبهة الراديكالية، التي تردّ بالأدوات التي يفترض المجتمع الدولي أن العرب لا يستطيعون استخدامها، ويقلقون من ردود الفعل بعدها. لماذا اليمن تحديداً يستسهل في دعمه لغزة احتجاز سفن الاحتلال التجارية، ويستسهل أيضاً إطلاق صواريخه من فوق السفن الحربية الأميركية؟
1. خرافة التخلف والتقدم: عندما كانت بريطانيا توسع إمبراطوريتها الاستعمارية، وصلت إلى عدن واستولت عليها عام 1839، واستثمرت في بيئة مفتتة من المشيخات لمدة 120 عاماً، إلى اللحظة التي أعلنت عن تأسيس اتحاد إمارات الجنوب العربي عام 1959 (الذي كان عبد الناصر يسميه الجنوب العربي المزيف، نظراً إلى ارتباطه بالاستعمار البريطاني). حدث كل ذلك وصنعاء عصية على الاستعمار؛ ويستخدم اليمنيون الأمر مادة للنكتة (نحن نعيش هكذا بطريقتنا الخاصة، لأن الاستعمار لم يصلنا).
بعد أن شكل وسط اليمن وشماله حالاً عصية على الاستعمار البريطاني، شكل لاحقاً عقدة لمنظومة العولمة الأميركية، ومثّل حالة صعبة من الاندماج. تبلغ نسبة مستخدمي الإنترنت في اليمن عام 2017م 26% وهي نسبة متدنية عالمياً، في معدل عالمي بلغ 54% من العام نفسه، ولم تكن هذه النسبة أحسن حالاً قبل الحرب.
أعلى قيمة لمؤشر الحرية المالية التي وصل إليها اليمن بلغ 30 نقطة، في الوقت الذي يصل فيه المعدل العالمي للمؤشر نفسه في 180 دولة 49 نقطة؛ ما يعني أن اليمن بعيد عن مؤشرات “الحرية المالية”. يقدم اليمن مثالاً صارخاً على نتائج الانسحاب من العولمة في بلد فقير (نتحدث هنا عن نتائج ذلك حتى في الفترة التي سبقت الحرب العدوانية التي شنت ضد هذا البلد).
مع أن مؤشر استخدام الإنترنت منخفض في اليمن، فإنّ القوات المسلحة اليمنية نفذت عملية احترافية مصورة في السيطرة على السفينة، وملأت مشاهد الفرقة المدربة تدريباً عالياً الإنترنت، الذي لا يكثر اليمنيون من استخدامه.
الأهم في هذا النوع من المؤشرات ليس القيمة، لا يهم كم منا يستخدم الإنترنت، ولا يهم كم جيجابايت نستهلك، ولكن الأهم كيف نستخدمها، وفي أي موضوعات؟ (لا ينفي هذا الحديث ضعف البنية التحتية للاتصالات في هذا البلد، حتى قبل الحرب).
اليمن بلد مفصول عن منظومة العولمة، حافظ على هوية خاصة، انعكست على طبيعة رؤيته للصراع. اليمن ينظر إلى القضية الفلسطينية بالطريقة نفسها منذ الاحتلال عام 1948م، وبالطريقة نفسها لفترة الحروب التي خاضتها الجيوش العربية. وكأن مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو واتفاقيات أبراهام والسوشال ميديا، لم تغيّر شيئاً في رؤية اليمنيين لطبيعة هذا الصراع، وطريقة تعبيرهم في أي مواجهة فيه.
ينعكس الانسحاب اليمني من منظومة العولمة المضللة حتى على هتاف الناس، شعاراتهم، المسيرات الحاشدة، نبرة الخطاب للعميد يحيى سريع في بيانات القوات المسلحة. باختصار، لليمن منطقه الخاص في التعبير، بعيداً من “تشذيب” العولمة و “تقليمها”؛ ويتراءى ذلك للمستلبين لخطاب العولمة كأنه تخلف وتأخر، ولكنه في حقيقة الأمر السلوك الطبيعي للمجتمعات التي لم تنصهر في بوتقة الكذب العالمية.
2. النتائج الطبيعية للحرب: جرّب اليمن حرباً طويلة شنت عليه من قبل التحالف السعودي-الإماراتي، دمرت فيها المباني، وراح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء. عرف اليمن خلال الحرب الطويلة معنى تواطؤ الموقف الدولي، وعرف معنى أن يكون ترامب مشغولاً بجمع المال وتوقيع الاتفاقيات مع المملكة في ظل استعار الحرب وبيع المزيد من السلاح، وعرف زيف وعيد بايدن قبل الفوز في الانتخابات، الذي لم ينفذ بعدها.
عرف اليمن معنى السكوت العربي عن المذابح والمجازر خوفاً من انقطاع المساعدات المالية الخليجية أو الخوف على مصير العائلات التي تعمل في شركات الخليج وأسواقه.. لأن اليمن خرج من كل هذه الحسابات فهو راديكالي، ولأنه عرف كذبة “القانون الدولي” فهو لا يهتم كثيراً في تصريحاته بالحديث عن الأمم المتحدة أو غيرها من الهيئات الدولية، وتشغله أكثر علاقات القوة وميزانها.
الحرب الطويلة والشعور بالخذلان خلالها، ورصيد تاريخي من التصدي للاستعمار وتجربة طويلة في الانسلاخ عن العولمة وعدم الاندماج فيها؛ جميعها شكلت الوصفة اليمنية للراديكالية في التعامل مع الأحداث الكبرى.
كان استثمار ورقة المضائق وإغلاق مخارج البحر الأحمر أدوات الجيوش العربية في حروبها ضد “إسرائيل”، ولكن ما يربك الاحتلال اليوم أن اليمن وحده، بقواته المسلحة، يفعل ذلك!
صحيح أن اليمن راديكالي، للسببين المذكورين (انعكاس سيكولوجيا الحرب + تاريخ مواجهة الاستعمار والانسلاخ عن العولمة)، بيد أن أنظمة الحكم العربية ترى في خطوات اليمن “قرصنة” أو فعلاً “يناقض القانون الدولي” لأنها تريد أن تتمنع عن الحد الأدنى من الدعم والانخراط من جهة، ولأنها لم تعد ترى العالم إلا بعدسات العولمة من جهة ثانية!
طوفان الأقصى وجبهات الإسناد (1-3).. حزب الله ومبدأ الجبهة الوفيّة
أثبت حزب الله في طوفان الأقصى أنه يجيد التعامل مع التطورات الميدانية مع الاحتلال بمنطق “القلب الدافئ والعقل البارد”، كيف؟
مع استمرار معركة طوفان الأقصى، وتحوّلها إلى ملحمة حقيقية في تاريخ المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، يتكرّس أكتوبر كشهر المحاولات الجادة لمواجهة الاحتلال من جهة، وتتسم هذه المحاولات بسمة “تعدد الجبهات” من جهة أخرى.
لكن أكتوبر 73 ينطوي على تجربة متباينة عن نظيره الأصغر بـ 50 عاماً، ففيه انطلقت الحرب بتوقيت متزامن ومنسق بين الجيشين السوري والمصري. اتفق الطرفان على توقيت محدد، وبدايات ميدانية محددة. لم يترك الجيشان الكثير لمتغيرات الميدان، وبذلك كانت شجرة اتخاذ القرارات (decision Tree) شبه جاهزة لمختلف الاحتمالات.
في المقابل، انطلق “طوفان الأقصى” بتوقيت فلسطيني خالص، الأمر الذي أضاف أعباء على سائر أطراف المقاومة للاستجابة السريعة، والتي أبدعت فيها، ولم تتأخر. ولأن العملية أحيطت بسرية كاملة (كان ذلك ضرورياً في كل الأحوال)، لم يكن هنالك تنسيق مسبق لمتغيرات الميدان، التي انطوت على مفاجآت كثيرة، حتى على الفلسطينيين أنفسهم.
تكمن المفارقة بين التجربتين، أنه على الرغم من التنسيق المسبق الكامل عام 73، فإن الجيش السوري تُرك وحيداً في ميدان المعركة، بعد أن تلقّفت مصر قرار وقف إطلاق النار في الـ22 من أكتوبر، وسعت من أجله، واستخدمته في تأسيس مرحلة جديدة من العلاقة بالاحتلال.
كانت صورة الجيشين في بداية الحرب تعطي أملاً كبيراً للجمهور العربي: الزخم المصري إلى جانب النبض السوري؛ مصر بجيشها الأكبر، والأكثر تجهيزاً، تحديداً براً وبحراً، إلى جانب سوريا المشاكسة العنيدة.
أما في أكتوبر الجديد، فعلى الرغم من عدم معرفة حزب الله بالتوقيت، ومفاجأته بالعملية صباح السابع من أكتوبر، فإنه صاغ خطة الاستجابة والتنسيق بسرعة (ربما تسبب ذلك باستشهاد عدد أكبر من عناصر المقاومة في الأيام الأولى، إذا ما قورنت بالأيام اللاحقة). كانت حسابات حزب الله تنطلق من قاعدة “كيف يبدأ الدعم والإسناد؟”، وليس من قاعدة “هل نفتح جبهة إسناد؟”. منذ السابع من أكتوبر، فتحت جبهة الإسناد، بزخمها وروحها، ولا تبدو أنها ستتوقف بمعزل عن توقف الحرب الدائرة في غزة.
كيف تحرّكت الجبهة الذكية؟
أثبت حزب الله في طوفان الأقصى أنه يجيد التعامل مع التطورات الميدانية مع الاحتلال بمنطق “القلب الدافئ والعقل البارد”. في الساعات الأولى من العملية، كانت المشاهد التي جاءت من غزة تحمل سيميائية من نوع غريب ومُنتظر: مشاهد لجنود الاحتلال، منقادين، وأذلاء، وجرحى وضعفاء، يتهاوون ببساطة عن أسقف الدبابات.
أثارت هذه المشاهد توقعات متعجلّة: “إننا في اليوم الأول من حرب التحرير”. وحده السيد نصر الله كان يقرأ المشهد بروية أكبر، وإن كان بحماسة أكبر أيضاً (مجدِّداً معادلة القلب الدافئ والعقل البارد). إنها لحظة عظيمة في تاريخ الصراع، وصفعة عميقة للاحتلال، لكنها ليست لحظة “الضربة القاضية والنهائية”. انطلاقاً من هنا، عملت جبهة حزب الله الذكية منذ اليوم الأول، وفق قواعد مدروسة بدقة:
1. أبراج المراقبة والرادارات أولاً: حاول البعض التقليل من أهمية الإصابات لمعدات المراقبة والرادارات في الأيام الأولى، وتوصيفها كـ “جبهة حرب ضد أبراج الاتصالات”. كانت الخطوات الأولى في التركيز على هذه المعدات، بالإضافة إلى خساراتها المادية، تزيد في الارتباك الإسرائيلي في تفسير هذا الفعل.
أن يكون البدء بهذا النوع من الأهداف، يعني التهيئة لإغماض عيون المراقبة وإطفائها، تمهيداً لخطوة ما (اجتياح بري مثلاً)، الأمر الذي أبقى حالة التأهب الإسرائيلي في الشمال في أعلى حالاتها، الأمر الذي يعني، بطبيعة الحال، تخفيف الضغط عن غزة. وبسبب عدم قدرة الإسرائيلي على ترك هذه المعدات معطَّلة، فترةً طويلة، أصبح فريق الصيانة لها هدفاً جديداً للمقاومة في لبنان.
2. الردود السريعة: لو راجعنا البيانات الصادرة عن المقاومة الإسلامية في لبنان، والتي كانت مختصرة ومركَّزة ومكثَّفة، لوجدنا أنها مقسَّمة وفق هيكلية موحدة لافتة للانتباه: الجزء الأول بآية من القرآن الكريم؛ الثاني مبرِّر العملية وسببها؛ الثالث أدواتها “الأسلحة الملائمة”؛ الرابع نتيجتها “إصابات دقيقة”؛ الخامس خاتمة (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).
لو قمنا بمراجعة هذه البيانات لوجدنا أن العمليات كانت دائماً دعماً للشعب الفلسطيني الصامد، وإسناداً للمقاومة في غزة (وهو سبب أساسي ومركزي وحاضر دائماً)، يُضاف إلى ذلك أحياناً سبب راهن وطارئ (ردّ أولي على استهداف الصحافيين فرح وربيع؛ رد على قصف مصنع الألمنيوم؛ رد على استهداف المنازل في القرى الجنوبية… إلخ). سرعة الردود هي سمة مشاركة حزب الله في هذه الحرب، فغالباً ما يكون الرد بصورة مباشرة بعد الحادثة (لا تتجاوز 24 ساعة)، وفي ذلك تجاوزٌ لمرحلة “الرد في المكان والزمان الملائمين”.
3. الإصابات الدقيقة: لم تدخل المقاومة الإسلامية في لبنان في لعبة “الكمّ غير المجدي”. الرصاص الذي استُخدم أصاب أهدافه. صواريخ بركان التي أُطلقت حققت النتائج المرجوة. دبابات الميركافا التي استهدفت تضررت أو عُطبت. الثُّكَن التي استُهدفت تضررت أو تهدَّمت.
كل ذلك يعني أن العمليات، التي نفذتها المقاومة، استخدمت خلالها أسلحة/موارد بشرية كافية لتحقيق هدف، وحققته. ربما لا يوجد إلى الآن تقارير إحصائية دقيقة لنسبة العمليات الناجحة من مجمل المحاولات، إلا أن المتابعة الإخبارية تدلّل على أن هذه النسبة عالية، وربما تكون الأعلى في تاريخ المواجهة مع الاحتلال.
4. التصعيد التدريجي والتراكم: استخدام آليات “العمل الذكي” بدلاً من “العمل المُجهد”، كان الأساس في تحقيق زخم النتائج الجيدة للمقاومة، والتي وثّقت النتائج لـ45 يوماً من الحرب (أكثر من 354 جريحاً وقتيلاً، إخلاء 43 مستوطنة، إجلاء 70 ألف مستوطن، عطب أكثر من 21 نظام تشويش و170 كاميرا، استهداف 40 موقعاً عسكرياً 275 مرة، عطب أو تدمير 21 آلية).
تُضاف إلى ذلك كله النتائج المعنوية (الهجرة العكسية، عدم العودة إلى مستوطنات الشمال، الضغط على خدمات الدعم النفسي… إلخ) والنتائج المتعلقة بالتخطيط الاستراتيجي (القلق من استنفاد مخزون السلاح في غزة، تجميد حركة فِرَق عسكرية وطائرات ودبابات لحسابات تتعلق بالشمال… إلخ).
5. لا هدنة ولا وسيط: الجبهة الوحيدة في الحرب، التي تمتلك وسيطاً للتفاوض، هي جبهة غزة. لا حزب الله في لبنان، ولا القوات المسلحة اليمنية، ولا المقاومة العراقية، لديها أي وسيط. لذلك، تتحرك هذه الجهات بمنطق موقعها كجبهات إسناد، وفق تأثير ضمني ومفهوم بحسب التطورات في غزة، لكنّ استقراء موقف هذه الجبهات (الهدنة الضمنية من عدمها) يشكل عامل ضغط إضافياً على “إسرائيل”.
عن مستوى التدخل والإسناد، ومساره الزمني، وطبيعة التدخل في اليوم الأول وطبيعته في اليوم الخمسين… لو راجعنا ذلك بهدوء وتمعّن، لأدركنا أن الجبهة التي فتحها حزب الله من جنوبي لبنان، لم تكن قوية ووفية فقط، بل كانت ذكية أيضاً!