“دولة للشعب”:المسؤولية الرسمية في ميزان الشهيد الصماد
“نُريدُ دولةً للشعب، لا شعباً للدولة”.. بهذا المبدأ لخَّصَ الشهيدُ الرئيسُ صالح الصماد، رؤيتَه ومنهجَه في العمل الرسمي، كرئيس، وكمسؤول بشكل عام، وهو المبدأ الذي جسده فعلاً في كُـلّ تحَرّكاته خلال فترة عمله ليكون نموذجًا استثنائيًّا لرجل الدولة المكرس لخدمة الشعب والحرص على مصالحه، إلى حَــدِّ أن تركة الفساد الثقيل للأنظمة السابقة وظروف العدوان والحصار برغم قسوتها، لم تستطعْ أن تحولَ دون منهجه النهضوي الشامل الذي تبلور كنظرية متكاملة في مشروعه التاريخي “يد تحمي ويد تبني”، وتبلور عمليًّا بالفعل في تفاصيل مسيرته العملية وُصُـولاً إلى تضحيته الفدائية العظيمة.
من الشعب ومعه
لم يكن مبدأُ “دولة للشعب” مُجَـرّد شعار دعائي أطلقه الشهيد الرئيس، فهو لم يتعامل أبداً مع السلطة من زاوية الدعاية والشكليات، ولعل أبرز ما عكس التزامه العميق بذلك المبدأ، قربه الاستثنائي من الجمهور.
تحتفظ الذاكرةُ الجماهيرية للرئيس الصماد برصيد ليس له مثيل من المشاهد والمحطات التي كسر فيها الصورة النمطية المألوفة لشخصية “المسؤول”، من خلال قربه من الشعب، وهو قرب كان بعيدًا تماماً عن أغراض الدعاية والتسويق، فالصماد كان شخصية تلقائية وعفوية لم تستطع السلطة أن تدفعه نحو التصنع أبداً، كما أن المقاصد الدعائية ترتبط عادة برغبة التشبث بالكرسي، وهو أمر لم يكن ضمن أجندة الرجل الذي طلبه الكرسي ولم يطلبه.
من خطوط التماس المشتعلة إلى المعسكرات إلى ورش التصنيع العسكري إلى المسجد إلى الشارع إلى المسيرات الشعبيّة والفعاليات، كان حضوره دائماً ومتكرّراً وتلقائياً كما يليق برجل “دولة للشعب”، وفي الوقت نفسه كانت أبوابُه مفتوحةً للجميع، وإن بدا كُـلُّ ذلك “طبيعيًّا” بالنسبة لـ “نظرية” الحكم العادل، فقد كان في حالة الشهيد الصماد حالة استثنائية؛ لأَنَّ اليمن لم يألف هذا النوع من المسؤولين -فضلاً عن الرؤساء- من قبل، كما أن المسألة لم تكن تتعلق بمُجَـرّد التواجد مع الشعب والاقتراب منه، بل أَيْـضاً بالانتماء الصادق والعميق الذي كان يحملُه الشهيد الصماد للبسطاء والعامة، فوجودهُ معهم لم يكن “تنازلاً” كما هي الحال مع غيره.
“ثورة” على روتين العمل الرسمي
هكذا كان الشهيد الصماد أول من جسد مشروعه، فكان بشخصيته أولاً “رئيساً للشعب”، ثم كان كذلك بمنهجه العملي الاستثنائي، فتواجده مع الجمهور كان يأتي ضمن أجندته العملية، وليس شيئاً زائداً عليها، الأمر الذي يسلط الضوء على رؤيته الفريدة لطريقة أداء العمل الرسمي، والتي يمكن القول إن أبرز مميزاتها كان كسر الروتين المألوف.
كان بوسع الرئيس الصماد أن يدير الأمور من مكتبه كما جرت عادةُ المسؤولين والرؤساء، وخُصُوصاً في ظل الظروف التي فرضها العدوان، وليس الأمر أنه كان يريد أن يُرى في ميدان العمل، بل المسألة ببساطة هي أن الرجل لم يكن يؤمن بالإنجاز بدون الحضور، وهذا ما يستخلص بوضوح من كلماته نفسها في أكثر من مناسبة، منها حفل تخرج الدفعات العسكرية الذي أصر على حضوره برغم المخاطر الأمنية؛ لأَنَّ “دماءه ليست أغلى من دماء الشهداء والجرحى”.
يمكن القول بالتالي: إن المسؤولية في نظر الشهيد الصماد كانت تتناقض مع وجود “الحواجز” بين المسؤول والجمهور، وهو أُسلُـوب إداري مميز يمكن تتبع أصوله النظرية في الكثير من التعليمات والنصوص وسير القادة المؤثرين عبر التاريخ، لكن ليس بالإمْكَان تتبع أي أثر عملي لهذا الأُسلُـوب في الواقع اليمني المعاش قبل ثورة 21 سبتمبر أبداً، وبالتالي فَـإنَّ ما فعله الشهيد الصماد كان جديدًا إلى حَــدٍّ كبيرٍ بالنسبة للذاكرة الشعبيّة والجماهيرية التي لم تكن تحتفظ بصورة محببة للمسؤولين والرؤساء وللعمل الرسمي.
وقد أثبت الرئيس الصماد -برغم قصر فترته الرئاسية- فاعليةً مدهشةً لهذا الأُسلُـوب الإداري إلى حَــدِّ أن ظروفَ العدوان والحصار وتركة الأنظمة السابقة من الفساد والفوضى، لم تستطع أن تقطع طريق المسار الإصلاحي الذي قاده على المستوى الرسمي الذي يتميز بصعوبة معالجة اختلالاته؛ لأَنَّها تتحوَّلُ بمرور الوقت إلى “أمر واقع” تكرسه أَيْـضاً لوائح “البيروقراطية” والفساد.
ومنهجُ الرئيس الصماد في العمل الرسمي لم يكسر الروتين المألوف في المتابعة والرقابة فحسب، بل أَيْـضاً في مضمون العمل الرسمي نفسه، فالخطط والأهداف التي كان يتحَرّك لتنفيذها كانت تتمحور حول بناء دولة جديدة وليس “ترقيع” ما هو موجود.
وقد عكس مشروع الدولة اليمنية الحديثة “يد تحمي ويد تبني” بوضوح هذه الرؤية “الثورية” لدى الشهيد الصماد، وهو الأمر الذي سيظل سقفاً رئيسياً لمسار الإصلاحات في العمل الرسمي.
رجلُ “الأولويات”
من مفاعيل “ثورة” الشهيد الصماد على روتين ونمط العمل الرسمي، تركيزه على أولويات المرحلة، فالإمْكَاناتُ والظروف لم تسمح له بأن يطبق رؤيته الواسعة بشكل كامل، لكنه استغل كُـلّ ما يمكن لتحقيق الأهداف ذات الأولوية، وهو ما يعكس أَيْـضاً حنكته كقائد وكمسؤول في تحديد المهم والأهم وفقاً لما يتطلَّبُه الوضع.
لم يعد خفيًّا أن الشهيد الصماد أعاد بناء المؤسّسة العسكرية اليمنية من الصفر في معظم مجالاتها، وهي مهمة لا زالت أقربَ إلى “المعجزة” حتى بالنسبة للأساليب “الاستثنائية” في العمل، فضلاً عن نمط العمل العادي، الأمر الذي يجعلها تجربة تاريخية فريدة وجديرة بالدراسة والتخليد.
ما زالت ثمارُ هذه المهمة -التي أنجزها بكل تفرد- تُجْنَى حتى اليوم، على الرغم من أن الكثير من الأصوات كانت تحاول تجاهل أولوية هذه المهمة آنذاك، وتسعى لصرف نظر الدولة للغرق في تفاصيل أُخرى جانبية.
وإلى جانبِ بناء القوة العسكرية للبلد، كان الحفاظ على وحدة الصف الوطني من أبرز المحطات التي برهن فيها الشهيد الصماد على استثنائيته كقائد وكمسؤول يعرف أولوياته جيِّدًا، فالمرحلة التي تولى فيها رئاسة المجلس السياسي الأعلى كانت حساسة للغاية في ظل وجود مؤامرة خطيرة تنمو داخلَ الجبهة الوطنية، وعلى الرغم من اطلاع الدولة على تلك المؤامرة من قبل إعلانها، استطاع الشهيد الصماد أن يمارسَ دورَه كقيادةٍ رسمية “جامعة” وحلقة وصل لتقريب وجهات النظر وتوحيد الصفوف، وبمتابعة حثيثة وحضور مباشر، تمكّن من سحب البساط من تحت أقدام تيار الخيانة الذي وجد نفسَه في النهاية معزولاً ووحيداً بشكل كامل وبصورة لم يكن يتوقعها.
هكذا، كان الشهيد الصماد في كُـلّ ميادين عمله كمسؤول وكقائد، متميِّزًا برؤية ناضجة تستوعب كُـلّ المتغيرات وتحتوي الجميع وبأُسلُـوب ثوري تلقائي حطم كُـلّ “حواجز” البيروقراطية و”عقد السلطة” ليبرز ويحقّق الغاية الرئيسية من المنصب وهي خدمة الشعب.
صحيفة المسيرة