دعبل الخزاعي المشهور بهجائه اللاذع لخلفاء بني العباس
دعبل الخزاعي المشهور بهجائه اللاذع لخلفاء بني العباس
هو محمد بن علي بن رزين، المعروف بدعبل الخزاعي, من شعراء العصر العباسي، ولد في الكوفة سنة 148هـ، ولُقّب بدعبل لدعابة كانت فيه. اشتهر بحبه لآل البيت وعداوته لأعدائهم, فمدح هؤلاء وهجا أولئك لا سيما خلفاء الدولة العباسية المعاصرين له .
عاش دعبل الخزاعي في بيت علم وفضل وأدب، برز فيه محدثون وشعراء, وهو سليل أسرة ثبت رجالها على مبادئ الإسلام, وعلى رأسهم بطل الإسلام العظيم عبد الله بن ورقاء الذي كان هو وأخواه (عبد الرحمن ومحمد) رسل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) إلى اليمن.. (وكان الثلاثة وأخوهم الرابع (عثمان) من فرسان أمير المؤمنين الشهداء في صفين)
تربيته
نشأ في أسرة اشتهرت بالشعر, فجده رزين وعمه عبدالله وابن عمه الملقب ب(أبي الشيص) من الشعراء المشهورين, وعنهم جميعاً أخذ دعبل ومنهم استقى وتعلم؛ فتلقف أبجدية الشعر وأصوله، وفهم معانيه وغاص في بحوره، وحفظ الكثير الكثير من الأبيات والقصائد.. إلا أنه لم يشرع في النظم، وعاهد نفسه ألا يفعل ذلك إلا بعد أن ينهل المزيد من منابع الشعر الأصيلة، ويتقن صناعته اتقاناً جيداً..
رافق دعبل مسلم بن الوليد وكان شاعراً حسن الأسلوب؛ ليأخذ الأدب عنه ويستقي من فنونه، وعبر دعبل عن تلك الفترة بقوله: ما زلت أقول الشعر وأعرضه على مسلم فيقول لي: اكتم هذا.. حتى قلت:
أين الشباب؟! وأيّة سلكا؟! لا أين يطلب؟! ضلّ بل هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
فلما أنشدته هذه القصيدة قال: اذهب الآن فأظهر شعرك كيف شئت ولمن شئت!
سرّ دعبل لهذه النتيجة وانطلق مارده الشعري من عقاله وراح ينشد أحلى القصائد وأعذبها.. ولأنه تربى على محبة أهل البيت(ع) والولاء لهم، فقد كرس شعره من أجل الدفاع عن البيت النبوي الطاهر والتجاهر بأحقيتهم دون مبالاة بالموت الذي كان يترصده.
وله من قصيدة طويلة في رثاء الإمام الحسين يقول فيها:
يا آل أحمد ما لقيتم بعده من عصبة هم في القياس مجوس
كم عبرة فاضت لكم وتقطعت يوم الطفوف على الحسين نـفوس
ما زلت متّبعاً لكم ولأمركم وعليه نفسي ما حيـيـت أسوس
جرأته وشجاعته
سافر دعبل الخزاعي إلى بغداد وأقام فيها زمن المأمون, فاختلط بأدبائها وشعرائها فاكتسب منهم ما أغنى تجربته، فبلغ الذروة في نشاطه الشعري واتقان صناعته؛ فنظم في بغداد أقوى وأشهر قصائده.
وبسبب الجرأة والهجاء كثر أعداء الشاعر ومناوئوه، فتربصوا للوقيعة به وقتله، لكنه لم يبال ورد عليهم بقصائد أشد وأقوى. واشتهر بقوله: (أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها)!! وبسبب بأسه الشديد وقوة حجته تجنب الكثير لسانه, قيل للوزير محمد بن عبد الملك الزيات: لم لا تجيب دعبلاً عن قصيدته التي هجاك فيها؟! قال: إن دعبلاً جعل خشبته على عنقه يدور بها يطلب من يصلبه بها دون أن يبالي .
وكان الوزير الزيات على حق، فدعبل لم يعرف الخوف ولم يتردد في هجاء الخليفة المأمون قائلاً:
لا تحسبن جهلي كحلم أبي فما حلم المشايخ مثل جهل الأمردِ
إني من القوم الذين سيوفهم قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خمولة واستنقذوك من الحضيض الأوهد
يقصد بمحمد الأمين أخا المأمون الذي قتله طاهر الخزاعي وبذلك ولي المأمون الخلافة.
نبوغه
لم يكتف دعبل الخزاعي بنبوغه في الشعر, فقد نبغ في الأدب والتاريخ وألف فيهما، وانتشر خبر كتابه (الواحدة) في مناقب العرب ومثالبها انتشاراً عجيباً, ونجح كتابه القيّم (طبقات الشعراء) نجاحاً كبيراً واعتبر المرجع الكبير ومن الأصول المعوّل عليها في الأدب والتراجم؛ لما تضمنه من معلومات نادرة وموثقة عن شعراء البصرة – وشعراء الحجاز – وشعراء بغداد وأخبارهم…
وديوان دعبل الخزاعي خير شاهد على نبوغه ومقدرته الفذة على سبك القصائد المتينة وحسن اختياره للمواضيع.
عرف عن دعبل الخزاعي شدة ولائه لآل البيت والجهر بحبهم لذا أنشد بحقهم أجمل القصائد العربية وأحسنها على الإطلاق ولم تزل الألسن ترددها على مر السنين.. يقول في قصيدة ذكّر فيها بولاية الإمام علي(ع):
سقـياً لبــيعـة أحمــد ووصــيه أعني الإمام وليّنا المحسـودا
أعنـي الذي نصر النبي محمداً قبـل البريّــة ناشــئاً ووليــدا
أعني الذي كشف الكروب ولم يكن في الحرب عند لقائه رعديدا
أعنـي الموحد قبل كل مــوحد لا عابــداً وثــناً ولا جلـمودا
مدارس آيات
اعتبرت قصيدة دعبل التائية (مدارس آيات) إحدى قمم البلاغة العربية وأحسن الشعر وامتازت بقوة التعبير وروعة الأداء، عدد أبياتها (121) بيتاً.. يقول فيها :
مدارس آيات خلت من تلاوة ومهبط وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى وبالبيت والتعريف والجمرات
ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنـات
ديار عفاها جور كل منابذ ولم تعف بالأيام والسنوات
منازل كانت للصلاة وللتقى وللصوم والتطهير والحسنات
منازل جبريل الأمـين يحلها من الله بالتسليم والزكوات
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات
إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم أكفّاً عن الأوتار منقبضات
وآل رسول الله نحف جسومهم وآل زياد أغلظ القصرات
ديار رسول الله أصبحن بلقعاً وآل زياد تسكن الحجرات
وآل زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفلوات
لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
مع المعتصم
بعد موت المأمون جاء المعتصم الذي كان يبغض دعبلاً لجرأته وقرر قتله فهرب إلى الجبل وقال يهجوه:
بَكى لِشَتاتِ الدينِ مُكتَئِبٌ صَبُّ وَفاضَ بِفَرطِ الدَمعِ مِن عَينِهِ غَربُ
وَقامَ إِمامٌ لَم يَكُن ذا هِدايَةٍ فَلَيسَ لَهُ دينٌ وَلَيسَ لَهُ لُبُّ
مُلوكُ بَني العَبّاسِ في الكُتبِ سَبعَةٌ وَلَم تَأتِنا في ثامِنٍ منهُمُ الكُتبُ
كَذَلِكَ أَهلُ الكَهفِ في الكَهفِ سَبعَةٌ خِيارٌ إِذا عُدّوا وَثامِنُهُم كَلبُ
وَإِنّي لَأُعلي كَلبَهُم عَنكَ رِفَعَةً لِأَنَّكَ ذو ذَنبٍ وَلَيسَ لَهُ ذَنبُ
وحين مات المعتصم وخلفه الواثق قال دعبل:
الحمد لله لا صبر ولا جلد ولا عزاء إذا أهل البلى رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد
وفاته
العمر المديد الذي عاشه دعبل بن علي الخزاعي ، والذي بلغ 98 عاماً، كان كابوساً على خلفاء بني العباس الذين عاصروه وعاصرهم، فقد هجا عدداً كبيراً منهم، هجاء مرّا دفع بعضهم أو عمّالهم، للسعي لقتله. إلا أن محاولة أخيرة لاغتياله نجحت، فتم الوصول إليه، من طريق رجل أرسلوه في هذه المهمة، فضربه بعكَّاز مسموم على ظاهر قدمه، فمات في اليوم التالي، وذلك في سنة 246 للهجرة.