خليج تونكين ومضيق باب المندب… مصادفة أم السير على نفس النهج ؟
الحقيقة /كتب/ الدكتور بهيج سكاكيني
خمسون عاما تفصل ما بين أحداث خليج تونكين في شمال فيتنام عام 1964 وأحداث مضيق باب المندب واليمن التي جرت في الأيام القليلة الماضية. وبالرغم من المسافة الزمنية التي تفصل ما بين الحدثين الا أن الذي أتيح له أن يعايش الحدثين لا بد ان يجد خيوطا مشتركة بين الحدثين.
وحتى لا يعتبرنا البعض اننا نتحدث بلغة “سنسيكريتية” دعونا نراجع التاريخ وبعض ما تمخضت عنه المعلومات التي أذن بالوصول اليها ونشرها في 1 ديسمبر من عام 2005 من قبل وكالة الامن القومي الأمريكي عن حادثة خليج تونكين الفيتنامي.
قبل نحو خمسون عاما وبتاريخ 2 أغسطس من عام 1964 حصل تبادل إطلاق نار بين المدمرة الامريكية Maddox التي أرسلت الى الشواطئ الشمالية لفيتنام وبالتحديد الى خليج تونكين بهدف جمع المعلومات الاستخبارية عن قوات فيتنام الشمالية التي كانت تدعى آنذاك الفيتكونج والتي كان يقودها الجنرال الفيتنامي الفذ جياب وتمرير هذه المعلومات للنظام العميل للولايات المتحدة في فيتنام الجنوبية.
وكانت قوات الفيتكونج حينها تحارب من أجل تحرير فيتنام الجنوبية وتوحيد شطري فيتنام. وكان أن حصل تبادل إطلاق النار عندما اقتربت هذه المدمرة الى شواطئ فيتنام الشمالية ودخلت مياهها الإقليمية.
وبعد يومين من هذا الحادث وبتأريخ 4 أوغسطس وبعد ارسال مدمرة أمريكية أخرى الى نفس المنطقة أبرقت المدمرتين الى واشنطن بأنهما تتعرضان الى نيران قوارب قوات الفيتكونج.
عندها لم ينتظر رئيس الولايات المتحدة ليندون جونسون نتائج التحقيق في هذا الحادث الذي لم يؤدي الى أي ضرر للمدمرتين حيث أنه قام بإعطاء الأوامر بالرد المباشر على هذا “الاعتداء”.
ووقفت خلفه الة الحرب الإعلامية لتؤجج الشعور الوطني وضرورة الرد بحزم على من تجرأ على توجيه النار الى المدمرتين واستطاعت تأليب الرأي العام الأمريكي ووقوفه مع القوات الامريكية.
وقام الرئيس ليندون جونسون بالطلب من الكونغرس تخوليه بزيادة التواجد العسكري الأمريكي في منطقة جنوب شرق آسيا بما فيه فيتنام ولاوس وكمبوديا.
لم يحتسب الشعب الأمريكي عندها أن تعود القوات الامريكية في عام 1975 بعد هزيمة شنعاء على يد الشعب الفيتنامي الفقير ولكنه الغني بعزته وكرامته ويأبى ان يقبل بالذلة كما هو حال الشعب اليمني الذي يقود معركة الاستقلال والحرية والتخلص من عقود من التبعية والعبودية والهيمنة لآل سعود على اليمن ومقدراته.
عاد الجيش الأمريكي بعد أن قتل ما يقرب من 50000 من قواته وعشرات الالاف من جنوده المصابين بعاهات جسدية ونفسية وبعد أن وصل عدد الجنود الأمريكيين الذين خدموا في فيتنام لوحدها ما يقرب من نصف مليون جنديا. ولقد أدت الحرب البربرية التي استشهاد ما يقرب من 2 مليون فيتنامي وهو ما دفعه الشعب الفيتنامي ثمنا للحرية الاستقلال.
المعلومات التي حصل عليها والتي نشرت من قبل وكالة الامن القومي الأميركي وبعد التمحيص بها من قبل العديد من الخبراء العسكريين والمؤرخين تدلل بما لا لبس فيه أن الحادث الذي أدعت القوات الامريكية بحدوثه بتأريخ 4 أوغسطس أنه لم يحصل على الاطلاق.
بمعنى أن القصة كانت مفبركة وكان هدفها إعطاء الحجة والتبرير للعدوان على فيتنام الشمالية وهو ما كانت تخطط له إدارة الرئيس جونسون ولكنها كانت تنتظر مبرر مناسب وموافقة الكونغرس عليه حتى يكتسب التدخل العسكري الصفة القانونية الأميركية.
واليوم نعود الى اليمن لنرى التشابه والتماثل في قضية “الاعتداء” على مدمرتين أمريكيتين بتأريخ 9/10 والثاني اليوم بتأريخ 12/10 وتدعي الولايات المتحدة أن المدمرتين كانت تتواجد في المياه الدولية بالقرب من باب المندب عند تعرضهما في كلا الحادثتين لصواريخ أطلقت من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون من أنصار الله.
هذا في الوقت الذي تنفي فيه حركة أنصار الله وكذلك الجيش اليمني من إطلاقهم لأية صواريخ على المدمرتين الامريكيتين.
من المؤكد أن الولايات المتحدة لن ترتكب ما ارتكبته في فيتنام بمعنى إرسال قوات راجلة الى اليمن بهذه الأعداد الضخمة لأنها تدرك من تجاربها في أفغانستان والعراق أن هذا سيكلفها غاليا بأرواح جنودها وهي لا تريد إعادة تجربة ارسال جنودها القتلى في الاكياس السوداء الى واشنطن.
بالإضافة الى أنها على غير استعداد أن تدافع عن الغباء السعودي بشن هذه الحرب العدمية والتي وبالرغم من مضي ما يقرب من العام والنصف من القصف الجوي والبحري والبري المتواصل وتجنيد عشرات الآلاف من المرتزقة من كولومبيا والباكستان والسودان وغيرها من الدول وتدمير كافة البنى التحتية في اليمن من طرق ومحطات كهرباء وشبكات توزيع المياه والغاز والمدارس والجامعات والمزارع وصوامع الحبوب ومصانع الادوية والغذاء واللائحة تطول، هذا عدا عن الحظر الجوي والحصار البحري والبري ومنع وصول المساعدات الانسانية للشعب اليمني وارتكاب العديد من المجازر التي كان آخرها قصف صالة للعزاء في صنعاء والتي ذهب ضحيتها حوالي 115 شهيدا وما يقرب من 600 جريح في عملية جبانة وحاقدة والتي ادينت من قبل العديد من دول العالم ومنظمات حقوق الانسان وغيرها التي طالبت بتحقيق من قبل لجنة اممية محايدة.
ولكن من المؤكد ان آل سعود سيدفعون مئات الملايين من الدولارات لتفادي تحمل المسؤولية كما عهدناهم وعهدنا ما يسمى “بالمجتمع الدولي” والأمم المتحدة بالتعاطي مع المجازر التي ترتكبها السعودية في اليمن على الرغم من تصريحات السيد بان كي مون فلقد رأينا في السابق تراجعه الجبان في العديد من المواقف مقابل البترو-دولار السعودي.
ورأينا كيف أوكل “لقوات التحالف” الذي يقوده آل سعود التحقيق بالجرائم التي ارتكبها هو في اليمن وذلك كلما علت الأصوات الأممية مع كل مجزرة ارتكبت من قبل هذا التحالف المجرم، بمعنى إعطاء القاتل مسؤولية التحقيق في جرائمه.
نقول بالرغم من كل هذا فإن آل سعود لم يتمكنوا من تحقيق أي هدف من الأهداف السياسية التي أعلنت عند بدء الحرب في مارس من عام 2015، وكل ما يفعلوه الان هو استهداف وقتل المدنيين في اليمن وارتكاب المجازر على أمل أن يؤدي ذلك الى إيجاد شرخ بين الشعب اليمني والجيش اليمني واللجان الشعبية والقيادة السياسية في اليمن الممثل بالمجلس السياسي الأعلى، وهو حلم ابليس بالجنة.
عندما قام الجيش اليمني واللجان الشعبية بضرب السفينة الإماراتية التي كانت في مهمة جمع المعلومات لدراسة إمكانية عملية الانزال البحري للسيطرة على موانىء يمنية ادعت الامارات ان السفينة كانت محملة بالمساعدات الإنسانية وهو ما كذبته ونفته الأمم المتحدة.
عندها طالبت الامارات بالتدخل الدولي لحماية مضيق باب المندب لما يمثله من أهمية للملاحة الدولية وأنه ممرا لتدفق ملايين براميل البترول الى الأسواق العالمية.
والذي يبدو أن ضرب الصواريخ على المدمرتين الامريكيتين وفي غضون ثلاثة أيام فقط تفصل بين الحادثتين تشير الى أن هنالك من يسعى الى دفع الولايات المتحدة للتدخل في اليمن وبالتحديد السيطرة على مضيق باب المندب بحجة تأمين الملاحة الدولية وتأمين خطوط امداد البترول الى الأسواق العالمية، وذلك بعد ان فشل السعوديون والاماراتيون ومرتزقتهم من السيطرة على باب المندب من جانب الأراضي اليمنية.
ونحن لا نستبعد أن يكون ضرب الصواريخ ما هو الا سيناريو قد خطط له وبمشاركة الولايات المتحدة فلا يعقل أن تضرب هذه الصواريخ بفارق زمني لا يتعدى الثلاثة أيام بالإضافة الى ان في كلا الحالتين لم تصب أي من المدمرتين بأذى ولم يسقط أي قتيل.
وهذا السيناريو يذكرنا بما جرى ويجرى في الجولان المحتل والتي تسيطر جبهة النصرة القاعدية وداعش على أجزاء من الشريط الحدودي وبدعم من الكيان الصهيوني.
فعندما تتعرض هذه المجموعات الإرهابية التكفيرية للضغط العسكري من قبل الجيش العربي السوري وحلفاؤه تقوم هذه المجموعات بضرب قذائف أو صواريخ على الطرف المحتل من قبل إسرائيل وهذا مؤشر للجيش الإسرائيلي للتدخل لتخفيف الضغط على هذه المجموعات الإرهابية.
الولايات المتحدة لا تكتفي بالسيطرة على الحقول النفطية في منطقة الخليج في حال تعرضها للخطر، بل تسعى أيضا للسيطرة على طرق امداد البترول والغاز وما توجهها الى بحر الصين الجنوبي الا جزءا من هذه الاستراتيجية.
وبالتالي لا يستبعد أن يكون الهدف من سيناريو ضرب المدمرتين هو السيطرة على مضيق باب المندب وبالتالي التدخل العسكري المباشر والعلني في الحرب الدائرة في اليمن لحماية مصالحها الاستراتيجية “وأمنها القومي” الذي لا حدود جغرافية له ويشمل كل بقعة من بقاع العالم.
ولا شك أن هذا التدخل العسكري سيحرف الأنظار نسبيا عن المجازر وجرائم الحرب التي ارتكبها وما زال يرتكبها “التحالف العربي والإسلامي” والتي كان آخرها الجريمة المروعة التي ارتكبها بقصف صالة العزاء في صنعاء.
وهذه الأفعال الاجرامية والعدوان الغير مبرر على اليمن والمدعومة بشكل كامل من قبل الدول الغربية والى حد كبير من الأمم المتحدة والتوغل في الوحشية جعل بعض الدول البدء في مرحلة التفكير لإعادة تقييم موقفها من الحرب وبالتحديد بالنسبة للموقف من آل سعود وخاصة بعد المجزرة الأخيرة التي بثت على الشاشات الصغيرة ورؤية العالم لبشاعتها.
ولن يكون مستغربا ذهاب الإدارة الامريكية الى مجلس الامن قريبا أو الى الكونغرس للحصول على فرصة و “إطار قانوني” كما كان الحال في حادثتي خليج تونكين للبدء بعملية تدخل عسكري مباشر في اليمن للسيطرة على بعض المواقع الاستراتيجية داخل الأراضي اليمنية وخاصة المناطق الساحلية ومنها مضيق باب المندب بحجة حماية الممرات البحرية وحرية الملاحة الدولية.
في النهاية نود أن نؤكد على انه بالرغم من التباعد الزمني بين حادثة خليج تونكين ومضيق باب المندب فإنها ليست مصادفة بل هي استمرار لنفس النهج العدائي للولايات المتحدة لكل من يقف في وجه مخططاتها ومصالحها الاستراتيجية القائمة على الهيمنة والاستئثار.
وفي محاولة تحقيق هذا فهي على استعداد لخلق الاعذار وفبركة المعلومات والاكاذيب وقلب الحقائق مستعينة بذلك بأجهزة إعلامية جبارة وعدد من الكتاب “والمثقفين” و “الخبراء” ومراكز الأبحاث الاستراتيجية والأمنية الذين يعملون بمجملهم لصالح المؤسسة السياسية والمجمع الصناعي العسكري والمؤسسات المالية الضخمة العابرة للقارات.