حملت حركات التحرر في القرن الماضي الكثير من الإجابات عن السؤال الحضاري المعاصر وقطعت شوطاً – قد يكون صائباً أو خاطئاً لكن له حظ وأجر المجتهد – في التفاعل مع السائد، ووضعت شروطاً جديدة في علاقة الإنسان بالدين، وبالعلم، وبالكون، وبالحضارة، والمجتمع، والاقتصاد، والتقنية، والفن، والسياسة، وإن شاب ذلك البطء في حركة التطور، والعنف – في أحيان كثيرة كصفة لازمة للحركات الثورية في ذلك الزمن – إلا أنها حاولت أن تُحدث قدراً من التحديث في سبيل النهضة .
اليوم العرب والمسلمون يعودون إلى الوراء وإلى ذات النقطة التي بدأوا منها، التبس عليهم الأمر ولم يتمكنوا من فض الإشكال بين علاقة الإنسان بالدين، وبالعلم وبالكون, وبالحضارة، والمجتمع، والاقتصاد، والتقنية، والفن، والسياسة، عدنا إلى المشكل الفكري ذاته الذي كان يفترض بنا تنميته وبما يحقق وضوح الرؤية وبحيث نبدأ من حيث انتهت التجربة لا من حيث بدأت، ومن الملاحظ أن جل المشكل الثقافي كما يفرزه الواقع اليوم هو نفسه الذي كان قبل زمن النهضة ، وزمن ثورات التحرر، هناك تشابه اليوم بين زمن الاستعمار القديم، وهذا الزمن الذي عاد إلينا المستعمر فيه بثياب الرهبان، ولذلك ظهر التناقض وتجدد الالتباس، ولم نستطع ضبط المفاهيم ولا تحديد الإشكالات بين قضايا كان يفترض بنا التمعن فيها والنظر بعين التأمل حتى نجتاز عثراتها التي كان عليها إنسان القرن الماضي، وهي تفرض وجودها اليوم على إنسان القرن الواحد والعشرين التي تصنعه التطورات والتقنيات الحديثة، وتعيد بناءه بما يتسق وأهداف المستعمر، في حين نجد العرب والمسلمين ينساقون وراء الآخر دون قدرة على التأثير أو الصناعة بل وجدنا قدرة على بعث قضايا الفنون والوقوف عند آراء السلف .
اليوم العرب يعيشون واقعاً مريراً ومآسي كثيرة وأوضاعاً معقدة سواء في الجانب المادي اليومي أو الرمزي الحياتي ووصل الركود والجمود المقدس إلى الوجدان واللغة والتقنية، أي أن الواقع أصبح يتسم أو يمتاز أنه واقع مأزوم، تاريخه معطل وغير مكتمل، منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي بيد هولاكو إلى سقوطها بيد هولاكو الجديد “أمريكا ” في مطلع القرن الواحد والعشرين، وهذا التاريخ الذي يمتد لقرون لم يعرف العرب فيه طعم الاستقلال الحقيقي، ولا معنى الحرية الكاملة، ولم يصلوا إلى زمنهم التحرري الذي اتسم به النصف الأول من القرن العشرين إلا بعد حروب وأزمات ونضالات وتضحيات، وبعد هدر كبير للطاقات المادية، والبشرية، والثقافية، والرمزية, والنفسية، وبالرغم من كل ذلك إلا أن العرب لم يصلوا إلى مبتغاهم في التصالح مع التاريخ الذي يحقق لهم القدر الكافي من التوازن في العلاقات مع الآخر، أو في فك الإشكاليات بين قضايا شائكة مثل الأصالة والمعاصرة، والتراث والتاريخ، ولذلك لم تكتمل نهضتهم بفعل عوامل المستعمر وتداخله في صناعة واقعهم، فقد رحل المستعمر عن الديار العربية شكلا وظل يتحكم بالمصير العربي وبمصادر الطاقة ضمنا، ولذلك نقول أن التاريخ قد مكر بالعرب ولم يتحقق لهم الاستقلال .
اليوم عاد المستعمر كي يعلن عن وجوده بشكل علني، أعلن عن نفسه في العراق، وهو يعلن وجوده في جنوب اليمن، بريطانيا كمستعمر قديم لم تصل إلى المهرة لكنها اليوم تعلن عن وجودها في المهرة، أمريكا تتواجد في البحر العربي، والبحر الأحمر لكنها لم تنشئ قواعد عسكرية، واليوم تعلن عن قواعد عسكرية لها في جزيرة ميون وفي سقطرى فضلا عن قاعدة العند التي تديرها عن طريق الوكلاء المحليين والعرب مثل السعودية والإمارات .
فما الذي يحدث ؟
عاد العرب والمسلمون إلى مربع المستعمر ومكر التاريخ بهم، ولم يحقق لهم وجودا ثوريا حقيقيا ولا استقلالا، الفرق الوحيد بين الأمس واليوم هو في قدرة المستعمر على إدارة البلدان بوكلاء محليين، ولذلك حين أجلا الأفغان الذين تعاونوا معه في إدارة بلدهم أراد أن يبعث رسائل تطمين للوكلاء الجدد في بعض البلدان وأيضا للوكلاء المحليين المفترضين في المستقبل أنه لن يتركهم ولن ينسى جمائلهم بل سيوفر لهم سبل العيش الكريم في حال اقتضت الضرورة السياسية مغادرة بلدانهم كما حدث في الأفغان كنموذج، ولذلك كان الترويج لفكرة جلاء الأفغان في الإعلام العالمي لتحقيق غايات متعددة .
ما أخلص إليه هو التأكيد – ونحن نحتفل برموزنا من ثوارنا العظام من آل البيت الذين كانوا مشاعل حق في وجه الظلام – أن الثورة الحقيقية في زمننا المعاصر والحديث هي التي تحمل مشروع دولة، ومشروع مجتمع, وتكون على قدر من التحرر من الغرب، ومن الماضي، لتبدع وتبتكر واقعاً جديداً، يمتاز بالاستقلال والمعرفة التي تحل مشكلات العلاقات بين مختلف القضايا، ويمتاز بالخصوصية التي تكون تعبيرا عن العرب والمسلمين وعن هويتهم الثقافية والحضارية ذات رؤية في البناء الذي يقضي على الشتات السياسي ويحاول إنجاز القوة الاقتصادية والديمغرافية في عالم أصبح ينمو بسرعة البرق في اتجاه التكتلات السياسية والاستراتيجية الكبيرة والفاعلة في القرارات الإنسانية الكبرى من حروب وسياسات وثقافات وغيرها من الأدوات القادرة على الإقصاء والإضعاف .
وثورة 21سبتمبر تتجه إلى ذات الهدف بيد أن التفاعلات اليومية لحركة المجتمع تقول بظهور إشكالات ولابد للثورة من التفاعل مع السائد وبحيث تضع شروطا جديدة في علاقة الإنسان بالدين وبالعلم وبالكون وبالحضارة والمجتمع والاقتصاد والتقنية والفن والسياسة، وأن تحاول أن تحدث قدراً من التحديث في سبيل النهضة فصناعة النهضة تتطلب وعياً تفاعلياً لا جموداً، والمستعمر الذي يكشر عن نابه اليوم سوف تقهره تلك الحركة الناهضة والواعية التي تتجاوز زمنها لتبدع الزمن الأفضل.