جاءت فكرة التغيير الجذري كضرورة مرحلية تفرضها شروط الواقع، وكان لابد لها أن تحدث، فالثبات الذي صاحب مرحلة الهدنة, ومراوحة المفاوضات مكانها دون الوصول إلى نتائج ذات معنى، كل ذلك فرض واقعا جديدا كان لابد من الاستجابة لشروطه والتفاعل معه بما يلبي طموحات الناس أو كمعالجة قضاياهم التي أصبحت شرطا لازما في الانتقال النفسي من مرحلة إلى أخرى، وكان الإعلان عن استبدال حكومة الإنقاذ الوطني بحكومة كفاءات خطوة مهمة, وكان قرارا واعيا مدركا لحجم تحديات المرحلة التي نحن فيها، وهي فرصة للأحزاب لمراجعة نفسها وتاريخها وحركة تعاطيها مع الواقع ودراسة المشكلات الاجتماعية والسياسية والثقافية حتى تتمكن من ابتكار الحلول، ووضع برامج سياسية تكون قريبة من مزاج الجمهور وتطلعاتهم .
ومصطلح الكفاءات بديل للمصطلح المتداول في الفكر السياسي العالمي “التكنوقراط”، وهو يعني عند أرباب الفكر السياسي:
“نظامٌ مقترحٌ للحكم يتمُ فيه اختيار صانعي القرار على أساس خبرتهم في مجالٍ معينٍ، خاصةً في ما يتعلق بالمعرفة العلمية أو التقنية. يتناقض هذا النظام بشكلٍ واضحٍ مع فكرة أن الممثلين المُنتَخبين يجب أن يكونوا صُنَّاع القرار الرئيسيين في الحكومة، على الرغمِ من أنه لا يعني بالضرورة حذف الممثلين المنتخبين بل إن الأمر يعتمدُ بالأساس على المعرفة والأداء بدلًا من الانتماءات السياسية، أو ما يُعرف بـ «المهارات البرلمانية» كما هو معمولٌ به في النظام الديموقراطي”.
ويخضع الأفراد الذين يتم اختيارهم لمعايير النزاهة والكفاءة، والتحلي بالخبرات اللازمة للحقائب الوزارية، والتزام حماية حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والحياد في إدارة شؤون البلاد، وتعمل حكومة الكفاءات على التركيزِ على تطوير الدولة ومؤسساتها وتجديد أهدافها وتحديث سياساتها وذلكَ لضمانِ استمرار تشغيل جميع الوظائف، وبما يتواءم مع الزمن الحضاري الجديد، والتبدلات الاجتماعية والسياسية، وكان واضحا من خطاب القائد، التركيز على تطوير وتحسين منظومة تدبير الموارد البشرية في مجال الوظيفة العمومية، خاصة ما يتعلق منها بإقرار المراسيم التي تهم الأنظمة الأساسية الخاصة بعدد من هيئات الموظفين، والتي أملاها هاجس تجميع الأطر والدرجات المتشابهة من حيث قواعد التوظيف والترقي والمهام المدعوة لممارسة وظائف مماثلة في مختلف الإدارات العمومية.
وركز الخطاب على مقاربة الوظائف والكفاءات بغاية تدبير عقلاني للشأن العام، وذلك من خلال انخراط كل الوزارات في إعداد دلائلها المرجعية للوظائف والكفاءات، بالإضافة إلى التركيز على الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات المشتركة بين الإدارات، باعتبارها آلية ضرورية للملاءمة بين المنصب ومؤهلات الموظف الذي يشغله، ابتداء من توظيفه وعلى امتداد كامل مساره المهني، وذلك من أجل تيسير الانتقال من تدبير يرتكز على الإطار أو الدرجة إلى تدبير يقوم على الوظيفة ويعتمد دلائل مرجعية للوظائف والكفاءات وتشذيب الترهل وحالة الازدواج في المهام والاختصاصات .
وواضح من خطاب القائد تحديد مهام حكومة الكفاءات، وتتلخص في المراجعة الشاملة لمقتضيات النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، بحيث تشكل أحد مرتكزات البرنامج الحكومي، لكونه يشكل الإطار القانوني المرجعي لتدبير الموارد البشرية في الإدارات العمومية، وخطوة من الخطـــوات التي يتعين قطعها في مسار الإصلاح المنشود، وتمهيدا لإصلاح عميق ومراجعة شاملة، تُؤسس لمنظومة متطورة للوظيفة العمومية.
فالهدف الأساسي من وراء كل هذه الإصلاحات يتجسد في الانتقال من تدبير إداري تقليدي للموظفين، إلى تدبير عصري يتوخى تثمين وتحفيز الرصيد البشري وتعبئته لتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة، وتلك هي الغاية المثلى – كما تبين لي – من خطابات قائد الثورة في خطاباته التي تناولت فكرة التغيير الجذري حتى يشعر الناس بأهمية الثورة وأثرها في حياتهم .
وأمام مثل هذه الخطوة علينا أن ندرك أن العدو يتربص بنا الدوائر وسوف يبذل جهدا مضاعفا لبقاء الوضع قلقا ومضطربا وغير قادر على التعافي، ولذلك بدأ الشارع يبعث إشارات ورموز علينا أن نتلقاها بوعي الحازم القادر على رأب الصدع وسد الثغرات التي ينفذ منها العدو في زعزعة أمن واستقرار البلد، ووراءنا تجارب متعددة منها القريب زمنا ومنها البعيد، ولذلك فاليقظة والحزم في المراحل التي تشبه هذه المرحلة من تمام الحكمة وهو عين الصواب، فطول الأمد والفراغ ليس من الحكمة في شيء، ولذلك فالإسراع في تشكيل حكومة الكفاءات من ضرورات المرحلة طالما وقد تم الإعلان عنها قبل تكوين تصور متكامل عنها، وتحديد الرؤى والاختصاصات والأهداف من وراء التشكيل، وقبل طرح الفكرة للحوار والنقاش مع القوى الوطنية التي نتشارك معها هم البناء، وهموم المرحلة الوطنية البالغة التعقيد، والتي تتطلب اصطفافا وطنيا وتحصينا من الاختراق .
ندرك حرص قائد الثورة على صناعة واقع ثوري يشعر الناس بأثره في حيواتهم العامة، لكن هذا الحرص يقابله صعوبات بنيوية وتعقيدات ثقافية وسياسية وتباين في الرؤى وفي مصالح الأطراف الوطنية وتباين في رؤى الأطراف الإقليمية والدولية، لذلك فالحزم يتمثل في الشروع في تنفيذ القرار على أن يخضع للمراقبة والتقييم المستمر ويتم الإصلاح بالتدرج، فالواقع لا يحتمل الكثير من التأجيل ولا التسويف، فالإيقاع الثوري يلزمنا التفاعل مع أبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية ومع ضروراته.