جغرافيا الكبرياء.. اليمن وفلسطين يرسمان خارطة الصمود والتضامن
جُبِلَ اليمنيون منذ النشأة الأولى على العزّة والأنفة والكبرياء، فحيث ما كانت المكارم كان لها أصل في اليمن، وحيث ما كانت الحمية كان لها مرتع في اليمن.. وهكذا، فهم الشعب الذي يتعاطى مع الأحداث والوقائع على عظم شأنها، بكل عفوية وتلقائية ومن دون أيّة خلفيات أيديولوجية ولا أيّة حسابات سياسية، ومن دون خشية ولا خوف من أحد، كائنا من كان. فحتى الملكة “بلقيس” حينما أدركت عظمة الله عزّ وجلّ في ملك النبي سليمان وقصوره المُمَرّدة، ولأنّ قلبها للإيمان؛ “قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ..”.. أسلمتُ مَعَ سليمان ولم تقل أسلمت لِسُليمان، حتى لا تُذِلَّ نَفْسَها إلا لخالقها رب العالمين.
فلا غرو اليوم في أن يخرج أحفاد سبأ وتبّع وحمير، وتأخذ بقلوبهم العزّة بالشرف والحق ونصرة المظلوم، في دعم غزّة وفلسطين، ويعلنونها حربا على السفن الصهيونية أو تلك المتّجهة إلى موانئ الاحتلال، خنقا للكيان الصهيوني اقتصاديا وتجاريا، علّ القصف العدواني المشؤوم يخفت شيئا، فترتاح رؤوس الأطفال والنساء والمدنيين في القطاع المحاصر المدمّر منذ سنين، وهو نفس ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية حيال الكيان الصهيوني، بفارق الإمكانيات ليس إلا، غير أنّ هذه الأخيرة كانت قد أخذتها العزّة بالإثم والإجرام، بأن سارعت إلى توجيه أساطيلها وطائراتها لدعم الكيان في جريمته العدوانية بقصف المدنيين وتدمير مساكنهم.
إذًا، وعلى خلفية ردّة الفعل الحازمة لليمنيين، قرّر حلف الولايات المتحدة وبريطانيا شنّ ضربات عسكرية على أهداف للحوثيين، رداً على استهدافهم السفن المتّجهة إلى الكيان الصهيوني عبر مضيق باب المندب، وقالت القيادة المركزية الأمريكية في بيان لها، إنّ الهجمات شاركت فيها كل من أستراليا وكندا وهولندا، بالإضافة إلى البحرين التي تكفّلت بتقديم الدعم اللوجستيكي.
وأما على الجبهة المقابلة، فقد صرح المتحدث باسم حركة أنصار الله، بأنّ عددا من قوات الجماعة قد استشهدوا جراء الغارات التي فاق عدد طلعاتها المائة طلعة، طالت عدة مناطق في اليمن، منها العاصمة صنعاء، وصعدة والحديدة، وتعز وحجة وغيرها.. وقد توعّد الحوثيون بالرد على هذه الهجمات، مع الاستمرار في تنفيذ عمليات استهداف السفن الصهيونية في البحر الأحمر، مساندة لغزة في حربها ضد الكيان الصهيوني.
وهنا يكمن موضع الخلل في القانون الدولي، وفي آليات تطبيقه وتنفيذ مقتضياته في الميدان. فعندما يتعلّق الأمر بالكيان الصهيوني، لا أحد يرفع صوته لا بالشجب ولا بالتنديد، وأما عندما يكون الهدف جهة أخرى غير الصهاينة، فإنّ التحرّك لا يحتاج لإذن ولا تريث.. فعوض العمل على كبح جماح العدوان الصهيوني، الذي هو في الأصل سبب الشرور كلها، ومنح الفلسطينيين حق إقامة دولتهم، على الأقل داخل الحدود التي منحتها لهم أوسلو، ذهبوا إلى الالتفاف حول النتائج الانشطارية وردود الفعل الطبيعية سواء في اليمن أو في أي مكان آخر.. بمعنى، دعوا الصهاينة يفعلوا ما يشاؤون ثم نرى.
“إنّ ما يحدث في غزة، سيظلّ وصمة عار في جبين الإنسانية”.. على حدّ وصف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، والذي كلّف سفير الجزائر بالأمم المتحدة “عمار بن جامع” للمرافعة باسم الجزائر أمام أعضاء مجلس الأمن، من أجل وقف إطلاق النار وإنهاء حالة حرب الإبادة بحق ساكنة القطاع. فليس من المعقول الصمت حيال ما يحدث أمام أعين العالم وتحت لواء القانون الدولي، استطرد سعادة السفير، وهو يتساءل مرة أخرى؛ ألا يكفي أكثر من ثلاثين ألف قتيل منهم عشرة آلاف طفل.. ألا يكفي إصابة سبعين ألف جريح ومعطوب.. ألا يكفي تدمير ستين بالمائة من البنى التحتية والمساكن في غزّة وحدها.. ألا يكفي مشاهدة الجوع والعطش ينقضان على سكان القطاع.. كيف يقبل المجتمع الدولي بكل هذا الظلم الجاثم على صدور الأبرياء، ثم يصمت..؟ لقد أدّت هذه الحرب إلى تدمير كلّ مظاهر الحياة في غزة، حتى لا تكون قابلة للحياة، ومن ثمّ تسهيل عملية وضع مخطط لتهجير السكان خارج أرضهم.
إنها سياسة مدعومة من قيادات الاحتلال للتصفية النهائية للقضية الفلسطينية، يقول السفير “عمار بن جامع”، الذي يؤكّد بأنّ التركيز الآن موجّه إلى غزّة، لكن وجب على المجتمع الدولي أن لا يغفل ما يجري في الضفة، من ممارسات همجية أبرزها القتل والهدم والاستيطان، إلى عمليات ضمّ أراضٍ جديدة واحتلالها.. ولذلك وجب على مجلس الأمن فرض منطق الحق والقانون، بأن لا مكان للفلسطينيين إلا على أرضهم، وأنّ أيّة محاولة لتهجيرهم يعدّ خرقا للقانون الدولي، خاصة في بنده الــ”49” من اتفاقية جنيف الرابعة.. فهل من مستجيب؟
بالنهاية، لو تمّ التحرّك لحماية الأطفال الفلسطينيين بنفس السرعة التي تحرّكت بها أمريكا لحماية السفن، لما وجد العالم نفسه اليوم أمام سقف مفتوح من الضحايا، وطوفان رهيب من الدماء والدمار، بسبب الغطرسة الصهيونية المتجبّرة.. ولذلك، على المجتمع الدولي التحرك الآن، على الأقل من باب حفظ ماء الوجه، لإجبار المجرمين الصهاينة على الانصياع للقرارات الأممية، لا سيما نص الحكم الصادر عن محكمة الجنايات الدولية، والقاضي بوقف العمليات القتالية في قطاع غزة.
وعليه، فإنّ من دون لجم الكيان في جرائمه على الشعب الفلسطيني، تبقى الضربات العسكرية التي تشنها القوات الأمريكية والبريطانية ضدّ مواقع جماعة أنصار الله، عاجزة على ردعهم، بحسب ما ذهب إليه ملاحظون. فحقا أنّ الحوثيين ليسوا بالقوة العسكرية الكبيرة، إلا أنهم لا يحتاجون إلى ذلك، فهم يتمتعون بموقف إستراتيجي موقعا وطبيعة وتأقلما، يؤهّلهم لأن يزرعوا الفوضى وحالة اللّاأمن على باب المندب وفي البحر الأحمر وبحر العرب، خاصة وأنّ أكثر من ربع التجارة الدولية تمرّ عبر هذا المضيق، لتصل إلى موانئ حوض المتوسط والبحر الأسود ومرافئ الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، وكذا السواحل الغربية للقارة الأوروبية، إلى بريطانيا وبحر الشمال والبلطيق والدول الاسكندنافية.
علاوة على هذا التهديد الجدي الذي تشكّله جماعة أنصار الله في اليمن، يضاف إليه ما نشرته بعض المصادر المحسوبة على الحوثيين، من خرائط لكابلات الإنترنت البحرية والتي تمرّ عبر البحر الأحمر، وهو الأمر الذي يعدّ ولو ضمنيا، تهديدا حقيقيا للشبكة العالمية برمتها.
فاليمن “السعيد” يحتلّ موقعا إستراتيجيا، حيث يمسك بعصب العالم، إذ تمرّ عند قدميه أهم وأضخم خطوط الأنترنت التي تربط قارات بأكملها، وليس دولا فقط. وبالتالي، ورغم كل التطمينات الواردة من اليمن، فإنّ الفزع الكامن لا يمكن اخفاؤه، ولا الرعب الأكبر يمكن تجاوزه، ما دام العدوان الأمريكي متواصلا ومستمرا بكل صلف وطغيان، من دون أن يدرك بأنّه يدفع بالعالم إلى خطر العودة إلى ثلاثة قرون إلى الوراء، على أقل تقدير.. فما مدى إصرار الأمريكان وجدّيتهم في مواصلة ضرب اليمن، وإلى أيّ حدّ يمكنهم الوصول..؟ خاصة في ظلّ موجة من الرفض الشعبي العارم للتواجد الأمريكي في المنطقة بأسرها، وتعاظم مشاعر الكره والعداء تجاه المواقع والقواعد الأمريكية الجاثمة في قطر والسعودية، وفي فلسطين المحتلة والأردن، وفي مصر والعراق والبحرين والإمارات وفي سوريا.
مصطفى بن مرابط – الجزائر
الأيام نيوز
المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع