جريدة عربية :موسم الهجرة إلى صنعاء: الرياض تريد نهايةً… على ذوقها
موسم الهجرة إلى صنعاء: الرياض تريد نهايةً… على ذوقها
تتواصل المحادثات المباشرة اليمنية – السعودية في صنعاء، وسط سعي مستمرّ من قِبَل الرياض لإخراج الأمور على النحو الذي يناسبها إعلامياً، وهو ما يفسّر محاولتها فرض نفسها وسيطاً بين «أنصار الله» و«المجلس الرئاسي». وإذ تستمرّ المملكة في «التعمشق» على اتفاقها مع إيران، أملاً في فرض مخارج أو سرديات غير مقبولة من قِبَل صنعاء، تبقى الأخيرة على تفاؤلها الحذر مع اكتمال التفاهم حول الجزء الأكبر من البنود الإنسانية وترحيل تلك السياسية والأمنية إلى مرحلة لاحقة، فيما يبدو وضع القوى الموالية للسعودية والإمارات غامضاً، في ظلّ تضرّر العديد منها من الاتفاق العتيد، وتضارب المصالح الكبير في ما بينها.
سيمكّن الاتّفاق المزمع توقيعه بين صنعاء والرياض، في مرحلته الأولى، الجانب اليمني من نيل المطالب الإنسانية التي هي في الأصل حقوق مشروعة وطبيعية، والتي أصرّ عليها منذ جولات المفاوضات الأولى. أمّا المرحلتان الثانية والثالثة، واللتان ترتبطان بملفّات سياسية وأمنية، فقد رُحّلَتا إلى أوقات لاحقة حتى يَجري التفاوض عليها. وأيّاً يكن ما ستؤول إليه الأمور، فالأكيد أن صمود اليمنيين فرض على السعودية قرار إنهاء الحرب، بعد أن عجزت عن تحقيق أهدافها فيها. وهو قرار يأتي من ضمن استراتيجية جديدة في الإقليم والعالم، عنوانها مغادرة مربّع الحروب المباشرة (اليمن) أو عبر الوكلاء (سوريا والعراق)، والتي وصلت إلى طريق مسدود. هكذا، اضطرّت المملكة لصياغة سياسة جديدة قائمة على مدّ الجسور مع أطراف «محور المقاومة»، وعلى رأسهم إيران، بعد موازنة دقيقة بين القدرات والإمكانات والظروف الموضوعية، وبعدما أخفقت جميع خيارات وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، والتي عُدَّت «مغامِرة ومتطرّفة».
وإلى جانب اكتشافها حدود القوة، تنبّهت السعودية، متأخّرة، إلى تهلهل مظلّة الحماية الأميركية عليها؛ إذ عمدت الولايات المتحدة إلى سحب منظومات الدفاع الجوي – «باتريوت» وغيرها – من العاصمة الرياض، وأبقت سماء المملكة مكشوفة في حالتَين على الأقلّ: الأولى في فترة في ولاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عندما اقتضت المصلحة الأميركية إبقاء أسعار النفط مرتفعةً بما يتماشى مع تكلفة إنتاج النفط الصخري؛ والثانية في زمن الإدارة الحالية في محاولة لتطويع القيادة السعودية. كذلك، بدا واضحاً للرياض أن واشنطن لم تمكّنها حتى من تسييد حلفائها في الخليج، حيث عمدت إبّان الأزمة مع قطر إلى إمساك العصا من الوسط، مشتغلةً على تنمية «الفتنة» بين الطرفَين، من دون أن تمكّن أيّاً منهما من الانتصار. ولم تتوقّف الصفعات الأميركية للجانب السعودي على ما تَقدّم، بل أسمع مسؤولون في إدارة جو بايدن، نظراءهم السعوديين، بأن الولايات المتحدة ليست مقاولاً لديهم، وأنها تنفّذ أجندتها فقط، وعلى الأطراف الحليفة لها مراعاة المصلحة الأميركية.
على هذا النحو، أدّى قرار واشنطن الامتناع عن الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع طهران، إلى شعور لدى الحلفاء الخليجيين المتحمّسين لتغيير النظام في إيران باليأس والإحباط، فلم يكن من الأخيرين إلّا المسارعة إلى طلب المهادنة مع الإيرانيين، درءاً لمخاطر حملها انكشاف تورّط السعودية والإمارات ودول أخرى في موجة الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها الجمهورية الإسلامية. وإذ لجأت الولايات المتحدة إلى خيار إدارة الأزمة مع إيران بأقلّ الخسائر الممكنة – مع الإشارة هنا إلى أن كباشها مع كلّ من روسيا والصين صبّ في صالح الأخيرة وساعد في إفشال الاستراتيجية المتّبعة ضدّها -، فقد أيقن الخليجيون جميعهم ولا سيّما السعوديون منهم، مع الوقت، أن البيئة الاستراتيجية المحيطة بهم لا تفتأ تحبل بمخاطر على نموّ دولهم وتطوّرها وريادتهم الاقتصادية، وهو ما أسّست له أصلاً الضربات التي تعرّضت لها الرياض وأبو ظبي ودبي بشكل متكرّر من الأراضي اليمنية، والتي مثّلت جرس إنذار بالنسبة إلى الدول المستهدَفة، وأرغمتها على طلب التهدئة بغية إبعاد الكأس المرّة عن نفسها.
في هذا السياق تماماً، جاء الاتفاق السعودي – اليمني المنجَز برعاية عُمانية منذ بداية العام الجاري، في أعقاب زيارات متكرّرة قام بها مبعوثون سعوديون إلى صنعاء. على أن المماطلة السعودية في إمضائه وإعلانه لم يكن غرضها سوى تأكيد السردية القائلة بأن العدوان على اليمن جاء لـ«قطع يد إيران»، وبما أن الرياض اتّفقت مع طهران على استعادة علاقاتهما، فسيتمّ وضع حدّ للنزاع تلقائياً، وفق ما يَجري ترويجه في وسائل الإعلام الخليجية. تعتقد السعودية أنها بذلك الأسلوب قادرة على تغطية إخفاقها في الحرب، وهو ما يحملها على نشر روايات زائفة، مِن مِثل الربط بين زيارة الوفد السعودي التقني لطهران للتجهيز لفتح السفارة فيها، وبين زيارة السفير السعودي، محمد آل جابر، لصنعاء، أو الحديث عن نقل قناتَي «المسيرة» و«الساحات» اليمنيتيَن من بيروت إلى صنعاء بوصفه نتيجة للتفاهم الإيراني – السعودي، علماً أنه مقرَّر منذ زمن، وكان يَنتظر استكمال الترتيبات التقنية واللوجستية.
على أيّ حال، يُعدّ اتفاق الهدنة الموسّعة (في حال وُقّع) بين «أنصار الله» والسعودية، تحوّلاً تاريخياً في مسار الصراع، بل يمكن القول إنه إنّما يبرَم بين ضفّتَي الجزيرة العربية: الشمالية ممثَّلة بالمملكة والدول التي شاركت إلى جانبها في العدوان (الإمارات والبحرين والكويت بنسبة أقلّ)، والضفة الجنوبية أي اليمن، لينهي – لدى اكتماله – حرباً استمرّت ثماني سنوات، واستخدمت فيها دول العدوان مختلف الأدوات والقدرات العسكرية، بالتعاون مع الدول الغربية، وبالتحديد الولايات المتحدة وبريطانيا.
السعودية تهتمّ بالمخرج: فلْنكن وسيطاً
مع قرب تحقُّق السلام في اليمن، جاءت زيارة الوفدَين السعودي والعُماني إلى صنعاء، خلال اليومَين الماضيَين، بمثابة اختتام لجولة ما قَبل الإعلان عن الاتفاق النهائي بين الجانبَين، والمتضمّن وقْف الحرب ورفْع الحصار، والانخراط في معالجة الملفّات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. ولعلّ حالة الهمس الديبلوماسي المتبادل بين صنعاء والرياض، والذي رافق وصول الزائرين إلى العاصمة اليمنية، في ظلّ جفاء سعودي مع المكوّنات الموالية للمملكة، تكشف عن تغييرات شاملة ستشهدها الساحة اليمنية خلال المرحلة المقبلة، في ما يخصّ ترتيب العلاقات مع السلطة التي ستتصدّر مشهد ما بعد الحرب.
وبحسب مصادر سياسية مطّلعة، تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن الخلاف بات متركّزاً حول شكليات التوقيع على الاتفاق وتوقيت إعلانه. وفي هذا المجال، تكشف المصادر أن السعودية تقترح توقيع الصفقة بين حركة «أنصار الله» و«المجلس الرئاسي»، وهو ما ترفضه الحركة بشكل تامّ. ويأتي ذلك على رغم أن السعوديين قطعوا تواصلهم مع أغلب القيادات السياسية في «الرئاسي»، كما مع الحكومة في عدن، وأبقوا على قنوات الاتصال مفتوحة فقط مع رئيس المجلس رشاد العليمي، ونائبه عيدروس الزبيدي.
وبهذا، تكون المملكة قد دشّنت عملية فرز سريعة تحاول من خلالها استبدال أدوات الحرب بأدوات السلام، الأمر الذي يفسّر تخفيضها أو حتى قطْعها التواصل مع القيادات الميدانية الموالية لها، وانخراطها في تواصل مستمرّ مع «أنصار الله» لإنجاح المشاورات. وعلى رغم أن تلك المشاورات لم تنقطع، على مدى السنوات الماضية، إلّا أن ظروفاً محلّية وإقليمية ودولية دفعت الرياض نحو مفاوضات جادّة لإقفال ملفّ الحرب.
ولعلّ من أبرز الأسباب الداخلية، الخشية من استهداف صنعاء مصالح سعودية من شأن ضربها أن يلحق أضراراً كبرى بـ«رؤية 2030». وبالنسبة إلى العوامل الإقليمية، مهّد الخلاف السعودي – الإماراتي، الأرضية لذهاب الرياض منفردة للتفاوض مع صنعاء، خصوصاً بعد الزحف الإماراتي في المحافظات الجنوبية الشرقية، وطرْد القوات الموالية للسعودية منها. وفي هذا الإطار تحديداً، وجدت السعودية نفسها أمام حليف يتربّص بها، فيما رأت أن الاتجاه إلى عقْد صفقة سلام في اليمن، سيقطع الطريق على الإمارات قبل أن تتمكّن من إخراج المملكة من المشهد اليمني.
لم يكن هذا العامل الإقليمي هو الوحيد، بل إن التطبيع السعودي – الإيراني، والسعودي – السوري، صبّا أيضاً في اتّجاه التهدئة التي تعمل المملكة على بلورتها انطلاقاً من الملفّ اليمني، على اعتبار أن هذا الأخير يشكّل أكبر عوامل القلق بالنسبة إليها. وإلى العوامل المحلّية والإقليمية، مثّل الخلاف السعودي – الأميركي، أو ترتيب العلاقات بين البلدَين الحليفَين، كما يصفه السعوديون، عنصراً آخر مهّد لعملية السلام المشار إليها.
وانطلاقاً من كلّ ذلك، تندفع الرياض نحو السلام، على رغم العراقيل التي ستواجه مسعاها هذا، خصوصاً أن المكوّنات اليمنية الموالية لـ«التحالف» لم تشارك في جلسات النقاش حول بنود الاتفاق، فضلاً عن غياب أبو ظبي عن ملفّ التفاوض، وهو ما يفسّر الامتعاض الإماراتي من التحوّلات المتسارعة التي شهدتها جولات المفاوضات بين صنعاء والرياض، والتي دفعتها إلى التصعيد سياسياً وإعلامياً رفضاً لعملية السلام.
ولا يزال غير معلوم ما إذا كان في مستطاع الإمارات والمكوّنات الموالية لها، فرْض واقع في المحافظات الجنوبية، بعيدٍ من مسار التسوية التي تسعى السعودية إلى إنجاحها. وإلى ما قبل أسابيع قليلة، كانت المملكة خارج الحراك السياسي والعسكري والأمني في المحافظات الجنوبية، غير أن تشكيلها قوات «درع الوطن»، ونشْرها في مختلف هذه المحافظات، شكّل صدمة لـ«المجلس الانتقالي» ولأبو ظبي معاً، خصوصاً أن الرياض تهدف من وراء نشْر تلك القوات، إلى تأمين الجنوب وتكبيل يد «الانتقالي» قبل إتمام عملية السلام.
الاخبار اللبنانية