جبهة صبرين والخليفين في الجوف.. الأرض أيضاً تقاتل
صحيفة الحقيقة/المسيرة نت/ يحيى الشامي:
يهولُك المشهـدُ وأنت تطْويهِ مشدوهاً بناظريك قبلَ أن تبلُغَه قدماك، وتخشى – وأنت تشق عبابَ الصحراء- أن تطأ بدواليب سيارتك بعضَ أشلاء أجساد المرتزقة، خاصة في تلك الأماكن التي يحول بينها وجهودَ المجاهدين لدفنها كثافةُ نيران العدوان، هنالك تتعفن أجساد المرتزقة وتأكل الرمال والشمس لحومهم فلا ترى الا عظاماً مهشمة وجماجم مخرومة، يكسر لونُها الأبيض وألوانُ حديد المدرعات الصدئ، انسيابيةَ مشهدِ الرملِ المنحسرِ على صخور “التباب” المنتشرة في صحراء صبرين والخليفين، الجبهة التي انكسرت عليها وفي أطرافها مئات الزحوفات، وثبتت خطوطُها الدفاعية طرفَ المعادلة الذي لا يتغير، المبني على الصمود والإبداع في طرق القتال والابتكار في أساليب الدفاع.
الموقع والتضاريس:
تقع جبهة صبرين والخليفين على خط دفاعي يتجاوز امتداده الخمسة وعشرين كيلو متر، في الجهة الشرقية من مديرية خب والشعف ويتصل امتدادها الصحراوي من الجهة الشرقية بمنطقة المرازيق المعبر البري بين من محافظتي الجوف ومارب ومن الجهة الجنوبية تتصل بسلسلة جبال العقبة التي يُشرف منها الجيش واللجان مباشرة على مديرية الحزم مركز محافظة الجوف، وترتبط من الجهة الشمالية مباشرة مع جبهة الخنجر، يليها جبهة المهاشمة، فجبهة اليتمة والأجاشر المتصلة بالخبوت المترامية أمام منفذ الخضراء ومناطق وجبهات وجبال نجران، كما أن امتدادات خب والشعف الصحراوية تمثل الاجزاء الجنوبية من صحراء الربع الخالي الممتدة داخل شبه الجزيرة العربية، وبهذا الامتداد الجغرافي الكبير، تعد جبهة والشعف إحدى أكبر الخطوط النارية التي تشتعل فيها خطوط النار وتحتدم المواجهات منذ بداية العدوان وما قبله بأشهر، وقد وصف الرئيس الشهيد صالح الصماد مديرية خب والشعف حين زارها بأنها تعادل بمساحتها مساحة قطر والكويت وخمس أضعاف مساحة البحرين، كما خص جبهة صبرين بالقول إن اسمها فيها فالصبر فيها مرتين صبر على قتال العدو، وصبر على بيئة الجبهة وتضاريسها المنهكة.
متى موعد الزحف التالي؟!
قال أحد مجاهدي الجيش واللجان موضحاً تعوّد المجاهدين على زحوفات المنافقين ومحاولاتهم التقدم التي تكررت مئات المرات منذ أربع سنين : لدينا في كل مرة يزحف المنافقون صوب الخليفين وصبرين أسلوب تصدي جديد أو أكثر نفاجئ به المرتزقة، ويضيف أنهم ليسوا متشوقين للقتال بقدر شغفهم بتجريب الطرق الدفاعية الجديدة التي يعكفون على دراستها وتحسينها بين كل زحف وآخر، وهي عمليات عسكرية تعكس تراكم الخبرة لدى مجاهدي الجيش واللجان الشعبية، خبرة راكمتها مئات العمليات العسكرية الدفاعية والهجومية داخل هذا المحور القتالي الواسع والمتنوع التضاريس والمتقلب المناخ.
ويأخذ كل قسم من الاقسام العسكرية نصيبه ومهمته الدفاعية في التصدي لهذه الزحوفات مع تفاوت نسبي وفقاً لطريقة الزحف وكمِّ المدرعات الزاحفة والاليات وقوات المشاة المشاركة في الزحف والغطاء الجوي المساند لها، وأياً تكن فإن وحدة الهندسة عادة ما يكون لها نصيب الأسد في جميع العمليات العسكرية وفي ترسيم خط دفاعي قوي يصعب – ان لم يستحيل- اجتيازه وفي تكريس واقع الهزيمة التي لحقت بمرتزقة العدوان في هذه الجبهات.
( أشرس المعارك وأشدُها على مستوى محافظة الجوف دارت في منطقة الخليفين)
هندسة الموت:
فيما يصح توصيفه بحرب التباب والمواقع الجارية في صبرين والخليفين، يتبين جلياً نجاحُ مجاهدي الجيش واللجان الشعبية في تحويل تباب الجبهة الى مقابر جماعية يهلك على سفوحها ومرتفعاتها مئات المرتزقة، في ما يعرف بالكمائن التي يستدرج اليها مجاميع المرتزقة بعد تراجع قوات الجيش واللجان منها وإيهام المنافقين بنجاحهم في السيطرة عليها والتمركز فيها فيباشر الأخيرون عملية تحويلها الى نقطة تجمع لهم ولآلياتهم، وفي لحظة اطمئنانهم وتواجد أعداد منهم في الموقع الجديد تباشر وحدة الهندسة بتفجير حقول الالغام المموهة بشكل ابداعي يثير الدهشة، وغالباً ما تنتهي العملية بهلاك جميع من في الموقع إضافة الى تدمير العتاد العسكري فيها، وفي هذا الجانب يرفض خبراء وحدة الهندسة الكشف عن كثير من التفاصيل الفنية والتنفيذية باعتبارها أسرار عسكرية.
اللافت للانتباه في جولتنا الميدانية على مجموعة من التباب أن بعضها قد شهد تغيراً كبيراً في الشكل ناجم عن تفجير حقول الالغام التي يُستدرج اليها المرتزقة ، كما أن بعض هذه التباب شهد أكثر من كمين تتكرر خلال الزحوفات خاصة تلك التباب التي تقع في المدخل الشرقي صوب منطقة الخليفين كالتبة السوداء والتي تعرف لدى المرتزقة بتبة بوع وتعد بمثابة البوابة الى منطقة الخليفين وقد شهدت هذه التبة حوالى خمس كمائن خلال العام الأخير وما تزال تحتفظ بكثير من بقايا الكمائن سواءً خسائر المنافقين أو الحفر الكبيرة التي أحدثتها انفجارات حقول الالغام.
وتؤكد معلومات الجيش واللجان الشعبية أن قادة المرتزقة مضطرون عند كل تصعيد جديد الى تبديل مجاميع المرتزقة بأخرى جديدة تجهل أي شيء عن المعارك السابقة والمصير الذي لاقاه أقرانهم، حيث أن المجاميع السابقة تبقى رهينة حالتها النفسية المتردية إثر معايشتها الاحداث الرهيبة للمعارك السابقة.
(في كل تبة مقبرةٌ جماعية، ولكل معركةٍ كتائبُ إضافية، تأتي مكبةً الى حتفها وتجهلُ أنها قبل أن تدوس حقول الألغام تطأ أشلاء من سبقه)
ومثلما أن مشاهد الاعلام الحربي الموثقة لعمليات الكمائن في التباب ليست إلا جانبا من واقع المعركة وجزءاً من خسائر الغزاة عتاداً وعديداً، فإن كمائن التباب ليست إلا جزءاً من عمليات الهندسة، حيث أن الكمائن والعبوات الناسفة تلاحق أيضاً آليات المرتزقة وتأكل منها العشرات في كل عملية زحف أو محاولة تقدم، فالصحراء ما تزال تحتفظ بعشرات الآليات التي أو هياكلها الحديدية المتبقية إثر العبوات التي تفجرت بها، وقد أحصينا في جانب صغير من منطقة الخليقين زهاء العشرين آلية أو بقايا حديدية متناثرة منها، مع العلم أن العدد الاكبر من هذه الاليات ومعظمها مدرعة يقوم المنافقون بسحبها أثناء انسحابهم وتراجع من بقي من قواتهم، فيما يُبادر مجاهدو الجيش واللجان الشعبية الى إحراق المعطوب منها وتفجيرها بعد اغتنام ما عليها من أسلحة وذخائر.
وقبل انتهاء الجولة الميدانية وبينا كنا نهم بالعودة يدوي انفجار كبير على مسافة ليست بعيدة منا، يتمدد صوت الانفجار في أرجاء المكان وتبقى مشاهد الادخنة السوداء تلوح في الأفق خلف التبة القريبة من موقع العدو، ومباشرة يصل الخبر الى الفريق المصطحب لنا: يا ربي لك الحمد طقم يحمل رشاش مضاد عيار 23 بيحترق وقد قتل اللي من عليه، لم ينهي المبلّغ اتمام حديثه حتى يدوي صوت انفجار آخر، تبين أنه لسيارة أخرى حاولت الوصول الى موقع الكمين وانتشال المصابين وقد انفجرت عبوّة قبل وصولها، كان الوقت يشير الى منتصف النهار، يتوجب علينا العودة الى مواقع قريبة وبعد تناولنا وجبة الغداء كان المجاهدون قد عادوا بالغنائم التي كانت على متن السيارتين وسلمت من الانفجارين من بينها سلاح المضاد الجوي 23 مم، وقبل أن تغرب شمس اليوم جاء الخبر باحتراق آلية ثالثة حاولت ايضاً بلوغ مكان الآليتين السابقتين، وقد أمكننا صباح اليوم التالي الرجوع الى ذات المكان جنوب شرق منطقة الخليفين ومعاينة الآليات الثلاث.
أما صبرين فتتجدد فصول روايتها مع كل زحف جديد عليها ..
الأرضُ تقاتل في صف المدافعين:
يُحاول العدوان الاستفادة من اتساع المساحة الجغرافية لخب والشعف عن طريق الالتفافات العسكرية لتحقيق اختراقات ميدانية، وهي الاستراتيجية العسكرية التي ما فتئ يتبعها منذ بداية العدوان، ومن المعلوم أن هذه الطريقة تستغرق قوة بشرية هائلة يتم الزج بها على كامل المناطق المترامية الاطراف، مصحوبةً بعتاد عسكري متنوع وغطاء جوي شبه متواصل، وهو ما يُغرق المنافقين ومن ورائهم العدوان وسط بيئة متناقضة المناخات ومتباينة التضاريس، تمثل بالنسبة للطرف المهاجم مستنقع استنزافي لا يمكن تحمله وفي المقابل تعد هذه البيئة وسط ملائم بل وتصنف كعامل مساعد لمن يقف في موقع الدفاع، وهو بالتحديد ما قصده مجاهدو الجيش واللجان الشعبية من ضباط المنطقة العسكرية السادسة بالقول: (إن الأرض تقاتل معنا).
في حرب التباب والمواقع تقاتل الأرض بتضاريسها المعقدة في صف المدافعين عنها