ثورة الـ 21 سبتمبر.. هل كانت قفزة إلى المجهول؟ (مقال تحليلي )للباحث والإعلامي /عبدالله علي صبري
ما إن أسدل الستار على مؤتمر الحوار الوطني في يناير 2014م، حتى تأكدت ملامح الأزمة السياسية التي استمرت في التصاعد بالتوازي مع الحرب المستعرة على صعدة، والتنكر لمخرجات الحوار المتوافق عليها، وفرض رؤية جديدة لتقسيم الدولة إلى ستة أقاليم دون اعتبار لرأي القوى والمكونات السياسية التي أبدت الكثير من التحفظات على مشروع الأقاليم ثم على مشروع الدستور الجديد أيضا.
وحين أمكن لأنصار الله التغلب على الحصار العسكري والأمني وتداعيات حرب دماج التي اتخذت عنوانا طائفيا عابرا للحدود اليمنية، ومع وصول اللجان الشعبية إلى عمران، أعلنت حكومة الوفاق عن زيادة سعرية جديدة في أسعار المشتقات النفطية، رافضة كل المقترحات والحلول للأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بفعل الفساد المستشري وغير المسبوق لسلطة التوافق.
دعا أنصار الله إلى هبة شعبية وصولا إلى التصعيد الثوري، ونصب عدة مخيمات حول أمانة العاصمة تحت مبرر حماية الثورة من الاعتداءات الدموية للأجهزة الأمنية، وبالموازاة اشتغل مبعوث الأمم المتحدة الأسبق جمال بنعمر على خارطة اتفاق سياسي عرف باسم اتفاق السلم والشراكة، ووقعت عليه كل الأحزاب اليمنية المعتبرة تقريبا، وبإشراف من رئيس البلاد حينها عبدربه منصور هادي، ولم تكن مصادفة أن توقيع الاتفاق جاء بعد أن أحكمت اللجان الشعبية سيطرتها على العاصمة صنعاء معلنة انتصار ثورة 21 سبتمبر، في حدث مفاجئ ودراماتيكي لم تستوعبه القوى السياسية التقليدية ولا النخبة المثقفة، ولم تباركشه أية دولة أجنبية، ما جعل الكثيرين يرون في الحدث قفزة إلى المجهول..
واليوم تحل الذكرى الخامسة للثورة، فيما المؤكد أن أنصار الله والقوى الثورية هم الرقم الفاعل على الساحة اليمنية رغم توالي التحديات والعواصف التي واجهت الثورة ولا تزال.
مسار السلم والشراكة
حين تبلورت مطالب الثورة الشعبية في ثلاث نقاط أكدها السيد عبدالملك الحوثي في أكثر من خطاب، ولما فشلت كل محاولات التوسط بين الثوار والسلطة، عمد المبعوث الأممي جمال بنعمر للحوار مع الأحزاب السياسية والتباحث معها بشأن حل سياسي يستوعب مطالب الثوار ويفتح المجال أمام مرحلة ثانية من التوافق السياسي، وبالفعل فإن اتفاق السلم والشراكة قد تضمن الاستجابة لمطالب الثوار الرئيسية: التراجع عن الزيادة السعرية في المشتقات النفطية، وإقالة حكومة محمد سالم باسندوة، وآلية لتصحيح مسار تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، مع ملحق أمني يشمل العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى.
لكن مع صبيحة اليوم التالي لتوقيع الاتفاق، صدرت تحفظات عن الأحزاب والقوى النافذة، التي حاولت التملص من تنفيذ اتفاق السلم والشراكة بحجة أنها وقعت عليه تحت التهديد ( وبمؤامرة نسجها هادي مع السعودية)..ومع ذلك مضت الأحزاب نحو تشكيل حكومة جديدة، وأصدر هادي قرارا بتكليف أحمد عوض بن مبارك بتشكيل الحكومة، الأمر الذي رفضه أنصار الله والقوى الثورية على نحو حازم، وبرغم العراقيل التي وضعتها قوى النفوذ على طريق تشكيل الحكومة، إلا أن أنصار الله ساعدوا على إنفاذ الخطوة حين وافقوا على تشكيل حكومة كفاءات برئاسة خالد بحاح، وكان لافتا أن التشكيلة ضمت وجوها حزبية معروفة ينتمي بعضها إلى حزبي الإصلاح والاشتراكي، فيما تعمدت السلطة إقصاء أنصار الله والمؤتمر الشعبي من الحكومة..!
الفراغ الأمني
التحدي الأمني كان ماثلا على نحو خطير قبيل 21 سبتمبر وبعده، فقد تنامت المخاوف من حرب أهلية جراء الشحن الطائفي الذي لازم يوميات التصعيد الثوري، وجرى الحديث كثيرا عن تشكيل لجان شعبية تتولى حفظ الأمن في العاصمة صنعاء ومواجهة أنصار الله والقبائل المسلحة المنضمة للثورة، وكان لافتا أن هادي خاطب قيادة الأحزاب محملا إياها مسؤولية حماية العاصمة مدعيا أن قوات الجيش والأمن ما تزال تدين بالولاء للرئيس السابق، وقد فهم البعض أن هادي خطط لمواجهة مباشرة بين الإصلاح وأنصار الله في العاصمة صنعاء حتى يتخلص من كليهما..!
غير أن شبح الحرب الأهلية تبخر مع سيطرة اللجان الشعبية والثورية على تبة التلفزيون ومعسكر الفرقة الأولى مدرع، ثم بعد هروب الجنرال العجوز علي محسن الأحمر خارج البلاد..حينها أعلن الإصلاح في موقف حكيم أن حماية العاصمة من مسؤولية الدولة، (مع أن الأحداث اللاحقة أثبتت أن القرار كان إقرارا بالعجز لا أكثر).
في الخضم ووسط اتهامات متبادلة بين هادي وصالح والإصلاح، انسحبت قوات الشرطة والأمن من شوارع العاصمة ومن مؤسسات الدولة، لتدخل العاصمة في فراغ أمني كاد أن يفضي إلى حرب أهلية بالفعل، لولا أن اللجان الشعبية والثورية سارعت إلى ملء الفراغ وتأمين العاصمة ومداخلها في وقت قياسي.
وبهذه الخطوة أمكن للثورة أن تتجاوز أخطر الفخاخ التي نصبها خصومها، ولكنها بعد ذلك واجهت التحدي المتعلق بالعمليات الإرهابية التي تعرضت لها العاصمة صنعاء، وبلغت ذروتها مع مجزرتي بدر والحشحوش في مارس 2015م، أي قبيل أيام فقط من إعلان العدوان السعودي الأمريكي على اليمن وعلى ثورة 21 سبتمبر.
التحدي السياسي مرة أخرى
كما أن الداخل لم يستوعب المتغير الكبير الذي حمله 21 سبتمبر لليمن واليمنيين، فإن القوى الخارجية هي الأخرى انتظرت وقتا طويلا نسبيا لكي تهضم ما جرى، وتستعد للتعاطي مع الأمر الواقع، وهذا ما كانت تتجه إليه الأسرة السعودية الحاكمة قبيل الإعلان عن وفاة الملك عبدالله، وتنصيب أخيه سلمان بدلا عنه.. ونظرا للانقلاب السريع في السياسة السعودية تجاه اليمن، ولحجم الدعم الأمريكي المعلن لما يسمى بعاصفة الحزم، يمكن التكهن بأن وفاة الملك السعودي الراحل لم تكن طبيعية، وإن الإعداد للحرب السعودية الأمريكية على اليمن قد نسجت بالتفاهم مع الملك الجديد ونجله الطامح إلى العرش، وتمهيدا للتدخل العسكري أعلنت واشنطن والرياض عن سحب سفارتيهما من اليمن، ثم توالت الانسحابات لسفارات الدول الأخرى لتصطدم الثورة بالفراغ الدبلوماسي، وبالتزامن أعلن هادي استقالته من منصب الرئاسة، وكذلك فعل رئيس الحكومة وغالبية الوزراء، ليصبح الفراغ السياسي مركبا ومربكا للقوى الثورية في الوقت ذاته..
ومرة أخرى يتدخل المبعوث الأممي، فيدعو الأحزاب السياسية للحوار في منتجع موفمبيك برعاية من الأمم المتحدة، وحين كادت الأحزاب والقوى السياسية أن تتفق على كيفية ملء الفراغ السياسي سددت القوى الاستخباراتية المعادية ضربة موجعة للقوى الثورية، حين تمكنت من تهريب الرئيس المستقيل إلى عدن، فما إن وصل إلى هناك حتى أعلن التراجع عن اتفاق السلم والشراكة وكل التفاهمات التي جاءت بعد 21 سبتمبر.
العدوان التحدي الأكبر
أدركت صنعاء الثورة خطورة الوضع الجديد في عدن، فمنحت اللجان الشعبية الضوء الأخضر لملاحقة الخائن هادي إلى عدن، في خطوة جريئة أثارت الجدل حينا والاستنكار حينا آخر، ولم يتبين مقدار صوابيتها إلا بعد حين.
تلقت صنعاء نصائح داخلية وخارجية بعدم المجازفة، وضرورة التعاطي مع المستجد الجديد الذي أعاد الأوضاع إلى مربع الصفر، إلا أن القيادة الثورية حسمت أمرها وأثبتت استقلالية قرارها وحكمته في آن، فقد كان واضحا أن سيناريو الحرب هو الأقرب، وقد تقاطر سفراء دول العدوان إلى عدن ومنحوا هادي جرعة من الثقة تمهيدا لإعلان الحرب بدعم خليجي وأمريكي.
دخلت صنعاء مرحلة سباق سريع مع السعودي والأمريكي، فأمكن للجان الشعبية وفي وقت سياسي من السيطرة على عدن، وفيما كان هادي يغذ السير هاربا إلى سلطنة عمان، أعلنت السعودية من واشنطن عن عاصفة الحزم، التي جعلت صنعاء وكل الشرفاء يتعاملون مع عدو خارجي كشف عن نفسه في لحظة غباء لم يفق من تداعياتها بعد.
وبالتدخل السعودي العسكري المباشر أمكن للقيادة الثورية أن تحشد القوى الشعبية اليمنية باتجاه مرحلة فارقة من الصمود والثبات، ولولا هذا التدخل لأمكن للرياض وغيرها أن تدعم الحرب من تحت الطاولة، وتقدم نفسها راعية للسلام كالمعتاد.
بيد أن حجم العدوان لم يكن محدودا، فقد حشد التحالف قوة عسكرية جوية لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي الحديث، وبنفس التخطيط الأمريكي وعلى غرار عاصفة الصحراء في حرب تحرير الكويت، ظن السعودي الأمريكي أن المهمة ناجزة في اليمن خلال أسابيع محدودة، إلا أن المسألة لم تكن بهذه البساطة، وبالطبع ما كان أحد يتوقع أن اليمن دولة وشعبا بإمكانها الصمود أمام حرب عاتية كهذه، فإذا فتشت عن السر فلن تجده إلا في ثورة 21 سبتمبر التي هيأت الشعب اليمني في فترة قصيرة ليخوض أكبر ملحمة من الصمود والتحدي والثبات، وصولا إلى مشارف الانتصار الذي بات قاب قوسين أو أدنى.
ما بعد توازن الردع