تهويد القدس على قدم وساق.. تاريخ استعماريّ إسرائيليّ آخره قطار جويّ
في ظل المحاولات الإسرائيليّة المستمرة من أجل نزع الهوية الإسلاميّة والمسيحيّة التاريخيّة من مدينة القدس العربيّة، وفرض طابع احتلاليّ مستحدث وهو الطابع اليهوديّ أو الصهيونيّ، صادقت المحكمة الصهيونية العليا مؤخراً وبشكل مفاجئ، على إقامة خط للقطار الجوي الممتد حتى عمق البلدة القديمة من القدس المحتلة، بعد أن رفضت الالتماسات المقدمة ضد مشروع “القطار الهوائي” في المدينة، لتعطي الضوء الأخضر للسلطات التنفيذيّة للبدء بتنفيذ المشروع، رغم الاعتراضات التي قدمت ضده، فمنذ قيام العصابات الصهيونيّة باحتلال مدينة القدس عام 1967، وهي تعمل بلا كلل للسيطرة عليها وتغيير معالمها بهدف تهويدها وإنهاء الوجود العربي فيها نهائيّاً، وقد استخدمت لأجل ذلك الحلم الصهيونيّ الكثير من الوسائل وقامت بالعديد من الإجراءات ضد المدينة وسكانها، حيث كان الاستيطان في المدينة وفي الأراضي التابعة لها أحد أهم الوسائل لتحقيق هدف الصهاينة الأساسي تجاه مدينة القدس.
سياسة واضحة
لا شيء أوضح من المخططات الإسرائيليّة في فلسطين ومنطقة، فمنذ أن وافق الصهاينة على إنشاء وطنهم اليهودي على أرض فلسطين العربيّة تاريخيّاً، يكررون المزاعم الفارغة حول أنّ فلسطين هي “أرض الميعاد” وأنّ اليهود هم “شعب الله المختار”، وأنّ القدس هي “مركز تلك الأرض”، وأنّها “مدينة وعاصمة الآباء والأجداد”، و”مدينة يهوديّة بالكامل”، بهدف الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الفلسطينيين بأقل عدد ممكن منهم، بعد أن شجعت الحركة الصهيونيّة بشكل كبير جداً، هجرة يهود أوروبا الجماعيّة إلى أرض فلسطين خلال النصف الأول من القرن العشرين.
وبالاستناد إلى أنّ القادة الصهاينة في القرن العشرين كانوا على دراية كاملة بأنّ تطبيق المشروع الصهيونيّ سيؤدي حتماً إلى عملية تطهير عرقيّ وتهجير قسريّ للسكان الأصليين أي الفلسطينيين، فإنّ قادة الكيان اليوم كأولئك تماماً، حيث إن الاعتراضات المفصلة التي قدمت باسم أهالي سلوان، وتجار البلدة القديمة، وجمعيات المجتمع المدني الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، ورغم الانتقادات المهنية لهذا المشروع لما فيه من مساس بالبلدة القديمة والمنظر العام لأسوار القدس، إضافة الى الأضرار للإرث الحضاري والتاريخي والمعماري للمدينة، لم تشفع كلها أمام العهر السياسيّ الإسرائيليّ الذي يُشعرنا مع كل تزايد بإجرامه باقتراب نهايته الحتميّة.
وكأنّ التصرفات الحمقاوية لسلطات العدو تحاول تحويل ترهاتها إلى واقع في أنّ القدس هي عاصمةٍ أبديّة للصهاينة من كل حدب وصوب للتطاول على حقوق الشعب الفلسطينيّ ومقدساته وثرواته، ناهيك عن سرقة وتخريب الآثار الفلسطينيّة، باعتبارها تشكل جزءاً من الهوية الثقافيّة والحضاريّة لفلسطين، والتي تُعتبر من الدول الغنيّة جداً من الناحية الأثريّة، حيث تتنافس مع مصر على المرتبة الأولى من حيث الاستحواذ على الآثار في الوطن العربيّ، وقد اهتمت الحكومات الصهيونيّة المتعاقبة منذ يوم 14 مايو/ أيار عام 1948، عندما صُنع هذا الكيان وحصل على اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتيّ بعد دقائق من إعلانه، بمحاولة تدمير أو تشويه أو تخريب كل ماهو يناقض حقيقتهم القذرة، وحتى اليوم، لم تتغير سياسة قادة العدو قيد أُنملة، بل زادت ظلماً وعدواناً حتى وصلت إلى قمة الإجرام والإرهاب على كل المستويات، بعد أن فرضه المستعمرون على العالم وعلى المنطقة.
ومن الجدير بالذكر، أنّ مشروع القطار الهوائي “ركيفل” بطول 1.4 كم بـ4 محطات وبإمكانه حمل 3 آلاف شخص في الساعة في ذروة عمله، واشتق من “المشروع الهيكلي الخاص المحيط بالقدس القديمة”، والذي بدأت سلطات العدو العمل عليه قبل أكثر عشر سنوات، وقبل عامين قامت “سلطة تطوير القدس” بإطلاق وإعلان مشروع القطار الهوائي في محيط البلدة القديمة بالشراكة مع بلدية القدس ووزارتي المواصلات والسياحة، حيث تعتبر تل أبيب بأن هذا المشروع هو ضمن “المشاريع القومية الوطنية للمواصلات ونقل السياح الى البلدة القديمة”.
ويمتد المشروع الإسرائيلي الجديد من محطة القطارات القديمة في طريق الخليل إلى “جبل صهيون”، وبعدها يصل إلى باب المغاربة، حيث ستتم إقامة محطة ليستخدمها المستوطنون الصهاينة في الوصول إلى حائط البراق والبلدة القديمة، ومن هناك سيواصل القطار مسيره باتجاه “ناحال كدرون” وجبل الزيتون وفندق الأقواس، فيما تشمل الخطة المحدثة 41 عربة متباعدة عن بعضها بمسافة 73 متراً وستحمل كل عربة حتى 10 مسافرين وبسرعة 6 أمتار في الثانية على أن تقطع المسافة كاملة خلال 4.5 دقائق وبنفس تكاليف القطارات العادية، وأن لجنة البنى التحتية الصهيونية صادقت قبل 3 سنوات على مخطط القطار الهوائي في القدس، والذي يربط جبل الزيتون بساحة البراق، ويشمل المخطط عدة محطات، فيما قدمت الاعتراضات على المحطة من حي الثوري مروراً بمنطقة النبي داوود ووصولا الى منطقة وادي حلوة وبالتحديد مشروع كيدم الاستيطانيّ.
ضغط أمريكيّ
في الوقت الذي لا تكف فيه قوات الاحتلال المجرم عن استهداف وقتل وتهجير الفلسطينيين ونهب أراضيهم، في مساع حثيثة من قبل العدو ومسانديه للهيمنة على مقدرات فلسطين بالسيطرة على الأرض والتركيبة السكانيّة لمصلحة الإسرائيليين اليهود، طالبت السلطة الفلسطينيّة بضغط أمريكي على الاحتلال لوقف إقامة قطار جوي فوق القدس، مدينة بأشد العبارات مصادقة المحكمة الإسرائيلية العليا على إقامة خط للقطار الجوي حتى عمق البلدة القديمة في القدس المحتلة ورد جميع الالتماسات التي قدمت ضد هذا المشروع الاستيطانيّ – التهويديّ.
“هذا المشروع جزء لا يتجزأ من حملات تهويد القدس وبلدتها القديمة وتشويه هويتها الحضارية الفلسطينية المسيحية الإسلامية، وجزء من حملات تغيير واقعها التاريخي والقانوني والديمغرافي القائم”، هذا ما أشار إليه بيان وزارة الخارجية الفلسطينية التي بينت أن قرار المحكمة الإسرائيلية دليل آخر على أن منظومة القضاء والمحاكم في دولة الاحتلال جزء لا يتجزأ من منظومة الاحتلال نفسه وتعمل لخدمة مخططاته الاستعمارية التهويدية، وهو أيضا دليل قاطع على كذب ادعاءات المسؤولين الإسرائيليين بشأن حرصهم على عدم تغيير الوضع القائم في القدس وبلدتها القديمة ومقدساتها.
وبالتزامن مع مساعي الكيان الإسرائيلي الغاشم لاستكمال مخططه الاستيطاني الهادف للسيطرة الكاملة على العاصمة الفلسطينية القدس، حمّلت رام الله الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة والمباشرة عن هذه المشاريع الاستعمارية التهويدية، معتبرة أنّ إقراراها وتنفيذها يعد تصعيداً خطيراً يهدد ساحة الصراع بانفجارات كبرى يصعب السيطرة عليها.
وما يدل على أنّ حركة فتح لم تفهم حتى اللحظة أنّه لا فائدة من التعويل على أمريكا في إيجاد أي حل لمآسي الفلسطينيين، طالبت الخارجية الفلسطينية المجتمع الدولي والإدارة الأمريكية بالتحرك السريع للضغط على كيان الاحتلال لوقف تنفيذ هذا المشروع فورا أن أميركا تلصق اسم القدس العربية كعاصمة للمحتل المجرم وتبقي سفارة بلاده فيها، كما طالبت المنظمات الدولية المختصة وفي مقدمتها اليونسكو تحمل مسؤولياتها في توفير الحماية للقدس ومقدساتها.
يُشار إلى أنّ مختصين ومراقبين للشأن المقدسي أكّدوا أن القطار الجوي الذي صادقت على إنشائه محكمة الاحتلال العليا مؤخراً في القدس القديمة، هو مشروع تهويدي جديد في طريق “القدس الكبرى”، وهي خطة قديمة شعارها الأوح (أكثر ما يمكن من اليهود وأقل ما يمكن من العرب) وقد شرعت “إسرائيل” بتطبيقها منذ عقود، وبالتحديد منذ وقوع المدينة المقدسة والأقصى الشريف تحت الاحتلال عام 1967، حيث عمل الكيان الصهيوني على طمس الطابع العربي والإسلامي للمدينة، واستبداله بصبغة يهوديّة تمهيدا لبناء “الهيكل المزعوم”، وذلك بزرع المغتصبات وشق الشوارع وإقامة الفنادق والمطاعم والملاهي وغيرها من المنشآت المدنية والعسكريّة.
ومن الضروريّ التذكير بتقرير صحيفة هآرتس الإسرائيليّة، مؤخراً، والذي أكّد أن عملية تهويد القدس مستمرة وتجرى على قدم وساق بعيداً عن الأضواء، ومن دون أن تكون هذه القضية سبباً لزعزعة العلاقات الإسرائيلية – الأميركية، حيث يجرى بناء أحياء يهودية جديدة والتخطيط لأخرى وراء الخط الأخضر (الشطر الشرقي لمدينة القدس المحتل عام 67) مثل أحياء هار حوما، وغفعات همطوس، وعطروت ورمات شلومو، كما تكثف جمعيات المستوطنين جهودها لتهويد حي سلوان وحي الشيخ جراح وجبل المكبر وراس العامود، وفي هذه الأحياء وأحياء فلسطينية أخرى، يواصل الفلسطينيون مواجهة سياسات تخطيط وبناء مستحيلة.
ويرى الإعلام العبريّ أن هذا الأمر يحدد ويبلور معالم “عاصمة إسرائيل” والكيان برمته، معترفين بحقيقة تحدث منذ عشرات السنين، وهي استيقاظ عشرات آلاف الفلسطينيين المقدسيين على واقع خطر، هدم بيوتهم أو طردهم منها، أو خطر يهدد حياتهم، ما يدفع المدينة نحو اليأس والعنف، فيما يعترف كتاب إسرائيليون بأنّ إقامة الأحياء اليهودية وجهود تهويد الأحياء الفلسطينية تجعل كل مستقبل لتسوية سياسية “غير ممكن”.
في الختام، يغيب فيه الكيان الصهيونيّ القاتل كل القرارات الدوليّة بفرضه سياسة الأمر الواقع على الفلسطينيين واستباحته للدم الفلسطينيّ والعربيّ وخرقه الفاضح لكل القوانيّن والمواثيق الدوليّة المتعلقة بحقوق الإنسان، إضافة إلى مخطط الضم امتداداً لعملية التوسع على حساب الأرض والحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ الأعزل، في إصرار واضح من حكومة العدو على قتل آخر رمق للسلام الذي يتحدث عنه البعض وبالأخص الولايات المتحدة التي أدخلت العديد من الدول الخليجيّة والعربيّة في حظيرة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ رغماً عنها، يحذر البعض من خطورة هذا المشروع التي تكمن في تسهيل وصول المستوطنين اليهود إلى المسجد الأقصى وحائط البراق، وبالتالي تشجيع المستوطنين على اقتحام المسجد الأقصى المبارك بشكل مستمر ومكثف، في مرحلة شديدة من الانتهاك، تسعى من خلالها الجماعات الاستيطانية وعلى رأسها جماعات “الهيكل المزعوم”، إلى تثبيت المعالم اليهودية في المدينة المقدسة، بالتزامن مع الاستهداف العلنيّ للهوية الفلسطينيّة المقدسيّة وللوجود الفلسطينيّ ناهيك عن السلوك العدوانيّ العنصريّ الخطير والجرائم المستمرة التي تضاف إلى سجل العدو الأسود بحق القدس وسكانها.
المصدر: موقع الوقت التحليلي