بعد ربع قرن.. قراءة في تجربة “أوسلو” وخيار المفاوضات
– في مثل هذه الأيام في 13 سبتمبر من العام 1993، تداولت وسائل الإعلام مشاهد المصافحة التي وُصفت بـ “التاريخية” بين رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك اسحق رابين، وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، تتويجاً للاتفاق الذي نص نظرياً على “حل الدولتين” وتشكيل دولة فلسطينية في حدود 1967 وانسحاب إسرائيلي من أراضي الضفة الغربية، والذي لم يتحقق عملياً حتى اليوم بعد مرور ربع قرن على الاتفاقية.
لم تكن مفاوضات أوسلو تشبه تلك المتعارف عليها بين الدول، فهي جاءت بين كيان إسرائيلي مغتصب ومدعوم من القوى العالمية الكبرى أي أمريكا، ومنظمة التحرير الفلسطيني التي تأسست بهدف التحرير كما جاء من اسمها، فقد جاءت في ظروف غير متكافئة لا من ناحية الوسيط النزيه، ولا من ناحية عدالة المطالب، حيث كرست فيها إسرائيل عقدة التفوق المتعالية لديها لفرض إرادته على الطرف الآخر.
لا شك أن اتفاقية كامب ديفيد بين السادات وإسرائيل، كانت قد عبّدت الطريق نحو أوسلو، ومن ثم فإن حرب الخليج الثانية التي جرت بعد الغزو العراقي للكويت، وما أفرزته من إنهاء لإجماع العربي، ودفعت بشعور الإحباط إلى أعمق حالاته في وجدان منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الحين، وذلك بالرغم من امتلاكها ورقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى والتي كانت عملياَ السبب الذي دفع الكيان الاسرائيلي نحو خيار التفاوض.
الفخّ الإسرائيلي
نص اتفاق أوسلو على الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة على مرحلتين، تبدأ الأولى في 13 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1993، وتنتهي بعد ستة أشهر، في حين تبدأ الثانية بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة وأريحا وتستمر لمدة خمس سنوات، وعُرفت بالمرحلة الانتقالية، كما نصّ الاتفاق على تأجيل المفاوضات عن الوضع النهائي لمدينة القدس، إضافة لقضايا الحدود واللاجئين والاستيطان والمياه، إلى المرحلة الثالثة والأخيرة التي امتدت حتى الآن، إلا أن الكنيست الإسرائيلي وبعد سنة واحدة فقط، أي في أغسطس/آب 1994، صوّت بأغلبية ساحقة على قرار ينصّ أن القدس الموحدة ستبقى عاصمة “إسرائيل” الأبدية، وصوّت إلى جانب القرار جميع الوزراء في حكومة إسحق رابين.
وواصلت حكومة نتنياهو توجيه الضربات للاتفاق عندما ألغت عمليات إعادة الانتشار الثانية والثالثة، وألغت الإفراج عن المعتقلين وفتح الممر الآمن بين غزة والضفة الغربية وواصلت التوسع في الاستيطان داخل الضفة الغربية.
الأثمان التي دفعتها السلطة الفلسطينية
وأد أتفاق أوسلو الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد ست سنوات على صمودها واستمراريتها، كما فقد الشعب الفلسطيني القاسم المشترك الأهم بين أبنائه، الذي كان يستند إلى الهدف الوطني بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وتراجع دور منظمة التحرير ومكانتها العربية والدولية، بعد أن تخلّت عن المقاومة المسلحة وتولّت السلطة الذاتية وسخّرت أجهزة أمنها لملاحقة أي احتمال للعمل الفدائي، وتشبثت بالتنسيق الأمني مع العدو، وأحبطت عشرات العمليات ضد الاحتلال في الضفة الغربية، وباركت كل إجراءات خنق قطاع غزة، دون أن يسهم ذلك في دفع الكيان الإسرائيلي للالتزام بنص الاتفاق.
كما أدّت الاتفاقية إلى فتح باب التطبيع بين “إسرائيل” والدول العربية، حيث جاءت الاتفاقية الأردنية مع “إسرائيل” في وادي عربة كنتيجة طبيعية لمسار أوسلو، ثم انطلقت إسرائيل تحاول نسج آلاف الخيوط الدبلوماسية والاقتصادية مع العالم العربي، وقد استجابت بعض دوله (خاصة الخليجية) بلهفة لهذا المسار، بحجة أن الفلسطينيين سبقوا بالمبادرة في الخروج عن الإجماع العربي من خلال اتفاق أوسلو.
مزيد من الانحياز الأمريكي والتفريط بالحقوق الفلسطينية
اليوم ومع مرور ربع قرن على اتفاق أوسلو، مازال الكيان الإسرائيلي يوغل في أطماعه وممارساته الفجة، ولم يعد هنالك مجال للحديث حول نزاهة الوسيط الأمريكي الذي قام خلال العام الحالي بنقل سفارته من تل أبيب إلى القدس، كما أن وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)، لم يكن إلا مؤامرة إسرائيلية أمريكية على الشعب الفلسطيني، كما جاء قرار الإدارة الأمريكية أمس إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، كخطوة مكمّلة لقرار الرئيس ترامب في إطار التنفيذ التدريجي لـ”صفقة القرن”، وعندما قررت السلطة الفلسطينية اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة “إسرائيل” أعلنت واشنطن نيتها محاكمة قضاتها ومعاقبتهم إن هم تجرؤوا على المس بإسرائيل، أو فتحوا تحقيقاً بشأن الجرائم الأمريكية في أفغانستان.
الظروف والخيارات الجديدة
إن كانت الظروف العربية القاتمة التي سبقت توقيع اتفاقية أوسلو، هي ما دفعت منظمة التحرير إلى خيار التفاوض وترك العمل المسلّح نتيجة قناعة تشكلت في ذلك الحين لدى بعض القيادات الفلسطينية بعدم جدوى خيار المقاومة، فاليوم هناك وضع جديد يكرس نفسه في المنطقة يخالف تماماً الوضع السابق، يثبت وبلا ريب أن خيار المقاومة هو الخيار الوحيد والأنجع لمواجهة الكيان الصهيوني، هذا الخيار الذي تُوّج بانتصارات محور المقاومة المتتالية، بدءاً من تحرير جنوب لبنان مروراً بفشل الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، وصولاً إلى انتصار محور المقاومة على العدو التكفيري، هذه الظروف الجديدة تؤكد صوابية خيار المقاومة وتقدّم أسباباً مهمة للسلطة الفلسطينية لعمل مراجعة لخياراتها، وإعلان المقاومة المسلحة سبيلاً للتحرير، وتفعيل هذا الخيار في الضفة الغربية.