انتفاضة القدس.. أبعاد جديدة
الحقيقة/عبير حسن بسّام
الأسئلة الصعبة التي نسألها اليوم، فلسطين نحن وإيّاك إلى أين نمضي؟ يكبر قلبنا حتى يسع العالم كلّه ونحن نرى امتداد المقاومة من حي الشيخ الجراح إلى الضفة الغربية إلى غزة. وفلسطين كلها تقف وقفة رجل واحد؛ تهب من أجل حماية بيوت الفلسطينيين، ونحن نعلم أن هدم البيوت المتعاظم في غزة والضفة والقطاع كان يذبح الجميع في القدس والأراضي المحتلة منذ العام 1948. أن تحمي بيتك، يعني أن تحمي عائلتك وأرضك ووجودك على هذه الأرض. ولكن أن يصرخ المتظاهرون في القدس: يا فدائي عيد الكرة! ومنشان الله، يا غزة يلا! وأن يبدأ قتال الشوارع في اللد، فهذا أمر آخر.
قرار الإسرائيلي بإخلاء بيوت حي الشيخ الجراح “جاء بآخرته”، لأن الألم الفلسطيني قد بلغ الزبى! ثلاثة وسبعون عاماً، في كل يوم منها تعاطى الصهاينة مع العرب والفلسطينيين بإجرام وصلف وقح. صلف مدعوم دولياً، ولن نقول عربياً، بل بخونة العربان المطبعين. تشهد الجولة الأخيرة على صليات صواريخ المقاومة وهي تنزل كما “زخ الشتا”، ويحضر هنا الأخوان الرحباني في مسرحية ناطورة المفاتيح، حين يقول الحكيم للملك الظالم أن غضب الناس يشبه “نقط الشتي المجمعة” ولا أحد يعرف من أين وكيف تنفجر المياه. والأغبياء جميعاً ظنوا أنها لن تنفجر في فلسطين وظنوا أنها مستعمرة جديدة في أمريكا أو أوقيانوسيا. وتناسوا أن تاريخنا النضالي الطويل ضدهم هو ما يصنعنا، وأن عليهم أن يتعلموا درس المئة عام في الجزائر، وأن الشعب العربي الحرّ لا ينام على الضيم.
واليوم ونحن نقترب من ذكرى النكبة في 15 أيار الأليم، معطيات متراكمة باتت تطرح أسئلة كثيرة في فلسطين وفي أولها: هل بدأنا معركة العد العكسي لنهاية الدولة المارقة في فلسطين؟ هل اقترب اليوم الذي ستصبح فيه نكبة فلسطين ذكرى أليمة نتعلم منها درساً بوضع استراتيجيتنا؟ ونضع خطة احتفالات انتصار يشبه ما شهدناه في بداية القرن العشرين؟ هل ستكتب فلسطين انتصاراً في 25 أيار؟ شهر أيار، وما أدراك ما شهر أيار!
نحن لا نخاف عندما تقاتل فلسطين من بحرها إلى نهرها الغزاة شذاذ الأفاق، ولكن ما كنا نخافه ويقبض على أنفاسنا هو ضياع القضية الكبرى الجامعة للعرب والمسلمين، فالتخلي عن القضية الفلسطينية يهزمنا من الداخل، فلسطين التي لطالما جمعتنا نحن العرب مع أخوة السلاح الذين جاؤوا من جميع البلاد العربية للقتال إلى جانب الفدائيين في كل مكان. وما حدث اليوم في فلسطين ابتداء من انتفاضة الثورة في حي الجراح، ستبدد آمال الإسرائيلي بانهزام “القومية العربية”، لأن القضية العربية الكبرى كانت وما زالت فلسطين، واتفاقيات التطبيع لم تكن المسمار الأخير في نعش القضية الفلسطينية، وإنما المسمار الأخير في نعش الكيان المارق المسمى “اسرائيل”. والبارحة مثلا، عادت CNN لتتحدث عن الشعب العربي، بعد أن تناسوه لزمن طويل. اذ عادت الحياة إليه بعد أن شردته اتفاقيات السلام والتطبيع مع الصهاينة.
نحن لا نخاف على فلسطين اليوم من الثورة! ولكن نخاف عليها من أوسلو آخر بعد أن جاء 40 قنصلاً أوروبياً يوم الثلاثاء للوقوف على وضع حي الشيخ الجراح. زيارة يجب قراءتها جيداً. أولا، هي زيارة لم تأت من أجل حقوق المقدسيين في بيوتهم، بل جاءت من أجل تطويق الثورة التي اشتعلت في فلسطين وحماية الصهاينة المستوطنين “اليهود المساكين المضطهدين”. وهي زيارة لن تأخذ بالحسبان جميع الفلسطينيين الذين أخرجوا من بيوتهم وهدمتها الجرافات الصهيونية أمام عيونهم فرادى، بينما يعود الصهاينة لتذكيرنا بأن 15 أيار، ذكرى تشريد الفلسطينيين جماعات، بالتآمر مع فاروق مصر وعبد الله شرق الأردن، عربان العرب آنذاك: ومن لديه شك فليقرأ مذكرات القائد فوزي القاوقجي من جديد. وثانياً، زيارات الأوروبيين هي من أجل تطويق الآمال التي وصلت أوجها مع انتفاضة القدس وانتفاضة حي الشيخ الجراح، وحصار المعتصمين في باحات المسجد الأقصى الذين حاول الصهاينة حرقهم وقتلهم في مسجد قبة الصخرة ومنع المساعدات الطبية.
إنها مجازر جماعية من جديد، تعيد ذكرى مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994، وحرق المسجد الأقصى في العام 1669. هم يظنون أن العرب لا يقرؤون التاريخ، ولكنهم نسوا أن العرب اليوم يكتبون التاريخ بأيديهم، والمظاهرات التي انطلقت في كل مكان تشهد على قدرة فلسطين على توحيدنا. والمفارقة أن تبدأ معارك تحرير القدس في شهر أيّار، الشهر الذي شهد معارك المقاومة والخيانة لفلسطين في العام 1948، وإعلان قيامة دولة “اسرائيل”، اذ يسجل في هذا الشهر العام “الثالث والسبعين” لاحتلال القدس. مفارقة تذكر بجميع المجازر التي قامت بها العصابات الصهيونية خلال شهر ايار 1948 في كل قرية قاومتهم حتى الرصاصة الأخيرة. ولذا يجب الحذر من تحويل الانتباه وتوجيه المفاوضات لتصبح مفاوضات حول قضية حي الشيخ الجراح، إلى الحديث عن مفاوضات حول وقف العدوان على غزة، فالإسرائيلي لا يستطيع قصف حي الشيخ الجراح في القدس لوقف انتفاضة القدس، ولا يستطيع قصف المسجد الأقصى، ولكنه يجد أن المنفذ الوحيد له هو في قصف غزة.
على المقلب الآخر، هناك نقاط هامة ومحددة علينا قراءتها وبكل موضوعية. ومنها، ما حذر منه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله الصهاينة من التمادي في خطابه بمناسبة يوم القدس، وذكرهم بالخطوط الحمراء التي حددتها استراتيجية الردع التي صنعتها المقاومة في لبنان، ومن أي تعدٍّ على لبنان خلال المناورة الكبرى التي كان ينوي القيام بها، وسأل سيد المقاومة عما إذا كانت القبة الحديدية قادرة على صد صواريخ المقاومة الكثيفة والمتنوعة؟ كان السؤال استراتيجيًا هامًا وفي موقعه! لم ينتظر السيد الجواب طويلاً، فقد جاء الجواب جلياً مع الصورايخ التي أطلقتها غزة، ومن قبل جميع الفصائل، جواب بث الرعب بين الصهاينة، وجعلهم يسكنون الجحور كما الفئران تحت الأرض.
النقطة الثانية، هي الأهداف الدقيقة التي حددتها المقاومة منذ زمن، ابتداء بقصف المستوطنات رداً على قصف الفلسطينيين العزل في غزة، وأنابيب البترول الواصلة من خليج إيلات إلى عسقلان ومينائها، إلى قصف تل أبيب ومطار بن غوريون والنقب. لقد شلت المقاومة وحدها الكيان الغاصب خلال 3 أيام فقط. والصهاينة لا يستطيعون الرّد إلّا في غزة الأبية، لأن الضفة الغربية كلها منطقة استراتيجية، وخاصة منطقة غوشدان ما بين الضفة الغربية والبحر، وصفد يسكنها أغنياء الصهاينة من الأشكناز، والذين جاءت منهم جميع القيادات الصهيونية، وهي تحت مرمى الصواريخ الدقيقة.
والنقطة الثالثة، يجب عدم الاستهانة بـ”معادلة الردع” التي تفرضها المقاومة الفلسطينية اليوم، عندما سيفرض على الصهاينة تحييد المدنيين وبيوتهم الآمنة في كل فلسطين. معركة اليوم، تذكرنا بما فرضته المقاومة في لبنان من تحييد للمدنيين والمنشآت في لبنان بعد عدوان نيسان 1996. وهي المعادلة التي مهدت الطريق بعد أربع سنوات لتحرير جنوب لبنان.
نعم نحن نقرأ التاريخ، ونحن نتمحص في قراءة تاريخ نضال شعبنا العربي عامة والفلسطيني خاصة مع الاستعمار الأوروبي، والذي يأتي اليوم باسم الأميركي والصهيوني والتكفيري والإرهابي، وغيرها من أشكال العدوان التي تجتاح منطقتنا العربية منذ العام 2000 وحتى اليوم. ولكن المقاومات العربية في سوريا ولبنان والعراق واليمن واليوم في فلسطين قالت كلمتها، وستكون هي الكلمة الفصل لأنّها معمدة بالدم. ولكن ما يحدث اليوم في فلسطين مختلف، فهي القضية الكبرى والأساس، وصمود الشعب العربي الفلسطيني بكل أطيافه في القدس، يكتب صمود الشعب العربي في كل مكان، نحن شعب قد يكون قلب عروبتنا النابض في سوريا ولكن شرايينه لا تهدر إلّا من القدس، وهي معادلة يجب أن يعرفها الجميع، وصواريخ الكورنيت التي وحدتنا ما زالت تشهد.