اليمن يُعيد التوازنات في ظل الخذلان والتفرد بغزة
اليمن يعلن مرحلةً رابعة من التصعيد ضد الكيان الإسرائيلي نصرةً للمقاومة في قطاع غزّة، على الرغم من العدوان الأميركي البريطاني عليه.
يُساهم اليمن اليوم في تشكيل جغرافيا سياسية جديدة في المنطقة، بحيث ينطلق من مدرسة متباينة عن المدارس العسكرية والسياسية الأخرى. هذه الجغرافيا الجديدة بلورتها الأحداث الجسام، التي عصفت باليمن في الأعوام الفائتة، واكتملت مع صورة عنجهية الكيان الإسرائيلي وتفرده بغزة وأطفالها وبنيانها.
ولأنّ لكلّ فعلٍ ردَّ فعل، رفع اليمن لغته عالياً، ورفع أسلحته وقدراته وأخرج شعبه إلى الميدان، وبرز في أمة لها خمسة وخمسون جيشاً تنظر الى أسوأ إبادة جماعية في القرن.
ولأنّ اليمن له عمقٌ تاريخي ضارب وثقافة إسلامية وقتالية قديمة وحديثة، أسند إلى ذلك قيادة غير هيابة ولا مرتابة من لقاء الإمبراطوريات، فلقد سخّر اليمن العنيد كل ما بين يديه ليبدأ التحكم في المضائق والبحار، ورمى ببصره أقصى القوم فكسب الرهان، ومحا جهد عقدين من التشويه والظلم اللذين شنتهما ماكينة خليجية عربية سابقاً، وانتقل من مرحلة إلى مرحلة ليقدم درساً لأمة مقيدة بالرسمية النظامية، حتى وصل إلى تحقيق كل الأهداف، مشبعاً برغبة جامحة في لقاء العدو الأول: واشنطن و”تل أبيب”.
لقد انطلق اليمن وخلفه سر كبير لم تقف لدراسته مراكز البحوث الغربية، ولم تفك شيفرته أنظمة وجيوش، مدرسة تتشكل في منطقة جغرافية استراتيجية ستعيد التوازنات، وتمهد حقبة التغيرات الكونية القادمة وتنهض قائلة “أنا هامة القوم وكاهلها الشديد الذي يوثق به ويحمل عليه”.
لقد كسب اليمن جماهير الأمتين العربية والإسلامية، وأبرز القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام، وأعاد إليها التوازن من جديد، في ظل التآمر والتخابر والمساهمة مع العدو في حرب الإبادة، وفي ظل دعم لامحدود، أوروبياً وغربياً.
ومن اليمن تبرز القوى البحرية لتشكل ورقة ضغط استراتيجية مع أنها كانت سابقاً أضعف عظمة في جسد الجيش اليمني، إلا أنّ المشروع في اليمن يستفيد من كل شيء فيبني واقعاً عسكرياً متطوراً ومتقدماً.
وكسلاح ردع استراتيجي برزت القوّة الصاروخية اليمنية وسلاح الطيران المسير كقوتين وازنتين، وأعادت إلى اليمن حضوره وهيبته، وإلى الأمة حقها الطبيعي في الدفاع عن نفسها وكيانها.
قوّة ثلاثية بدأت عملياتها على ميناء أم الرشراش وأهداف حساسة في “إيلات” كمرحلةٍ أولى من مراحل الإسناد اليمني لغزة، فاهتزّ كيان الاحتلال وتحرّك اللوبي الصهيوني في أوروبا وأميركا، ليشكلوا ورقة ضغطٍ غير مسبوقة على السياسية الخارجية لهذه الدول.
بعد أن تحرّك الأميركان وحلفاؤهم، صعّد اليمن عملياته ووسعها لتنطلق المرحلة الثانية، التي فرضت حصاراً بحرياً على الملاحة الإسرائيلية والمتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلة، وربطت ذلك بشرط توقف العدوان ورفع الحصار عن غزّة.
ومع استمرار الإبادة وتدفق الأسلحة والأموال الأميركية إلى الكيان، وفي ظلّ حالةِ الصخب والمجون التي تعيشها بعض البلدان العربية وحالة التآمر، واصلت القوات المسلحة اليمنية عملياتها البحرية نصرةً للشعب الفلسطيني، الأمر الذي أدّى إلى توقف ميناء “إيلات” (أم الرشراش)، ودفع واشنطن ولندن إلى أن تشنّا عدواناً على اليمن وتشكلا تحالفاً دولياً سُمّي “تحالف الازدهار”، وتشكَّل من 17 دولة لتأمين مرور السفن إلى كيان الاحتلال.
وعندما أرسلت هذه الدول أساطيلها وحاملات طائراتها ومدمراتها البحرية، والتي تجاوزت أكثر من 17 سفينة ومدمرة، وحاولت عسكرة البحر الأحمر، وشكّلت مسرح عمليات جديداً وواسعاً، انطلق اليمن ليبني مواجهته المقبلة، وليتصدى لهذه القدرات، مطوراً أسلحته وقدراته وفقاً لتطور عدوه الاميركي والغربي، فاستغل اليمن هذا التحالف وهذا الحراك، وبدأ اختبار مسرح عملياته، موجهاً إلى كل سفينة وبارجة ومدمرة أسلحته المتوسطة وإمكاناته التي راكمها سابقاً.
لقد أطلقت واشنطن، في تحالفها ضد اليمن، أهم سفنها الإلكترونية، ووجهتها إلى البحر الأحمر، وهي سفنٌ صُممت لمواجهة روسيا والصين ودول متقدمة عسكرياً، كما زجّت بأسطول آيزنهاور وقطعه البحرية هناك، وزوّدت جيشها البحري بمختلف التقنيات، لكنها فشلت، وخصوصاً بعد أن وجهت صنعاء بوصلتها تجاه هذه المدمرات والسفن، ولم تتوقف عند استهداف إيلات.
اختبر اليمن في هذه المرحلة العقلية العسكرية الأميركية _ البريطانية، ومثّل كابوساً مؤرقاً دفع قيادة هذه القوات إلى كشف بعض ما يدور في البحر الأحمر، فصُدموا من جرأة هذا البلد وقيادته ومن أسلحة اليمن ودقتها، وتطور الجيش، عبر مختلف تشكيلاته.
وهنا يمكن القول إنّ اليمن ربح الجولة من جديد بعد أن حقق أهدافه واختبر القدرات العسكرية لعدوه في عرض البحر، وانتقل إلى مرحلة إغراق العدو في مياه اليمن. لذا، غرقت السفينة البريطانية (روبيمار) وفشلت كل الأسلحة في حمايتها، كما أعلنت بريطانيا سحب سفينتها الحربية (HMS Diamond) بعد تعرضها لثلاث عمليات عسكرية يمنية.
بعد أن وجدت أميركا وبريطانيا قواتهما عرضة للاستنزاف والاستهداف المباشر، انطلقتا من أجل إعادة تموضع قواتهما من جديد. وتباعاً، غادرت هذه السفن الحربية البحرية والفرقاطات وحاملات الطائرات وعادت إلى مرابضها، ومنها ما ذهب إلى البحر المتوسط من دون إعلان هزيمة ساحقة، لم يتطرّق إليها الكثير، ونترك أجمل تفاصيلها لمقبل الأيام.
نجح اليمن استراتيجياً، واستفاد من المواجهة المباشرة مع فخر الصناعات الأميركية والأوروبية، والتي استهدفت اليمن بمئات الغارات، محاولة تحييد القوات اليمنية واستهداف أسلحتها، فخرجت صنعاء بنصر معمَّد بتطوير أسلحة الدفاع الجوي، والتي دخلت مباشرة في المواجهة، لتُسقط فخر الصناعة الأميركية (MQ9) التي طورها الأميركان وأعادوها إلى الخدمة، لكنّها سقطت في يد الدفاع الجوي، الذي مثل أيضاً رافداً نوعياً يُضاف الى قُدرات اليمن الاستراتيجية والنوعية.
لقد استهدفت القوات المسلحة اليمنية سفناً أميركية وبريطانية وإسرائيلية في هذه المرحلة، واستمرت عمليات القوات المسلحة اليمنية، حتى وصل إجمالي عدد السفن المستهدفة المرتبطة بالعدو الإسرائيلي والأميركي إلى 107 سفن.
لقد استمرّت المرحلة الثالثة من التصعيد في توسيع عمليات القوات المسلحة اليمنية، وكانت المفاجأة أن أعلن المتحدث العسكري، العميد يحيى سريع، وصول الأسلحة اليمنية إلى المحيط الهندي، وهذا ما سيدفع اليمن إلى منع السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة من العبور عبر رأس الرجاء الصالح.
بعد الفشل والتراجع والسقوط الأميركي البريطاني، وبعد تطوير رئاسة هيئة الاركان العامة اليمنية لكل تشكيلاتها العسكرية، مهّد قائد اليمن الأول السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي مرحلةً جديدة أطلق عليها المرحلة الرابعة، فخرج العميد سريع معلناً إياها، ومرسلاً رسائل تحذيرية إلى واشنطن من استمرار التعنّت ومواصلة العدوان والحصار على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة.
لقد وضع اليمن تعنّت نتنياهو ودعم أميركا وكل الدول التي تسعى للتطبيع في مرحلة حرجة جداً، وخصوصاً أن هذه المرحلة لن تقتصر على استهداف سفن متجهة إلى الكيان، بل ستصل العمليات اليمنية الى كل موانئ فلسطين المحتلة المطلة على البحر الأبيض المتوسط. وبدأ سريان المرحلة فور انتهاء البيان في الثالث من أيار/مايو 2024.
لم تقتصر المرحلة الرابعة على البحر المتوسط فحسب، بل ربط اليمن أيضاً عملياته بتصعيد العدوان على رفح، معلناً عقوبات كبرى على الشركات المتعاونة مع الكيان. وهنا ألقى سيد اليمن عصاه في بحار المنطقة، قائلاً إن أي شركة ترسل إحدى سفنها إلى “إسرائيل”، ستكون كل سفنها في مرمى الاستهداف، حتى إن لم تكن مُتجهة إلى كيان الاحتلال.
إنّ إعلان استهداف كل سفن الشركات المتعاملة مع “إسرائيل” سيمثل ضربة اقتصادية كبرى للعدو الاسرائيلي وداعميه، وضغطاً مؤلماً على واشنطن، التي استمرت في الدفاع عن مجرمها الصغير.
لقد قال اليمن، في مرحلته الرابعة، إنّ مياه البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي والبحر المتوسط محرّمة على كل شركة قد تتجرأ وتدعم الكيان، ولو بسفينة واحدة.
إنّ المرحلة الرابعة تقول بلغة الأرقام إنّ 736 سفينة تابعة لشركة MSC الإيطالية و696 سفينة لشركة ميرسك الدنماركية، ستكون عرضة للاستهداف والإحراق والإغراق في مسرح العمليات اليمنية، من المحيط الهندي إلى البحر المتوسط وما بينهما، في حال أقدم العدو على التصعيد في رفح، واستمرت هذه الشركات في تعاملها مع الكيان.
لقد أعادت القيادة اليمنية اعتبار القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأعادت اعتبار الأمة إلى مكانها. وفي اعتقادي أن ما يتم إعداده لليمن من جانب الدول الاستكبارية لا يستهان به، وخصوصاً بعد توقيف الخلايا التجسسية التابعة لواشنطن ولندن وكشفها، وهي الأخطر على الإطلاق في حروب البلدان والمدن.
يقول اليمن إنّه متعود على الصراع، وخبر العدو وعقليته وسلاحه، وسيصمد أمام أي تصعيد بعد “طوفان الأقصى”، وخصوصاً أنّه تم كسر قواعد الاشتباك ومس اقتصاد كبرى الدول، فكيف إذا اشتعلت النيران بسفن النفط، وتفرّغ اليمن لمعركة بحرية يعرف جيداً كيف يُديرها ويهزم خصومه فيها.