اليمن يقلب المعادلات: زلزال نجران
سنة 1975 سقطت سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية. ما كانت تلك الهزيمة للولايات المتحدة وجماعاتها سوى نتاج صمود أسطوري للشماليين لسنين مديدة، انهارت إثره جبهة العدو وحلفائه قالبةً المعادلات. أما معادلة اليوم في اليمن: أتت السعودية لتغزو صنعاء وصعدة والحديدة زاعمة مساندة «الرئيس الشرعي»، فانجلى الغبار عن وقوفها موقف المدافع المحتاج إلى مساندة لحماية ثرواتها ومدنها، نجران وما بعدها وما غربها، ولا أحد يدري ما التالي! لم تكد الرياض تستعيد أنفاسها إثر زلزال عملية «أرامكو» حتى خرج فصل جديد من مسار التحول في المعركة، آخذاً بالجملة ما كانت تقدمه العمليات العسكرية والأمنية في السنوات الماضية بالمفرّق.
مشهدٌ لا يتكرر ببساطة في الحروب المعاصرة، وقد أصاب السعودية المنهكة في مقتل. ما تبقى من هيبة وتماسك أمام اليمن جرفته صور عملية نجران التي أفرجت عنها القوات اليمنية أمس. مئات الكيلومترات المربعة هي المرحلة الأولى التي ابتلعها اليمنيون في الهجوم الأوسع على الإطلاق، ومعها ألوية تنشط تحت إمرة الرياض المباشرة، وتعمل داخل أراضيها، بمشاركة قوات سعودية عادة ما تكون الأقل عدداً تجنّباً للخسائر.
لم تجد المملكة فرصة كاتهام إيران لإنقاذ الموقف، فاختارت أن تلوذ بالصمت الذي لم يشفع لصاحب القرار السعودي في تغطية المشهد أمام الجمهور والعالم. والأخير تلمّس حجم الورطة وفداحة الانكشاف والضعف وهو يرى الصيد اليمني في مشاهد استثنائية تفاعل معها الإعلام العالمي. فبعد جولات الصراع الأمني والعمليات التكتيكية والصاروخية والجوية، انحازت الأرض إلى أصحابها، ليمنح النزال في الميدان، بفروسية تتقلّص فيها جدوى تفوّق السلاح الأميركي، أفضلية للمقاتل اليمني الذي باتت الطريق أمامه معبّدة لجولات يصعب على حكام الرياض حتى تخيلها، في حال قررت صنعاء التمدد أكثر شمالاً.
يتردّد اليوم في اليمن أن درس نجران تلقّفته القوى اليمنية المنحازة إلى «تحالف العدوان»، فهل تفهم السعودية، التي عمدت إلى قتل مرتزقتها بالغارات، الدرس أو ستنتظر فاجعة لا قيامة بعدها تشبه سقوط سايغون؟.
زلزال نجران: اليمن يقـلب المعادلات
ثلاثة ألوية، بعديدها وعتادها الحديث، سقطت. العشرات من الضباط والجنود السعوديين والمئات من اليمنيين المقاتلين تحت إمرتهم في محور نجران أسروا، في أوسع عملية برية تنفذها القوات اليمنية المشتركة. العملية، التي لا تزال في مراحلها الأولى بمكاسب كبيرة على الأرض، كانت «الأخبار» قد كشفت جانباً منها. وقد بدأ تنفيذها فعلياً منذ شهرين بالاستطلاع لمعرفة حجم القوات المستهدفة ووضع الترتيبات اللازمة لمواجهة تلك القوات ووضع الكمائن المحكمة. ونفّذت وفق تكتيك عسكري حديث، عكس تطور القدرات العسكرية البرية اليمنية، إذ اعتمد عنصر المفاجأة والمباغتة، بعد أن أوهم المستهدفون بالانسحاب من مناطق واسعة قبالة نجران لتستدرج تلك القوات إلى فخ كبير، فيتم الانتقال من التخطيط للعملية إلى تنفيذها في الـ25 من آب أغسطس الماضي، حين انتهى حلم الرياض، التي دفعت بالمئات من المدرعات والآلاف من الجنود إلى مديريات كتاف شرقي صعدة، في غضون 72 ساعة فقط.
القوات المسلحة اليمنية، وبعد الانتهاء من تأمين مسرح العمليات ونقل وتأمين الأسرى ونقل الغنائم العسكرية الكبيرة من مختلف الأسلحة، وهو أمر استغرق أكثر من شهر، أزاحت الستار في بيان عسكري صادر عنها السبت، عن العملية، مؤكدة سقوط ثلاثة ألوية عسكرية بكامل عتادها العسكري ومعظم أفرادها وقادتها. وكشف البيان العسكري عن أسر فصيل عسكري سعودي، بكامل ضباطه وأفراده، في العملية. عملية أطلق عليها اسم «عملية نصر من الله» ووصفها البيان بـ«أكبر عملية استدراج لقوات العدو منذ بدء تحالف العدوان على اليمن»، شاركت فيها عدة وحدات متخصصة من قوات الجيش و«اللجان»، البرية بوحداتها المختلفة، إضافة إلى القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر وقوات الدفاع الجوي. وتم تنفيذها بإدارة مباشرة من قبل وزير الدفاع في حكومة الإنقاذ الوطني، وكذلك، وفق المعلومات، بإشراف مباشر من زعيم حركة «أنصار الله» عبد الملك الحوثي.
ومساء أمس، كشف المتحدث باسم القوات المسلحة، العميد يحيى سريع، بالصوت والصورة في مؤتمر صحافي عقد في صنعاء، تفاصيل مرحلة من الهجوم، استغرق تنفيذها 72 ساعة وبدأت فجر 25 آب، ومرّت بمرحلة إعداد وتخطيط كان للرصد والاستطلاع الحربي والاستخباري دور حيوي فيها، قبل العملية وأثناءها وبعدها.
وأكد أن العملية التي نفذتها وحدات متخصصة من القوات البرية المتقدمة في محور نجران، بدأت بتطويق مجاميع كبيرة من قوات العدو، بعد تقدمها، وبأعداد كبيرة، إلى الكمائن والمصائد، بحسب الخطة. كما سمحت القوات بدخول تعزيزات جديدة لقوات العدو إلى مسرح العميات، ليتم بعد ذلك قطع خطوط الإمداد (الخطوط الخلفية) لقوات العدو من مسارين مختلفين، ومن ثم أحكمت القوات اليمنية الحصار على تلك القوات من الجهات الأربع، لتبدأ وحدات من المشاة والدروع والهندسة والمدفعية من قلب الجبهة بشن عملية هجومية واسعة. وأشار العميد سريع إلى أن من أبرز نتائج العملية خلال ساعاتها الأولى محاصرة مجاميع مختلفة من قوات العدو ومهاجمة مواقع عسكرية محصنة. كما أدت العملية خلال يومها الأول إلى وقوع خسائر كبيرة في صفوف قوات العدو، وكذلك اغتنام أسلحة إضافة إلى استسلام المئات من المخدوعين.
وحول نتائج العملية أكد العميد سريع أن قوات الجيش و«اللجان» نجحت في تحرير مساحة جغرافية تقدر بأكثر من 350 كلم مربع، إضافة إلى «السيطرة على كافة المواقع العسكرية والمعسكرات المستحدثة للعدو ضمن المساحة الجغرافية المحررة، وسقوط ثلاثة ألوية عسكرية تابعة للعدو كانت في المساحة الجغرافية المحررة أثناء تنفيذ العملية، كما عززت العملية الواسعة والنوعية من مواقع قواتنا المتقدمة والمطلة على مدينة نجران».
وحول خسائر تلك القوات، أفاد بأن إجمالي الخسائر البشرية لميليشيات السعودية يتجاوز الـ500 ما بين قتيل ومصاب، وأكثر من 200 قتيل بغارات الطائرات السعودية التي تعمّدت قصف مرتزقته بعشرات الغارات، وهناك من قتل أثناء الفرار، وآخرون أثناء عملية الاستسلام. وأفاد العميد سريع بأن قوات الجيش و«اللجان» حاولت تقديم الإسعافات الأولية لمصابي العدو جراء الغارات الجوية، إلا أن استمرار التحليق المكثف وشنّ غارات إضافية أدّيا إلى وقوع المزيد من الخسائر، وهو ما أوضحته الصور. واعتبر ما حدث «إبادة جماعية متعمّدة بهدف منع المخدوعين من الفرار وعدم تسليم أنفسهم… فكانت مهمة تأمين الأسرى كبيرة بعد أن تبين أنهم هدف لطائرات العدوان». وفي النتيجة، أوضح أن عدد الأسرى بلغ 2400 أسير سلموا أنفسهم طواعية بعد حصارهم من الاتجاهات كافة وتعرضهم للغارات.
وأكد أن الغارات التي شنّتها القوات السعودية أثناء تنفيذ العملية بلغت أكثر من 100 غارة جوية، كما شنّت أكثر من 300 غارة بعد العملية. وفي الأرقام أيضاً، وأوضح أن القوة الصاروخية تمكنت من تنفيذ ضربات مزدوجة استهدفت مقار وقواعد عسكرية للعدو، منها مطارات تقلع منها الطائرات الحربية وتجمعات وتحركات للقوات السعودية وميليشياتها في محاور نجران وعسير وجيزان. وبدا لافتاً أن سريع أفاد بأن العملية اشتملت على عدد من الهجمات بالطائرات المسيّرة والصواريخ، بلغت في المرحلة الأولى من الهجوم تسع عمليات، منها ضرب مطار جيزان بـ10 صواريخ بالستية، وأكثر من 21 عملية لسلاح المسيّرات، «منها عملية استهدفت هدفاً عسكرياً حساساً في الرياض»، لم يوضح تفاصيله، كما لم يشرح العلاقة بين العملية الكبرى وهذه الهجمات.
الكشف عن العملية أثار موجة جدل في أوساط الأطراف السياسيين الموالين للتحالف السعودي، فحاولوا التشكيك في صدقية الإعلان أولاً، ووجهوا وسائل إعلامهم بالتشويش، وذلك بعد أن وصفها المئات من الناشطين الموالين لهم بالفضيحة والسقوط الذريع للتحالف بعد قرابة خمس سنوات من الحرب.
ودفع الإعلان الكثير من الناشطين الموالين للرياض إلى الاعتراف بتعاظم قوات صنعاء مقابل تراجع القوات الموالية للتحالف، التي تمتلك أحدث الأسلحة، بدليل «نكسة أغسطس»، كما أطلق عليها البعض، التي أفقدت ثقتهم بالتحالف.
وأمس، رأى الناطق باسم «أنصار الله»، محمد عبد السلام، أن «السعودية تحاول عبثاً أن تتستر على مثل هذه الهزيمة المدوية التي مُنيت بها أمام المقاتل اليمني». ومن المتوقع أن تكشف صنعاء عن تفاصيل ومشاهد أخرى للعملية، بينها ما يتعلق بالأسرى، في موازاة مبادرة لحل هذا الملف.
في هذا الإطار، أكد رئيس لجنة شؤون الأسرى عبد القادر المرتضى، أن المئات من جثث مسلحي العدوان والجنود السعوديين لا تزال مرمية في الشعاب والأودية في محور نجران منذ ما بعد العملية «ولم تسمح قوى العدوان للجنة الصليب الأحمر بانتشالها»، معلناً انفتاح صنعاء على إنهاء معاناة الأسرى بصفقة تبادل مع الأطراف كافة.
واشنطن تخشى من «لبننة» اليمن
يركّز الغرب، على رأسه الإدارة الأميركية، في الاتصالات التي تجرى حول حركة «أنصار الله» والحرب على اليمن هذه الأيام، على عمق ارتباط الحركة بمحور الممانعة بأركانه كافة، وأسباب هذا الارتباط وأهدافه. وكعادته في كل ملفات المنطقة، يبدي الغرب انزعاجه وقلقه من قوة ومتانة العلاقة (اليمن مع بقية أركان المحور) وتأثيرها في مصالحه ومشاريع الهيمنة والوصاية. ومقابل ذلك، يقدّم عروضاً بديلة أو إغراءات مقابل فك الارتباط، غير أن الجانب اليمني ينظر إلى تلك العروض على أنها مناورات خادعة مكشوفة الغايات والمقاصد.
لا تبدي واشنطن، ومعها لندن، ممانعة على حجم الحركة ومساحة انتشارها الجغرافي أو فائض القوة لديها على المستوى المحلي والصراعات الداخلية مع الأحزاب والقبائل اليمنية.
يقتصر الاهتمام الأميركي والغربي على الدور الإقليمي لـ«أنصار الله» في المستقبل. تبني واشنطن، ومعها التحالف العربي بقيادة النظام السعودي، دعايتها على تشويه سمعة اليمن بربطه بالتبعية لإيران. لكن الحقائق على الأرض، والسياسات المستقلة للقيادة اليمنية في إدارة الدفاع عن البلد، والدور الذي يضطلع به الإعلام اليمني، تدحض كل محاولات التزوير وتحريف الحقائق، فضلاً عن أن المطلعين على حقائق الأمور يعرفون جيداً أن علاقات أطراف محور المقاومة قائمة على الاحترام والندية في العلاقة ومراعاة الظروف الخاصة في كل بلد، بالإضافة إلى أن كل طرف في المحور تتصدر الإدارة الأميركية كبحه عن تحقيق أهدافه الوطنية، الأمر الذي يلزم أطرافه مجتمعة التعاضد في مواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية.
ازداد قلق الإدارة الأميركية في الشهور الماضية من نمو علاقة «أنصار الله» بالجمهورية الإسلامية في إيران. ريبة واشنطن ليست مستجدة، لكن التصعيد الأخير في المنطقة والخطوات اليمنية ــــ الإيرانية، ابتداء من فتح السفارة اليمنية كممثل رسمي عن حكومة الإنقاذ في طهران، واللقاء التاريخي الذي جمع وفداً من قيادة الحركة مع السيد علي خامنئي الشهر الماضي، سلّط الضوء على الأبعاد العميقة لتلك العلاقة، فضلاً عن الروابط العضوية التي بدأت مساراً عملياً واضحاً. تنظر الإدارة الأميركية إلى تطور العلاقة ببالغ الخطورة، باعتبارها تهديداً كبيراً على حلفائها في المنطقة. وقد وضعت علاقة اليمن وإيران في إطار المتابعة الدقيقة للمبعوث الأميركي الخاص بإيران، براين هوك. تظهر مواقف الأخير اهتماماً بالتفاصيل والأبعاد كافة لتلك العلاقة. فهو يصوّب دائماً، في المتابعات اليومية لملف العقوبات على إيران، باتجاه علاقة طهران باليمن، بدعوى أنها تشكّل تهديداً للمصالح الأميركية.
لا ترفض صنعاء التفاوض مع واشنطن من حيث هو «تفاوض مع الأصيل»
دافع القلق الذي تبديه واشنطن هذه المرة هو خشيتها من الارتباط العضوي بين إيران واليمن في ساحة الصراع في المنطقة. النظرة الأميركية هنا ترى أن تحالف إيران الاستراتيجي مع «أنصار الله» يسمح للحركة باستهداف دول الإقليم، ولا سيما بعد توفّر القدرة الصاروخية والطائرات بلا طيار.
والأهم، وفق المفهوم نفسه، تأثّرُ بيئات معينة في الداخل السعودي وتشكيل التجربة اليمنية إلهاماً لها في التنظيم والارتباط. في هذا السياق، حذّر هوك قبل أيام من نيّة إيران استنساخ تجربة حزب الله في اليمن عبر «أنصار الله»، وإذا حدث ذلك، فإنّ «الهلال الإيراني سيصبح قمراً كاملاً». أضاف هوك إن إدارة دونالد ترامب تركّز على عكس المكاسب الاستراتيجية لإيران في المنطقة كجزء من حملة «الضغط الأقصى».
وفي اليمن، يتطلب هذا «اتفاقاً سياسياً شاملاً يجمع كل الأطراف الشرعية لإنهاء الأزمة الإنسانية ومنع إيران من وضع جذور عميقة». وختم هوك: «إذا فشلت الولايات المتحدة في معالجة استراتيجية إيران الكبرى في اليمن، فسنواجه مخاطر أكبر في المستقبل، بما في ذلك لبننة محتملة للبلاد».
بعد عمليتَي «أرامكو» في ابقيق وخريص، منتصف الشهر الجاري، بدأت واشنطن تتجه صوب اتخاذ مسارات سياسية عملية عبر تقديم طروحات/ إغراءات لفصل الترابط بين صنعاء وطهران، في مهمّة الأصل فيها حرمان العاصمتين قوة الربط بينهما. واشنطن التي تعرف هشاشة النظام السعودي وتآكل قوته في مواجهة اليمن، أكثر من غيرها، تعمل على الدفع لتفعيل المسار السياسي، أو على الأقل السماح للأمم المتحدة بالعمل على تخفيض التصعيد. وهناك مساعٍ غربية جدية لفرض هدنة تسمح للرياض باستعادة التقاط أنفاسها وترتيب أوراقها تمهيداً للمرحلة المقبلة.
تعمل واشنطن على إحياء المسار السياسي عبر التفاوض، وليس لديها إشكال في الاتصال المباشر مع صنعاء، بل هي ترغب في ذلك، وهذا ما أكده مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شنكر، بالقول إن بلاده تتحدث مع جميع الأطراف في اليمن «بمن فيهم الحوثيون» الذين اعتبرهم «جزءاً من المشكلة والحل» في الوقت عينه. وأضاف شنكر: «لم نتحدث مع الحوثيين لغاية الآن، لكننا نتواصل معهم من أجل المفاوضات وسنستمر في ذلك» (معظم الاتصالات تجرى عبر الوسيط العماني). في المقابل، لا ترفض صنعاء التفاوض مع واشنطن، بل تعدّه نزولاً عند رغبتها بالتفاوض مع الأصيل بدلاً من الوكيل (السعودي). لكن اليمن يطالب بضمانات حول جدية التفاوض. بمعنى آخر: لا تريد صنعاء التفاوض من أجل التفاوض، أي الاتصال لغاية الاتصال.
وأخيراً، جاءت ضربة «أرامكو» لتكشف عن اهتراء بنيوي في النظام السعودي على أكثر من صعيد، الأمر الذي عزّز الرغبة الأميركية في إيجاد مسكّنات تبرّد الجرح النازف للحليف الجريح (السعودية)، على أن واشنطن غير راغبة حتى الآن في حل جذري ينهي الحرب على اليمن.