أحدثت الضربة الصاروخية اليمنية التي أصابت منطقة يافا (تل أبيب) صباح 15 أيلول هزة عنيفة في الأوساط الصهيونية المختلفة، وذُهل الجميع لأن أنظمة الاعتراض الجوي بطبقاتها المختلفة لم تتمكن من اعتراض صاروخ واحد، كما لم تتمكن قيادة جيش الاحتلال من إعطاء تفسير لهذا الفشل الذريع. ولجأ نحو مليوني “إسرائيلي” للاختباء في مستهل يوم عمل بعد عطلة السبت الأسبوعية. وغاب كبار قادة الاحتلال السياسيون والعسكريون عن التعليق، كما غاب الأميركيون عن المشهد وهم الذين طمأنوا “إسرائيل” خلال الأسابيع الماضية إلى انهم ملتزمون الدفاع عنها بوجود قطع بحرية كثيرة، برغم انسحاب حاملة الطائرات “روزفلت” من المنطقة. واختصر عضو مجلس الحرب السابق غادي آيزنكوت المشهد بالقول إن “الواقع تغير بشكل دراماتيكي”.
فشل متعدد الأوجه
من الواضح أن ما جرى صباح الأحد يمثل ضربة مفاجئة بمقاييس عدة. فالعدو الذي أغار على ميناء الحديدة في 20 تموز/ يوليو الماضي بعد غارة بمسيّرة يمنية على “تل أبيب”، ظن أنه كسب الجولة وأنه استعاد الردع بعدما اصطنع مشهد حريق ضخم ناجم عن قصف مواد بترولية ومعدات نقل في الميناء. وتوعّد “أنصار الله” بالرد على قصف الميناء منذ ذلك الحين، واتضح أن تأخر التنفيذ يرتبط بحسابات لوجستية تتعلق “بتطوير التقنية الصاروخية حتى تستجيب لمتطلبات المعركة مع العدو وتجاوز كل المعوّقات والمنظومات الاعتراضية الأميركية والإسرائيلية وغير ذلك”، وفق بيان القوات المسلحة اليمنية، لكن اليمن برّ بوعده وقد جاء وقع العملية قوياً من خارج توقعات العدو. ينبغي التذكير هنا بأن بيان القوات المسلحة اليمنية لم يشر إلى أن الضربة الصاروخية مرتبطة بالغارة “الإسرائيلية” على الحديدة وإنما وضعها في سياق “تأدية الواجب الأخلاقي والإنساني انتصاراً للشعب الفلسطيني”.
كما أن وقع المفاجأة جاء من ضيق فترة الإنذار بوقوع الهجوم، ذلك أن القصف تم بصاروخ “فرط صوتي” قطع 2040 كلم في 11 دقيقة ونصف الدقيقة فقط، مما يعني أن سرعة الصاروخ تتجاوز ثمانية أضعاف سرعة الصوت التي تبلغ 1235 كيلومتراً في الساعة الواحدة. وبذلك، لم تتمكن أجهزة العدو من رصد الصاروخ إلا بعد دخوله المجال الجوي لفلسطين المحتلة، وهي التي كانت تتفاخر بإسقاط بعض الصواريخ خارج أجواء فلسطين المحتلة.
وإلى ذلك، لم تتمكن جميع منظومات الاعتراض من التصدي للصاروخ: منظومة “حيتس” (السهم) الموجهة ضد الصواريخ الطويلة المدى والتي يمكن أن تُلاقي الصاروخ القادم خارج الغلاف الجوي قبل وصوله إلى أجواء فلسطين المحتلة، منظومة “مقلاع داود” المصمَّمة للتصدي للصواريخ المتوسطة المدى التي يبلغ مداها بين 100 و200 كلم، ثم منظومة “القبة الحديدية” التي تواجه الصواريخ القصيرة المدى. واستخدم العدو جميع هذه المنظومات، وأخفق في التصدي للصاروخ اليمني. وتسبب ذلك في تعليقات لاذعة في الأوساط “الإسرائيلية” المختلفة، والتي نظرت إلى الموضوع من زاوية أن “إسرائيل” التي طورت جميع هذه المنظومات بتعاون أميركي لم تنجح في التصدي لصاروخ أطلق من 2000 كلم طوّرته جهة “غير حكومية”!
فوق هذا كله، التزمت القيادة العسكرية الأميركية الصمت حيال هذا الهجوم الذي تجاوز جميع الحواجز التي نصبتها في طريق الصواريخ التي تطلق في اتجاه فلسطين المحتلة. وقبل ساعات فقط من الهجوم اليمني، قال وزير الحرب الأميركي لويد أوستن لمجلة “إير آند سبيس فورسز” إنه لا يزال لدى الولايات المتحدة قوات في المنطقة أكثر مما كان إبان الهجوم الإيراني الأكبر على “إسرائيل” في نيسان/ أبريل الماضي، بالرغم من سحب حاملة الطائرات “روزفلت” من المنطقة، حيث لا يزال عدد من السفن الأميركية موجود في شرق البحر المتوسط، فضلاً عن مدمرتين وغواصة حاملة للصواريخ في البحر الأحمر لمواجهة هجمات الحوثيين، كما أن حاملة الطائرات “أبراهام لينكولن” تتمركز في خليج عمان، وفق ما نقلت وكالة “أسوشيتدبرس” عن مسؤولين أميركيين. التحدي الجديد
يفرض التحدي الجديد باستخدام صواريخ فائقة السرعة أعباء جديدة على الدفاعات الصهيونية، وسيدفع قيادة العدو للنظر في حساباتها الهجومية، بالنظر إلى القدرات الجديدة التي تسمح لـ”أنصار الله” بالتعامل مع أي عدوان صهيوني جديد على اليمن، كما يسمح لهم بتوفير مظلة هجومية للاستمرار في عملياتهم الهادفة إلى التضامن مع غزة. والسؤال المطروح الآن: ماذا يمكن أن يفعل المعسكر الأميركي- “الإسرائيلي” خلال 11 دقيقة ونصف هي مدة رحلة الصاروخ بين قاعدته وهدفه؟ هل لديهم حل جذري لهذا التحدي؟
يكمن جزء مهم من المعركة الحالية في الابتكار أو حرب الأدمغة، حيث يترتب على جبهة المقاومة أن تبتكر حلولاً لكل عقبة توضع أمامها. وهي تعمل على مدار الوقت للتغلب على شبكة الاعتراض الطويلة التي أقامها الاميركي وحلفاؤه للذود عن كيان الاحتلال.
ويكمن جزء آخر وأساسي من المعركة في المثابرة وعدم اليأس. فالعدو يراهن على نجاحات تكتيكية سريعة لثني أذرع جبهة المقاومة عن ممارسة واجبها في التصدي للعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، مع فارق أن جبهة المقاومة لا تلجأ الى ضرب البنى المدنية إلا في حالات الضرورة وضمن الرد على اعتداءات محددة للعدو، بينما لا يتورع الاحتلال عن قصف البنى المدنية في أول اشتباك، كما فعل في ميناء الحديدة الذي يخدم أغراضاً إنسانية يحتاجها الشعب اليمني بشدة.
في السياق العام للضربة اليمنية الجديدة، يلاحظ أنها تأتي بعد رد المقاومة اللبنانية في 25 آب/أغسطس على العدوان الصهيوني الذي استهدف الضاحية الجنوبية لبيروت. كما يأتي في وقت كان العدو يتحدث عن توجّه لتصعيد في عملياته على جبهة شمال فلسطين المحتلة. في وقت يترقب العدو رداً إيرانياً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران. ويبدو أن للإيرانيين حساباتهم العسكرية والأمنية ولا سيما الاحتفاظ بعامل المفاجأة، وهم يؤكدون أنهم ماضون في قرار الرد مهما تطلب الأمر. ويشير المسؤولون الإيرانيون إلى أن الرد سيكون قوياً ومفاجئاً ومختلفاً عمّا حصل ليل 13-14 نيسان/أبريل الفائت. وإذا كان “أنصار الله” يمتلكون صواريخ تفوق سرعة الصوت، فالسؤال هو ماذا سيستخدم الإيرانيون من سلاح، وهم لديهم هذه التقنية منذ سنوات عدة؟
يتضح أكثر من أي وقت مضى أننا أمام مواجهة طويلة بسبب إصرار العدو على إطالة الحرب على غزة، ونحن على بعد نحو ثلاثة أسابيع من الذكرى الأولى لـ”طوفان الأقصى”. ومن المرجح أن يردّ العدو على الضربة اليمنية بمساندة أميركية لاستعادة قدرته على الردع، ويبدو أن لدى “أنصار الله” جواباً جاهزاً هذه المرة، في ضوء تطور قدراتهم العسكرية. ومن المحتمل أن تتأثر الاستعدادات “الإسرائيلية” في شمال فلسطين المحتلة بهذا التطور، فكل حدث يستجدّ في هذه المواجهة المتعددة الجبهات يؤثر في خطط العدو تقديماً وتأخيراً.