اليمن: تجربة ملهمة لفضح الاستراتيجية التجسسية الأميركية
العبرة في التجربة اليمنية وقبلها التجربة الإيرانية وغيرهما من الشواهد التاريخية أن النظرة إلى واشنطن على أنها صديق وحليف، بحاجة إلى إعادة نظر، فالتجارب التاريخية تؤكد أن واشنطن تشبه الثعبان ذا السمية القاتلة، وإن تلطت بالعمل الدبلوماسي.
قبل أيام، أعلنت الأجهزة الأمنية في صنعاء تفكيك شبكة تجسسية أميركية-إسرائيلية وصفتها بـ “الأخطر في تاريخ اليمن”، بعد أن عملت لصالح الـ”سي آي إيه” والموساد قرابة خمسة وثلاثين عاماً.
ومن أصل مئتي ساعة تسجيل مع الشبكة التجسسية، وما يقارب مليون وثيقة وتقرير عن عملها وارتباطاتها ورسائل وتقارير مشغليها وفق مصادر رسمية، سمحت الأجهزة الأمنية خلال الأسبوع المنصرم على مرحلتين ببث تسجيلات بحدود ساعتين أو أكثر، حملت معلومات صادمة ومهولة جداً عن تفاصيل العمل التخريبي لتلك الشبكة التي أفصحت عن أسماء ضباط الارتباط والمسؤولين الأميركيين والإسرائيليين الذين كانوا يديرونها من داخل مقر السفارة الأميركية في صنعاء (وكر التجسس) ومن واشنطن و”تل أبيب” منذ العام 1997 وحتى تاريخ الاعتقال، قبل نحو ثلاث سنوات.
أساليب الاستقطاب والتجنيد، والعناوين الزائفة
اعترافات الشبكة بيّنت بشكل واضح طرق الاستقطاب والتجنيد ووسائلهما سواء من خلال تقديم فرص عمل أو وظائف أو منح، أو من خلال معاهد وكليات اللغة، أو من خلال السفريات وعمليات الاصطياد الجنسي عبر وسائل غير أخلاقية تستغل لاحقاً لابتزاز المتورطين وتجنيدهم…الخ، ومن ثم تعمل الشبكة على تجنيد العملاء وزرعهم داخل المؤسسات الرسمية والأحزاب السياسية، وداخل المنظمات الإنسانية والدولية.
كما فضحت اعترافات الشبكة التجسسية العناوين الزائفة من قبيل (التعاون، التنمية، الدعم، التطوير والتحسين، تعزيز العلاقات الثقافية…) لممارسة العمل التجسسي القذر والمخرب في كل المجالات الاقتصادية والزراعية، والتعليمية والأمنية والعسكرية والقائمة تطول، تحت سواتر متعددة بعضها دبلوماسي (سفارات)، وبعضها إنساني (منظمات)، وبعضها اقتصادي أو تنموي (شركات استثمارية)، وبعضها الآخر علمي (مراكز بحثية وخبراء زراعيون أو إعلاميون أو سياسيون و أمنيون وعسكريون..الخ)، وتحت كل هذه السواتر عملت الشبكة الأخطر في تاريخ اليمن، أدواراً تخريبية تنتهك السيادة وتهدد الأمن القومي لليمن وتمس مصالح الشعب، وتجهض أي فرص للتقدم والتنمية والنجاح، بالإضافة إلى تسريب تقارير ومحاضر ومعلومات سيادية سرية من داخل مؤسسات الدولة لأجهزة استخبارية أجنبية معادية في طليعتها الـ “سي آي إيه” والموساد.
الأهم من ذلك أن الاعترافات كشفت بشكل واضح عمق التخادم بين أجهزة الاستخبارات الأميركية- الإسرائيلية من جهة والمنظمات التابعة للأمم المتحدة وطبيعة الدور الاستخباري الذي تمارسه في اليمن تحت غطاء العمل الدبلوماسي تارة والعمل الإنساني تارة أخرى، على سبيل المثال سرب أحد الجواسيس قاعدة البيانات التي أعدتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان إلى ضابط في الموساد الإسرائيلي، علماً أن هذا الجاسوس المسمى عبدالمعين عزان عمل ابتداء مع الـ”سي آي إيه”، ولاحقاً مع الموساد، وتنقل خلال عشر سنوات، بين العمل التجاري، والدبلوماسي والإنساني.
جواسيس آخرون ضمن الشبكة الأميركية- الإسرائيلية، أبرزهم، السقاف، والهمداني، والفقيه، والوزير، الأغبري، عملوا تحت مظلة الملحقية السياسية والاقتصادية داخل مقر السفارة الأميركية، وكان من أبرز المهام المنوطة بهم من قبل ضباط الارتباط والمسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، ضرب العملية الزراعية وإفساد التربة من خلال نشر الآفات، والأوبئة، والسموم عالية السمية، وامتد دورهم لتسميم المناخ السياسي في البلد، لتعزيز الانقسام داخل الدولة وداخل الأحزاب السياسية المؤيدة والمعارضة للنظام وصولاً إلى البرلمان والقبائل>
وطالت سمومهم اقتصاد البلد، فعملوا على تسريب المعلومات المالية والاقتصادية السرية المتعلقة بالموارد والموازنات، وطرق تدفق السلع، وضرب العملة المحلية، واحتياطي البلد من العملات الأجنبية، وتالياً سرقة شفرة البنك المركزي، وبتوجيه من أعلى المستويات القيادية داخل السفارة الأميركية، إضافة إلى غرس العملاء داخل المؤسسات والأحزاب، والاستقطاب والتجنيد لمزيد من العملاء بمن فيهم صحفيون وباحثون في مراكز أبحاث، ومسؤولون حكوميون، وناشطون في منظمات إنسانية وصحية، ولم يتوقف دورهم عند هذا فحسب بل عملوا على إفساد الشباب والشابات أخلاقياً عبر المنظمات، والمعاهد، وبالتالي محاولة مسخ الهوية وضرب منظومة القيم والأخلاق في اليمن الدولة المحافظة.
اليمن يوجه صفعة كبرى لواشنطن
لطالما تابعنا خلال الفترة الماضية البيانات الدورية الصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية للمطالبة بالإفراج عمن تصفهم بـ “الموظفين المحليين” وفي بعض الأحيان “المظلومين”، وحينما كشفت الأجهزة الأمنية طبيعة وظيفة الشبكة التجسسية، بلعت واشنطن لسانها لثلاثة أيام متتالية، ثم خرجت بعد الصدمة عبر وزارة الخارجية ولاحقاً عبر سفيرها ستيفن فاجن، ليس حرصاً على عملائها وجواسيسها فهي لا تكترث لحياتهم، بل خوفاً على كنز المعلومات الذي بحوزتهم، ومحاولة للتشكيك في الأمر ودرء الفضيحة، وترميم الصورة المشوهة التي رسمتها اعترافات جواسيسها في الإدراك الجمعي، وبالتالي فإن واشنطن ودوائرها الاستخبارية والسياسية تخشى من امتداد تأثير فضيحتها في اليمن إلى بلدان عربية وإسلامية أخرى في منطقتنا، وتدرك أن صدى الفضيحة لن يقف عند حدود اليمن، بل سيمتد إلى منطقتنا ليفضح ويعري الاستراتيجية الاستخبارية القذرة التي تنتهجها أميركا، ولا نستبعد أن ما حصل في بلدنا، يحصل في لبنان، العراق، الأردن، مصر، السودان، ليبيا، والخليج وفي كل بلداننا العربية والإسلامية.
أهمية الانتصار الأمني اليمني الكبير
– تكمن أهمية الصفعة الأمنية الكبيرة، وانتصار صنعاء أمنياً على واشنطن، أنه يتزامن مع عمليات الإذلال العسكري لأميركا ومن يدور في فلكها على امتداد المسرح البحري من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط، إلى مستوى وصلت فيه إلى مرحلة العجز والإعياء والغضب على إثر فشلها في حماية السفن الإسرائيلية، بل وفشلها في حماية سفنها وقطعها العسكرية بما فيها إيزنهاور.
– الانتصار الأمني كان ولا يزال بمنزلة زلزال بقوة 7 درجات بمقياس ريختر إن جاز لنا التعبير، دمر البنية التحتية الاستخبارية، وفكك شبكة خطيرة تعمل لصالح اثنين من أكبر أجهزة الاستخبارات العالمية، بعد عقود من البناء والتدريب للشبكة التجسسية إلى حد أن تقارير التقييم الأمني الأميركية وصفت بعض الجواسيس بأنهم “عيون واشنطن وعقلها في اليمن”.
– تفكيك شبكة تجسسية بهذه القدرات الذهنية والتقنية وبعد عقود من الخبرة والتدريب والعمل السري والتخفي، انتصار لربما غير مسبوق في تاريخ الحروب الاستخبارية في منطقتنا على الأقل، إن يكون على مستوى عالمي.
– الإنجاز الأمني التاريخي، مثل هزة كبرى للوعي والإدراك الجمعي للجماهير داخل اليمن، وخارجه، وسيشكل دافعاً لأن تفتح الشعوب وإلى حد ما الأنظمة في منطقتنا سمعها وبصرها على كل نشاط تعمله واشنطن، وتنظر إليه بريبة وتوجس.
– أن يحصل إنجاز بهذا الحجم في دولة صغيرة، تعرضت أجهزتها الأمنية للتفكيك، وتالياً التدمير والاستهداف، وبعد تسع سنوات من الحرب، وفي ظل الاشتباك المباشر مع أميركا وبريطانيا و”إسرائي”ل، فتلك والله معجزة إلهية.
تجارب ملهمة: أميركا عدوة الشعوب
العبرة في التجربة اليمنية وقبلها التجربة الإيرانية وغيرهما من الشواهد التاريخية أن النظرة إلى واشنطن على أنها صديق وحليف، بحاجة إلى إعادة نظر، فالتجارب التاريخية تؤكد أن واشنطن تشبه الثعبان ذا السمية القاتلة، وإن تلطت بالعمل الدبلوماسي، ورفعت عناوين براقة.
ويجب النظر إلى سفاراتها بأنها أوكار تجسس، وموظفيها على أنهم جواسيس وأعداء، والتنبه إلى خطورة الدور والممارسات الأميركية على الأنظمة والشعوب ومصالحها وأمنها القومي، حتى لو كانت تلك الدول وتلك الشعوب ترى أميركا “صديقة” و”شريكة” و”حليفة”، فأميركا لا تؤمن بكل تلك العناوين بل تنظر إلى كل من تربطه علاقات بها بأنه مجرد زبون، وسوق مستباحة، وهي تتصرف على قاعدة: “ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم”، فتسعى لامتصاص خيرات الشعوب، واقتناص الفرص المربحة لها على حساب تجويع الشعوب، وإفشال أي فرص للتنمية والازدهار والاستقلال، والتجربة اليمنية خير مثال حي وشاهد على هذه الحقيقة.
فعلى الرغم من ود النظام السابق والحكومات السابقة وحبهم لأميركا، وولائهم لها، بل وعمالة معظمهم لها، فإنها لم تكن تثق بهم، بدليل أن واشنطن عمدت عبر وكالاتها الاستخبارية، وسفاراتها، وسفرائها، وضباطها إلى بناء وتفريخ شبكة تجسسية تحت سمع وبصر سلطة علي عبد الله صالح (كما صرح في مقابلة لإحدى القنوات العربية)، نخرت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وعملت ليل نهار ومنذ قرابة خمسة وثلاثين عاماً – كما جاء في اعترافات الشبكة – على تدمير الاقتصاد، وضرب العملة الوطنية، وإهلاك الحرث والنسل بالسموم والمبيدات شديدة السمية، وإفساد المناهج التعليمية والقضاء، ونشر الأوبئة والأمراض للإنسان والحيوان، ونشر الرذيلة والعمل غير الأخلاقي، وتعميق الانقسامات السياسية العمودية بين النظام والمعارضة وبين الأحزاب نفسها، التأثير السلبي على صناع القرار، واختراق الأحزاب، وتفتيت النسيج الاجتماعي قبلياً كان أو مذهبياً أو مناطقياً، وانتهاك الخصوصيات من خلال التنصت على المسؤولين والمواطنين، ونشر الجريمة المنظمة وإشاعة الفوضى الأمنية والاغتيالات، بمعنى أنها لم تكن تستثني أحداً من نيران حربها الاستخبارية القذرة، ولا تفرق بين “شمالي” و “جنوبي”، “ماربي” و”حديدي”، بين زيدي وشافعي، ولا بين رئيس ومرؤوس وعلى ذلك فقس في بقية دول منطقتنا.
أخيراً، وأمام هذه الفضيحة الأميركية-الإسرائيلية المدوية، ندعو كل الإعلاميين والصحفيين، الباحثين، والكتاب، والمؤلفين، وكتاب السيناريو والمخرجين لدراسة هذه التجربة، والانطلاق منها لإعادة هندسة وعي وإدراك جماهير أمتنا للنظر إلى أميركا و”إسرائيل” على أنهما عدوتان لا يمكن التحالف معهما والركون إلى جانبهما، مهما بدت العلاقات ظاهرياً أنها علاقة تعاون وشراكة، ولكم في اليمن عبرة فاعتبروا يا أولي الأبصار.