اليمن بمنع عبور السفن إلى “إسرائيل”.. خنقٌ استراتيجيٌّ لربع التجارة الصهيونية:القرارُ يحرم “إسرائيل” من النفط والتجارة ومن الاتصال بشرق إفريقيا وجنوبها وجنوب شرق آسيا
ينظُرُ العدوُّ الإسرائيلي إلى البحر الأحمر والمضيق الاستراتيجي باب المندب على أنه قضيةُ وجود أَو فناء، ومنذُ سنوات كثيرة كان الصهاينةُ ينظرون إلى البحر الأحمر؛ باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي لكيانهم الغاصب.
ويفنِّدُ مؤسّسُ دولة الكيان الغاصب، ديفيد بن غوريون، أسباب اهتمامهم بالبحر الأحمر ومضائقه بالقول: “نحن بلدٌ غير ساحلي والبحر هو منفذنا الوحيد إلى العالم والقارات الأُخرى”، في حين يقول وزير الدفاع الصهيوني السابق موشي دايان: إن هذا الممر هو وسيلة خروج إسرائيل إلى آسيا وإفريقيا.
وأثناء احتلالِ “إسرائيل” لفلسطين سنة 1948م، سارع الصهاينةُ إلى احتلال قرية “أم الرشراش”؛ لأَنَّها أقربُ نقطة تطل على البحر الأحمر، وفيها تم إنشاء ما يسمى اليوم بميناء “إيلات” ليصبح هذا الميناء هي نقطة التقاء دولة الاحتلال بقارة آسيا وإفريقيا، فالسفن التجارية على سبيل المثال التي تريد التوجّـه مباشرة من الهند إلى داخل فلسطين المحتلّة يجب عليها أن تسلك طريقاً عبر المحيط الهندي، وُصُـولاً إلى خليج عدن، ومن ثَمَّ الدخول إلى مضيق باب المندب والبحر الأحمر وُصُـولاً إلى “إيلات”، ومثل ذلك لو جرت العملية العكسية.
من هنا يمكن القول إن السفنَ القادمة من جنوب وجنوب شرق آسيا ومن الخليج العربي لا بدَّ أن تسلك طريق باب المندب والبحر الأحمر كأيسر الطرق، وُصُـولاً إلى ميناء “إيلات”، وَإذَا ما تم إغلاق البحر الأحمر أَو مضيق باب المندب أمام هذه السفن فَــإنَّ ذلك يعني حصاراً خانقاً على الصهاينة.
ورقةُ ضغط عالمية:
في عام 1956م قال قائد البحرية الإسرائيلية السابق: “نحن نملك أسطولاً بحرياً ضخماً يعمل في كافة موانئ العالم؛ ولهذا علينا أن نعد العدة في المستقبلِ؛ كي تستطيع أساطيلنا البحرية والحربية أن تحطم الحصار العربي المفروض علينا وأن نفرض الحصار بدورنا على الدول العربية عن طريق تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة يهودية”، لما يتمتع به من ممرات مائية هامة وهي: (باب المندب، قناة السويس، ومضيق تيران في خليج العقبة) الذي استخدمته مصر عام 1951م، حين منعت مرور السفن الإسرائيلية بمياه خليج العقبة.
ولهذا شرع الإسرائيليون في تنفيذ أهدافهم منذ وقت مبكر، ولخص “بن غوريون” غاية إسرائيل من التحكم بمنافذ البحر الأحمر بثلاثة أهداف وهي جعل البحر الأحمر منفذاً إسرائيلياً إلى القارة الإفريقية وبلدان شرق آسيا، واستخدامه كشريان إسرائيلي والإفادة منه عوضاً عن قناة السويس، وتفكيك الروابط القومية للعالم العربي.
من هنا نفهم الأهميّة الاستراتيجية للبحر الأحمر بالنسبة لكيان العدوّ الإسرائيلي؛ فهو يتميز بموقع جغرافي مهم لكونه يربط بين ثلاث قارات: (إفريقيا وآسيا وأُورُوبا) عبر البحر الأبيض المتوسط، مُرورًا بقناة السويس المصرية، ويعتبر حلقة وصل بين ثلاث مناطق إقليمية مهمة هي: (الشرق الأوسط، والقرن الإفريقي، ومنطقة الخليج) وكذلك يعتبر ممراً ملاحياً مهماً في مجال الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، ويشكِّل إضافة لذلك نقطة التقاء استراتيجية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي.
وفضلاً عن أهميته الاقتصادية ودوره في التجارة الإسرائيلية والدولية بين أُورُوبا وآسيا، حَيثُ تقدَّر السفن التجارية العابرة للبحر الأحمر سنوياً بأكثر من عشرين ألف سفينة، كما يعتبر الطريق الرئيسي الذي يمر من خلاله نفط الخليج العربي وإيران إلى الأسواق العالمية في أُورُوبا؛ إذ تحتاج أُورُوبا إلى نقل 60 % من احتياجاتها من الطاقة عبر البحر الأحمر، وَأَيْـضاً نقل نحو 25 % من احتياجات النفط للولايات المتحدة الأمريكية.
ولهذا تزايدت الأهميّة الاستراتيجية للبحر الأحمر بالنسبة للأمن القومي لإسرائيل، بحكم متغير الجغرافيا الذي برزت من خلاله اعتبارات كثيرة بالنسبة لكيان العدوّ الصهيوني بشأن أهميّة البحر الأحمر، الذي يعد جزءاً من التهديد العام لإسرائيل الذي يعتمد اقتصادها بشكل عام على الممرات البحرية المفتوحة والموانئ في كُـلٍّ من: البحر الأحمر، والبحر المتوسط، حَيثُ تستورد غالبية الاحتياجات الوجودية الأَسَاسية مثل معظم الحبوب (القمح والأرز والذرة وما إلى ذلك)، وكذلك النفط الخام الذي يخدم احتياجاتها للطاقة، بالإضافة إلى البيئة الاقتصادية البحرية، التي تحتوي على خزانات كبيرة للغاز الطبيعي، ومن المفترض أَيْـضاً خزانات النفط، وبالتالي فَــإنَّ إغلاق البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية يحدث فجوة كبيرة في الاقتصاد الإسرائيلي، وهذا ما يؤكّـده تقرير التقييم الاستراتيجي البحري لإسرائيل لعام (2016م)، الصادر لأول مرة عن مركز أبحاث حيفا للسياسة والاستراتيجية البحرية.
وبالإضافة للأهميّة الاقتصادية للبحر الأحمر بالنسبة لكيان العدوّ الصهيوني، تبرز الأهميّة العسكرية والأمنية بشكل واضح، من خلال النظر إلى التطورات السياسية والعسكرية التي تشهدها المنطقة، منذ عملية “طُـوفان الأقصى” في 7 أُكتوبر الماضي، وأحدثت تحولاً في الخريطة الجيوسياسية البحرية، وقادت إلى تسريع ظهور منطقة البحر الأحمر التي تشكل ساحة ردع للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وفي الجانبِ العسكري فَــإنَّ البحرَ الأحمر يشكل أهميّةً كبيرةً للعدو الإسرائيلي، من خلال موقعه الجغرافي المؤثر في العلاقات الإقليمية والدولية، والذي يرى أن البحر الأحمر ورقة ضغط تفشل كُـلّ مخطّطاته وعملياته في حال تم استخدامه من قبل القوات المسلحة اليمنية، ويشكل وفق الاستراتيجية العسكرية الأمريكية محوراً أَسَاسياً في إخضاع العدوان الصهيوني في غزة، ويهدّد المصالح الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، إذَا اتسعت دائرة الحرب واستمر العدوّ في ارتكاب جرائمه في قطاع غزة، ولهذا يمثل البحر الأحمر نقطة عسكرية تتحكم في المضائق ونقاط الاختناق العالمي.
ولهذا فَــإنَّ الأهميّة العسكرية والاقتصادي للبحر الأحمر المتصل من ناحية الجنوب بمضيق باب المندب وخليج عدن المؤدي لبحر العرب والمحيط الهندي، واتصاله من ناحية الشمال بقناة السويس المؤدية للبحر الأبيض المتوسط، وهي الممرات الأَسَاسية والرئيسية لحركة الملاحة الدولية، ومدخل مختلف السفن والحاويات والناقلات المحمّلة بالبضائع والنفط والغاز، جعلته يشكل منطقة ضغط على العالم الغربي بشكل عام والعدوّ الإسرائيلي بشكل خاص، ويجعل العدوّ يتلقى خسائر اقتصادية مباشرة في تجارته مع العالم الخارجي بإضافة إلى خسائر الصادرات من الغاز الطبيعي وغيره.
تأثيراتٌ بحرية مباشرة:
وتأكيداً على الجانب العسكري فَــإنَّ البحر الأحمر ومضائقه كان جزءاً من الحروب العربية الإسرائيلية في الأعوام (1956، 1967، 1973)، وذا علاقةٍ مباشرة بحربَي الخليج الأولى (1980 – 1988م) والثانية (1990 – 1991م)؛ ولهذا كان وما يزال يمثل البحر الأحمر محوراً مهماً من محاور ضمان الأمن القومي الإسرائيلي، وقد أثبت التاريخ العسكري للبحر الأحمر، أنه بحيرة شبه مغلقة؛ بسَببِ وجود اختناقات رئيسية، تتحكم في مداخله الشمالية والجنوبية، ويمكن لمن يسيطر عليها أن يسيطر على حركة الملاحة في البحر كله.
ولعل وجود اليمن ضمن الدول المطلة على البحر الأحمر يشكل أحد مهدّدات الأمن القومي الإسرائيلي وفق التقارير؛ ولهذا سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحظة الأول للعدوان على اليمن للسيطرة على البحر الأحمر؛ بهَدفِ حماية العدوّ الإسرائيلي، ومواجهة أية احتمالات عسكريه يمنية، أَو قيود خَاصَّة تفرضها صنعاء على العدوّ الصهيوني من خلال مضيق باب المندب والبحر الأحمر أَو الملاحة فيه، ولهما تأثيرات مباشرة في نتائج أية حرب إقليمية أَو دولية، وكذلك له تأثيرات مباشرة في نتائج العدوان الإسرائيلي لصالح فلسطين المحتلّة، ووقف العدوان على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلّة، ومن أجل ذلك نفذت القوات المسلحة أول عملية عسكرية نوعية بحرية بخصوص السفينة الإسرائيلية في البحر الأحمر رغم تهديدات الأمريكي بحماية الكيان الصهيوني.
ووفق دراسات فَــإنَّ النظرة الاستراتيجية الصهيونية لأهميّة البحر الأحمر، والتي لها أبعادٌ سياسية كثيرة، انطلقت من كون البحر الأحمر يضع دولة العدوّ الإسرائيلي (الصهيوني) على خريطة الحدود مع مصر والأردن والسعوديّة، ويضمن لها شريان تجارتها وحركة سفنها مع شرق آسيا ودول إفريقيا التي عززت من علاقاتها معها في العقدين الأخيرين بشكل واضح، لكن كلمة السر الإسرائيلية في البحر الأحمر كانت واضحة في السنوات الأخيرة عبر الوجود المباشر في جنوبه بالقرب من مضيق باب المندب، تماماً كما يوجد الاحتلال الإسرائيلي في شماله.
ولذلك ونظراً لأهميّة البحر الأحمر، أقدمت الحركة الصهيونية أَو اللوبي الصهيوني العالمي على تأسيس دولة الكيان الإسرائيلي، على أرض فلسطين عام 1948م، التي أججت الأطماع الصهيونية في البحر الأحمر، وكانت البداية من “أم الرشراش” ففي عام 1949م، بعد عام من تأسيس الكيان الإسرائيلي، احتل الصهاينة قرية أم الرشراش، المطلة على البحر الأحمر، وأنشأت على أنقاضها ميناء إيلات المجاور لميناء العقبة الأردني، بطول سبعة كيلو مترات آنذاك.
وكشف أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، “ديفيد بن جوريون” استراتيجية دولته في البحر الأحمر وقال: “إن سيطرة إسرائيل على نقاط في البحر الأحمر هي ذات أهميّة قصوى؛ لأَنَّ هذه النقاط ستساعد إسرائيل على الفكاك من أية محاولات لمحاصرتها وتطويقها كما ستشكل قاعدة انطلاق عسكري لمهاجمة أعدائنا في عقر دارهم قبل أن يبادروا إلى مهاجمتنا”.
قلق صهيوني:
ومع استمرار العمليات العسكرية اليمنية تجاه العدوّ الإسرائيلي في الأراضي المحتلّة، يبدي الكيان الصهيوني اليوم قلقاً حيال تغيرات الوضع في اليمن بعد تهديدات قائد الثورة -يحفظه الله- باستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، لما له من تأثير على قطع وصوله إلى المحيط الهندي عبر البحر الأحمر وبالذات عبر بوابته الجنوبية مضيق باب المندب.
ويعتبر البحر الأحمرُ بمثابة الشريان الرئيسي للتجارة بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، والتي تقدر بنحو 700 مليار دولار سنوياً، يمر عبر مضيق باب المندب حوالي 4 ملايين برميل من النفط يوميًّا في طريقها إلى أُورُوبا، وحوالي 25 ألف سفينة، أَو 7 % من حجم التجارة البحرية العالمية.
وبالتالي، تشكّل قراراتُ اليمن بمنع أية سفينة مهما كانت جنسيتها من العبور إلى “إسرائيل” مصدرَ قلق للعدو الإسرائيلي، لا سِـيَّـما أن الواردات والصادرات من وإلى آسيا تمثل نحو ربع إجمالي حجم التجارة الخارجية للكيان الصهيوني، والتي تمر بشكل أَسَاسي عبر طرق البحر الأحمر، والقلق الرئيسي الإسرائيلي هو احتمال إغلاق مضيق باب المندب، الذي يسبب خسارة للكيان الصهيوني تقدر بـ 15 مليار دولار، وفق تقارير، وأن معظم السفن الإسرائيلية، التي تلعب دوراً في تلك التجارة، تمر عبر ممرات البحر الأحمر، كان آخرها سفينة الشحن الإسرائيلية جالاكسي ليدر، التي تم الاستيلاء عليها في البحر الأحمر، واقتيادها إلى الساحل اليمني؛ مما يجعل إغلاق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر يشكل انهياراً اقتصاديًّا وعسكريًّا بالنسبة لإسرائيل، وكذلك يؤدي إلى حرمان الكيان الصهيوني من مادة استراتيجية مهمة، هي النفط والتجارة، وحرمانه أَيْـضاً من الاتصال بشرق إفريقيا وجنوبها وجنوب شرق آسيا؛ مما يسبب له أضراراً اقتصادية كبيرة.
ولهذا فَــإنَّ البحر الأحمر يلعب دوراً مركزيًّا ومحوريًّا من مدخله الشمالي عند السويس إلى مدخله الجنوبي عند باب المندب والقرن الإفريقي في الحرب والأمن، العالمي والإقليمي، والتحَرّك الحالي للأساطيل البحرية الأمريكية فيه يكشف عن حقيقة أهميّة البحر الأحمر بشكل عام ومضيق باب المندب بشكل خاص؛ لأَنَّ ذلك البحر هو قلب العالم وشريانه ومفتاح أمن المنطقة العربية منذ الأزل وإلى الأبد، فمن خلال البحر الأحمر يعبر (٦٠٪) من احتياجات أُورُوبا من النفط الخام؛ ولهذا فَــإنَّ تهديدات سيد العرب شكَّلت قلقًا عالميًّا.
عباس القاعدي: