الوفاء قيمة تحتضر || محمد الشميري
كثيراً ما تعيد وتكرر الدنيا دروسها القيمة؛ لتعلمنا أن الأوفياء ليس من نعتقد نحن أنهم أوفياء، وأن الوفاء عملةٌ نادرةٌ جداً؛ لطغيان علاقة المصالح. وأن من نفتح لهم قلوبنا، هم من يعبثون بها، ومن تحتضنهم أعيننا، هم من يقتلعونها، إلا أنّا حال شرحها تلك الدروس يسرح بنا شرودنا بعيداً عن قولها، وتلهينا فوضانا عن الإنصات لها، ولا نفهم ذلك إلا بعد أن يجف حبر الود على صفحات الألم، ويرتسم عنوان القهر فوق جدران الندم. كُتبت هذه الكلمات في وقتٍ سابق عن الآن، إلا أنّ تجارب الحياة أعادت كتابتها بآلة الغدر الكاتبة المصبوغ حرفها الناتئ المقلوب بدمٍ أراقته سهام التجارب، وخناجر الدهر، لتنقشها على صفحة قلبٍ كثير الثقوب.
ويتكرر الدرس ونجد أنفسنا في مدرسة الحياة كطالبٍ برئ دخل قاعة الامتحان دون أن يلتفت انتباهه إلى أسئلة المعلم الملتوية المعقدة، ولم يتذكر أو يذاكر بإمعان درسه المأخوذ بداية العام، فيسقط في الامتحان رغم طهارة قلبه وصفاء روحه وحُسن نيته. آآهٍ ما أقسى الحياة وما أصعب دروسها. صعبٌ جداً أن تتعلم فيها ما يتنافى مع إنسانيتك، وتُلقن ما لا يتفق مع شهامتك: يتحفظ منك قريبك، ويتنكر لك حبيبك. لم أكن أفهم أن الواجب المنزلي فيها أن نحتجب عمن وقف يطرق أبوابنا، ونتهرب ممن دفعهم شوقهم للسؤال عنا، ونصد من ينادينا بأعذارٍ واهيةٍ. لم أكن أفهم أنّ التنكر لمن قَدَّم لنا معروفاً يوماً ما حكمةٌ تمليها علينا سياسة الأخلاق المتبعة والمعممة من قِبل وزارة التربية بالتأليم. لم أكن أفهم أن الإساءة لمن أحسن إلينا، وتجاهل من وفد علينا مستغيثاً حنكةٌ نصّت عليها اللائحة الداخلية لمعسكرات القيم في هذه المدرسة المجبورون على دخولها. مدرسة الحياة هذه ساحتها أرواحنا التي عليها تتزاحم أنواع الطعنات، سبورتها قلوبنا البيضاء الملطخة بعتمة دروسٍ قاسية، مدرسوها ـ للأسف ـ أعز الأصدقاء وصفوة الأحباب الذين نفتح لهم راحات قلوبنا؛ لتنهال علينا سياطهم الأليمة، وتجلدنا ضرباتهم الموجعة.
وما تمتلك محبتنا إلا أن تقف أمامهم ـ معاقَبةً ـ مستديرةً بكيانها الضرير، رافعةً أيديها المتورمة، تحتسي ألمها على استحياء، وتذرف دموعها بصمت. وبتكرر الدروس يتكرر العقاب، ولا مفر من ذلك العقاب حتى في عيد المعلم، أو حفل تكريم المتفوقين بالصبر على العقاب طبعاً. ليست هناك إجازة فيها، ولا نستطيع التغيب عنها لأنّا مسرح حضورها، نحاول الهروب منها فنعجز عن تسلق سورها المحيط بنا. المؤهل الذي يمتلكه معلمونا في هذه المدرسة هو عدم مراعاة مشاعر وأحاسيس أحد، موت الضمير وغياب الإنسانية أرقى وأعلى شهائدهم، ذكرياتنا الجميلة، وأيامنا الحلوة دفاتر تحضير دروسهم التي معاملها نحن، طوال سنوات الدراسة فيها المشتملة على العمر بأكمله، المفضية بأزمة نفسيةٍ أو موت سابقٍ لأوانه.