الهيمنة الاقتصادية بعباءةَ التنمية … اعداد / أحمد يحيى الديلمي
قراءة اولية من هدى القرآن الكريم للشهيدَ القائدَ
الحلقة الأولى (1 – 1)
اولاً :مفهوم الهيمنة الاقتصادية بعباءةَ التنمية
في أعقاب الحرب العالمية الثانية وجد العالم نفسه مدعوا للانقسام إلى معسكرين شرقي وغربي عاشا زمنا طويلا على إيقاع الحرب الباردة ، لكن مع تنامي حركات التحرر من الاستعمار لاح في الأفق عالم ثالث سمي بدءا بالدول المتخلفة والمتأخرة عن النمو، لكن ومن أجل تلطيف الوصف وجعله أكثر إنسانية تم اختراع مصطلح الدول السائرة في طريق النمو أو الدول النامية
وبعد أن أصبح الاستعمار بشكله التقليدي المباشر غير مجد ، أدركت أمريكا بأن التحكم بالعالم لا يكفيه فقط امتلاك القوة العسكرية الضاربة لاستعمار البلدان والهيمنة على ثروات الشعوب بل هي بحاجة لوسائل أخرى تصل إلى الجوانب الاقتصادية كشكل من أشكال الاستعمار الغير المباشر في العصر الحديث بما يسمى بالاستعمار المقنع والذي يعد أشد خطرا من الاستعمار المباشر، فأخذت أمريكا تضع الركائز لهيمنتها عن طريق الهيئات والمؤسَّسَاتِ الدولية والاتفاقيات الاقتصادية ، وذلك لفتح أبواب العالم لنفوذها وكسر الحواجز وفتح الأسواق أمام اقتصادها تحت يافطة النظام الرأسمالي.
ان التحوُّلُ الذي حدَثَ في تعامُل الغرب الرأسمالي بزعامة أمريكا هو التحوُّلُ من السيطرة والاستعمار المباشر اِلَـى الهيمنة والاستعمار الغير مباشر ، ولم يعد من الضروري أن تأتيَ الهيمنةِ على الأُمَّــة العربية والإسـلامية على شكل جندي مدجج بالسلاح أَوْ بالسيطرة المباشرة ،فكان منتصف القرن العشرين نقطة التحول من الاستعمار المباشر الى الاستعمار الغير المباشر بعد إن تمكنت أمريكا من فرض سيطرتها العسكرية عبر جيوشها ، والسياسية عبر ولاء الحكومات المنهكة والمهزومة ، ثم بالطبع سيطرتها الاقتصادية عبر مؤسسات مالية دولية وشركات متعددة الجنسيات بعد إن استطاعت بأن تخرج بتصور تجاه التسوية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية ، وبشكل يسمح لها بفرض الهيمنة الاقتصادية كشكل من اشكال الاستعمار الجديد.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عملت أمريكا ودول الغرب الرأسمالي على إنشاء مؤسسات دولية عملاقة وشرعت نظم قوانين تحكم طريقة عملها ليكون هدفها الضاهر وضع حد للفوضى التي شهدتها الساحة العالمية على مستويات النقد والمال والتجارة وهدفها الباطن خدمة أمريكا وتحقيق ما يخدم أغراض الدول المستعمِرة ومصالحها ، فكانت اتفاقية “بريتون وودز” Bretton Woods في شهر يوليو عام 1944م من خلال مؤتمر دولي عقد في الولايات المتحدة الأمريكية في بروتن وودز بمشاركة قادة أربع وأربعين من الدول الغربية التي تمخض عنها التوائم الثلاثة : صندوق النقد الدولي International Monetary Fund IMF)) ، البنك الدولي للإنشاء والتعمير World Bank، W.B)) منظمة الجات GATT “منظمة التجارة العالمية لاحقاً”( World Trade Organization،W.T.O)) ناهيك على الشَّركات العملاقة العابرة للقارَّات “الشركات متعددة الجنسيات” التي أصبحت قوة اقتصادية كبيرة في العالم تتعدى ميزانيتها ميزانية بعض الدول النامية.
وبعد نجاح العديد من دول العالم العربي والإسلامي في الحصول على استقلالها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، زادت حِدَّة التنافس بين الدول العظمى الجديدة المتمثِّلة في أمريكا والدول الأوربية ، وأخذت هذه الدول على عاتقها العمل على ربط اقتصاديات الدول النامية باقتصاداتها ، وعملت على تقييدها عن طريق الديون الخارجية والمساعدات عبر المؤسسات المالية الدولية ، والاستثمارات الاجنبية المباشرة عبر الشركات متعددة الجنسيات.
وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية برزت على السطح قضايا مشاريع التنمية بين دول الغرب الرأسمالي ودول ما يُسَمَّى بالعالَمِ الثالث الدول النامية ,حيث اتخذت دول الغرب الرأسمالي مشاريع التنمية بأنها طوق النجاة للدول النامية و«خاتم الرضى» من خلال المؤسسات المالية الدولية ، صندوق النقد والبنك الدوليين ، وبالتالي فلا مفر من الارتباط بها والخضوع لها ، لينطبق الوصف القائل بأنها تمثل في الظاهر ذئباً بثياب شاه ، لاسيما وأن دول الغرب الرسمالي قد حالت دون احداث تنميه اقتصاديه وصناعيه حقيقية لبلدان وحكومات ما يُسَمَّى بالعالَمِ الثالث ومنها البلدان العربية والاسلامية لكي تبقى مجرد مجتمعات استهلاكيه غير منتجه واسواقا لمنتجاتها ، وذلك عبر الشركات متعددة الجنسيات ومنظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية التي تَتَّخِذُ من برامج الإقراض ومشاريع التنمية ستاراً للهيمنةِ والسيْطَرِة على العالم ، ووسيلة لرهن إرادة شعوب وحكومات ما يُسَمَّى بالعالَمِ الثالث ، واغرقت كاهل البلدان العربية والاسلامية بالديون تحت مبررات التنمية وفوائد الديون جراء القروض المشبوهة التي تحدد هي نفسها مجالات انفاقها وتوظيفها في مشاريع استهلاكيه غير انتاجيه بل ان معظمها قضت على الانتاج المحلي المحصور في الزراعة وتربيه الثروة الحيوانية والحيلولة دون نهوضها اقتصادياً وتنمية صناعاتها وصولاً الى تحقيق الاكتفاء الذاتي لها.
وبعباءةَ التنمية تمكنت دول الغرب الرأسمالي من جعل البلدان العربية والاسلامية تابعه ولا تملك الاستقلال في اتخاذ القرار وواقعة في حضن واسر الاستعمار الاقتصادي والسياسي الجديد لدول الغرب الرأسمالي بزعامة أمريكا ، وأصبحت الهيمنة الاقتصادية على الدول العربية والإسلامية أحد معالم هذا العصر الحديث، وأصبحت تلك الدول تعتمد بشكل أساسي على المنتجات الغربية وهو ما جعل الدول الغربية تفرض سيطرتها وهيمنتها عليها.
وبضوء ذلك أصبح العالم مقسما إلى قسمين لا ثالث لهما ؛ قسم ينتج ويطور ويبدع ويصدر وهي دول الغرب الرأسمالي ، وقسم يستهلك ويستورد فقط وهي ما يُسَمَّى بالعالَمِ الثالث ومنها الدول العربية والإسلامية ، وهذا هو مغزى الاستعمار قديما وحديثا في امتصاص خيرات الشعوب الضعيفة وجعلها دائما تابعة للدول الصناعية الغربية وربطها بالنموذج الرأسمالي الغربي
وأمام كل تلك الأساليب الاستعمارية الجديدة ، انطلق الشهيدَ القائدَ السيد / حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله علية متوكلاً على الله من خلال مشروع قراني ثقافي ليبني أمه قويه ومحصنه ويّشد الناس الى الله والاسلام والقران الكريم الذي يتضمن رؤى صحيحة وحلول ناجعة تعطي كل من يسيرون على نهجه أن يكونوا بمستوى أن يشّخصوا الواقع ويقدمون التقييم الدقيق والتشخيص الفعلي لواقع الأمة ومشكلاتها والمخرج لها من هذا الواقع.
وتحرك الشهيد القايد آنذاك إلى دعوة الأمة العربية والإسلامية إلى الرجوع إلى القران الكريم كمنهاج يستنيرون منه لمواجهة المشروع الاستعماري الجديد بقيادة أمريكا ودول الاستكبار العالمي ، وكان من أهم اساسيات هذا المشروع القرآني الخروج بالأمة من الحالة والوضعية المؤلمة من خلال اطروحات وحلول قرانيه شامله للقضايا الأساسية للامه الإسلامية في صراعها الشامل مع اعداءها الحقيقين من اليهود والنصارى أمريكا وإسرائيل ، فلم تخلو محاضَرةٌ للشهيد القايد إلا ويؤكّدُ فيها أن لا مخرجَ للأُمَّة من حالة التِّيه والضياع التي تعيشها إلا بالعودة إلَى القرآن الكريم ، والعودة إلَى الإســلام كمنظومة متكاملة وهديه العظيم التي تقدِّم للأمة البصيرة والوعي.
ولأنه استنار بالقُــرآن الكريم ، كان الشهيدَ القائدَ عالمي الرؤية ، ولم تنحصر نظرته في محيطه الجغرافي فقط ، ولم يكن توجُّهه مقتصراً على العلوم الشرعية الدينية المعروفة بل كان يصب جّل اهتمامه أيضاً على الجوانب الاقتصادية التي ترتبط بها عزة الأمة وقوتها وسيادتها ، من منطلق تأكيده بأن الإسلام يهتم بالجانب الاقتصادي فيما يتعلق بالمسلمين ، واكد على ذلك بالقول: أن الإسلام يهتم جداً فيما يتعلق بالمسلمين بالجانب الاقتصادي لعباد الله، بالجانب الاقتصادي للمسلمين (معرفة الله ـ وعده ووعيده ـ الدرس الرابع عشر ، ص 6).
وأستطاع من خلال هدى القرآن الكريم أن يقدم رؤيته الاقتصادية الواسعة التي تتضمن التشخيص الفعلي لواقع الامة وما تعانيه ، وتطرَّق في محاضرات عدة لحقيقة الهيمنةِ الاقتصادية على الأُمَّــةِ العربيةِ والإسْــلاميةِ وأتحه لبيان وتشخيص بعض المفاهيم والقضايا الهامَّة ذاتِ الصلة كمفهومِ التنمية من منظار الاخرين باعتبارها جزء من الاستعمار الاقتصادي الذي يأتي عبر نظامها الرأسمالي ومؤسساتها المالية الدولية وشركاتها متعددة الجنسيات ، وتحدث عن اشكال تلك التنمية المزعومة في جعل الشعوب اسواقاً استهلاكيه أو أياد عاملة في شركاتهم العملاقة عابرة القارات متعددة الجنسيات ، ناهيك عن القروض المنهكة التي تُعطى للدول من قبل ومؤسساتها المالية الدولية وتستخدم في مشاريع هامشية لا تؤدي الى تحقيق التنمية الحقيقية.
وفي خضم ذلك ، كان للشهيد القائد نظرة ثاقبه حيال ذلك ، وناقش بشكلٍ كبيرٍ كُل الأسباب الرئيسة التي أدَّت إلَـى وصول الامة الى هذه الوضعية ، حيث يوضح في درس (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ص7) طبيعة “التنمية” في سياق الهيمنة الاقتصادية بالقول : لا تخرج تنميتهم عن استراتيجية أن تبقى الشعوب مستهلكة، ومتى ما نمت فلتتحول إلى أيد عاملة داخل مصانعهم في بلداننا لإنتاج ماركاتهم داخل بلداننا, ونمنحها عناوين وطنية[إنتاج محلي] والمصنع أمريكي، المصنع يهودي، والمواد الأولية من عندهم، وحتى الأغلفة من عندهم .
ويضيف في هذا الصدد بالقول : التنمية لهم هنا, وفروا على أنفسهم كثيراً من المبالغ لأن الأيدي العاملة هنا أرخص من الأيدي العاملة لديهم في بلدان أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الصناعية ( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ص9).
ويشّخص الشهيدَ القائدَ مفهوم التنمية بالقول : التنمية من منظار الآخرين هو تحويلنا إلى أيدٍ عاملة لمنتجاتهم ، وفي مصانعهم , تحويل الأمة إلى سوق مستهلكة لمنتجاتهم ، أن لا ترى الأمة , أن لا يرى أحد, وليس الأمة, أن لا يرى أحد من الناس نفسه قادراً على أن يستغني عنهم؛ قوته، ملابسه، حاجاته كلها من تحت أيديهم، هل هذه تنمية؟ (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ص7).
ويردف بالقول : هم يعملون أشياء أخرى ولكن لن تجد نفسك أكثر من متجول في سوق كبيرة تستهلك منتجاتهم، ولن تجد نفسك تتجول داخل مصانع يمنيه.. المصانع تتحرك، والأيدي العاملة تتحرك وتحركها, كلها تعمل معهم، ليس هناك تنمية؟ ( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ص9).
وفي هذا الصدد ، يشير الشهيدَ القائدَ إِلَـى ان ابرز مظاهر الهيمنة الاقتصادية لدول الغرب الرأسمالي بزعامة “أمريكا” التي ترتدي عباءة التنمية منها ما يأتي في ابقاء الأُمَّــة العربية والإســلامية مجرد اسواقاً لمنتجات شركاتها العملاقة العابرة للقارات ، وتكون مجرد مجتمعات استهلاكيه غير منتجه وذلك من خلال اتفاقيات دولية ومنظمات مالية “منظمة التجارة العالمية” في سياق النظام الرأسمالي ، بالإضافة الى جعل شعوب الامة مجرد أياد عاملة داخل مصانعهم التي ينشئونها داخل البلدان العربيةِ والإســلامية عبر شركاتهم العملاقة متعددة الجنسيات.
وتسعى دول الغرب الرأسمالي بزعامة “أمريكا” إلى الحصول على أكبر عدد ممكن من مناطق النفوذ في العالم بهدف ضمان استمرار فتح أسواقٍ أمام منتجاتها الصناعية ، وإيجاد الأسواق لتصريف إنتاجها ، لاسيما وأن الثورة الصناعية ولّدت حركة تصنيع واسعة، فانتشرت المصانع الكبيرة في الدول الاستعمارية “دول الغرب الرأسمالي” ، وزاد إنتاجها عن حاجة أسواقها، فبدأت تبحث عن أسواق جديدة لتصريف منتجاتها ، وعملت على نقل بعض مصانعها إلى الدول النامية ، للاستفادة من رخص الأيدي العاملة في هذه الدول ، والحصول على الأيدي العاملة الرخيصة.
وفي المقابل ، يبن الشهيدَ القائدَ أن القروض الربوية والمساعدات تعد من مظاهر الهيمنة الاقتصادية لدول الغرب الرأسمالي عبر صندوق النقد والبنك الدوليين التي تمنح القروض الربوية تحت يافطة مشاريع التنمية تجعل شعوب الامة مستعمرين أشد من الاستعمار الذي كانت تعاني منه قبل عقود من الزمن ، لاسيما وأن حقيقة تلك القروض هي لفرض حاله من التبعية وتكون بشكل قروض منهكة بالشكل الذي لا ينفع الأمة ، ويتم استخدامها لتنفيذ مشاريع سطحيه وليس انتاجية بما يعزز من حالة التبعية وإبقاء شعوب الامة مجرد اسواقاً ومجتمعات استهلاكيه غير منتجه.
وفي سياق ذلك ، يقطع الشهيدَ القائدَ الشك باليقين ويؤكد بأن تلك “التنمية” المزعومة تجعل شعوب الامة مستعمرين أشد من الاستعمار الذي كانت تعاني منه قبل عقود من الزمن ، حيث يقول : وإن كانت هناك تنمية فهي مقابل أحمال ثقيلة تجعلنا عبيداً للآخرين، ومستعمرين أشد من الاستعمار الذي كانت تعاني منه الشعوب قبل عقود من الزمن. (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ص).
تلك الأحمال الثقيلة تكون في حال ما إذا ما صدقوا في شكل قروض منهكة بالشكل الذي لا ينفع الأمة ، وهذا ما تحدث به الشهيدَ القائدَ بالقول : القروض التي يعطوننا قروضا منهكة، مثقلة. وهل تعتقدون أن القروض تسجل على الدولة الفلانية, أو على الرئيس الفلاني، وعلى رئيس الوزراء الفلاني؟. تسجل على الشعب، وهي في الأخير من ستدفع من أجساد الشعب نفسه في حالة التقشف التي مرت بها بلدان أخرى أنهكتها القروض، يفرضون حالة من التقشف. ألسنا متقشفين؟ ستفرض حالات أسوأ مما نحن فيها تحت عناوين أخرى، ستدفع أنت ثمن تلك القروض من شحمك ولحمك أنت وأبناؤك، تذبل أجسامنا من سوء التغذية، فندفع تلك الفوائد الربوية، من أين؟ من شحمنا ولحمنا ودمائنا، ألستم تسمعون بأن هناك بلدانا كالبرازيل وبلد كتركيا أصبحت الآن مشرفة على أن تعلن عن حالة التقشف؟ واليمن ألستم تسمعون كل شهر قروض؟.
ثانياً :مظاهر الهيمنة الاقتصادية بعباءةَ التنمية
تم الترويج لفكرة التنمية الشاملة والمستدامة والقائمة على الدعم الدولي الخارجي من قروض ربوية ومساعدات ، وكان من اكبر مروجي تلك الرؤية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، فجاءت عدة تجارب عالمية تدحض إمكانية نجاح تنمية شاملة تعتمد على الدعم الخارجي والمساعدات الدولية ، لاسيما وأن فكرة التنمية لم تكن أكثر من تلبية لاحتياجات النظام الرأسمالي في تهيئة اسواق تستوعب منتجاته ، والحصول على الأيدي العاملة الرخيصة في دول ما يُسمى بالعالَمِ الثالث “الدول النامية” من جهة ، ومن جهة أخرى لا تعدو التنمية في النهاية إلا زيادة في ايجاد حالة من التبعية للمركز الرأسمالي الذي يتقدم بسرعة مذهلة، حيث يستخدم مدخل التنمية والمساعدات والقروض وخطط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في النهاية لتحقيق حالة التبعية السياسية والاقتصادية للمركز الرأسمالي، كي لا يسمح لأي دولة أن تشب عن الطوق وتتمرد ، بعد ان تمكنت من اعادة هيكلة اقتصاديات دول ما يُسمى بالعالَمِ الثالث بناء على مصالحها بما يخدم الرأسمال الامبريالي تحت خطابات التنمية أو خطط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ويتجلى بوضوح طبيعة الدور الاستعماري لتلك المؤسسات “البنك الدولي وصندوق النقد الدولي” ، حيث نجد أن صندوق النقد الدولي يضطلع بالإشراف على ما يسمى بـ”برامج التثبيت” التي تشمل جميع السياسات المالية والنقدية الهادفة الى معالجة الفجوات في الموازنات العامة للدول وموازين المدفوعات ، حيث ان للصندوق صلاحية الإشراف على ميزانية الدول من اجل معالجة الاختلال في هذه الميزانيات ، ويلزم الصندوق من الدولة انتهاج السياسات في شكل وصفة جاهزة من خلال برامج الاصلاح الاقتصادي على أساس أنها الأسلوب المناسب لعلاج تلك الاختلالات التي تعاني منها هياكل اقتصاديات الدول ، غير أن تجارب تطبيق برامج الاصلاح الاقتصادي أثبتت عكس ذلك.
ويأتي دور البنك الدولي عبر “برامج التكيف واعادة الهيكلة” وهي جملة من الاجراءات الهادفة الى تحرير الاسعار وتحرير التجارة وخصخصة مؤسسات القطاع العام ، حيث يعمد البنك الدولي إلى دعم ما يسمى “بناء البنية التحتية “، والتركيز على الثروات السيادية من اجل استثمارها كما يزعم ، ولكنه ينتقي المشاريع التي لا تعود بالربح على الدولة ، مثل مشاريع المحافظة على التراث ، ومشاريع البيئة ، والمشاريع السياحية ، ومشاريع الصحة الإنجابية(تقليل عدد السكان) وغيرها، أما المشاريع الضخمة والاستراتيجية فان البنك لا يقوم باستثمارها إلا إذا قامت بها شركات غربية (متعددة الجنسيات) ، ثم يغرق الدولة بالديون، ويعطل عجلة التنمية، ويساعد على نهب ثروات الأمة وهذا يعني سلب المقدرات الاقتصادية باسم الخصخصة ، وفتح الأبواب للشركات الأجنبية لاستثمار أموالها في شراء هذه المؤسسات أو المشاركة فيها.
وتأسيساً على ما تقدم ، يقدم الشهيدَ القائدَ التشخيص الفعلي والدقيق لمفهوم “التنمية” من منظور دول الغرب الرسمالي في سياق الهيمنة الاقتصادية التي تأتي عبر عدة مظاهر منها:
– ابقاء شعوب الأُمَّــة العربية والإسْــلامية مجرد مجتمعات استهلاكيه غير منتجه واسواقاً لمنتجات شركاتها العملاقة “متعددة الجنسيات”.
– جعل شعوب الأُمَّــة العربية والإسْــلامية مجرد أيادٍ عاملة داخل مصانعهم التي ينشئونها داخل البلدان العربيةِ والإســلامية.
– تقديم ومنح قروض ربوية منهكة لاستخدامها في خطط فاشلة بالشكل الذي لا ينفع الأمة.
كما يؤكد الشهيدَ القائدَ أن تلك التنمية هي خنق لشعوب الأمة وذلك بعد إن تسأل: هل هذه تنمية؟ أم هذا خنق للأمة؟ خنق للشعوب؟ ، ليقطع الشك باليقين حول تلك “التنمية” المزعومة بالقول : ليس هناك تنمية؟ ؛ إذاً نقول: لا تخدعونا بالتنمية؟
وفيما يلي عرض بشي من التفصيل وذلك على النحو الآتي:
– ابقاء شعوب الأُمَّــة العربية والإسْــلامية مجرد مجتمعات استهلاكيه غير منتجه:
بلا شك يمكن القول ان معظم البلدان العربية والاسلامية لازالت مجرد اسواقا استهلاكية لمنتجات الشركات العملاقة في ضل توجهات منظمة التجارة العالمية التي تفتح المجال وتكسر الحواجز الجمركية أمام الشركات العملاقة متعددة الجنسيات ، ويكشف الشهيدَ القائدَ سعي دول الاستكبار العالمي بقيادة أَمريكا عبر نظامها الرأسمالي ومؤسساتها المالية وشركاتها متعددة الجنسيات الى إبقاء شعوب الأمة العربية والاسلامية مجرد مجتمعات استهلاكية ، وجعلها مجرد اسواقا استهلاكية لمنتجاتها ، حيث يقول :هم يعملون أشياء أخرى ولكن لن تجد نفسك أكثر من متجول في سوق كبيرة تستهلك منتجاتهم، ولن تجد نفسك تتجول داخل مصانع يمنيه.. المصانع تتحرك، والأيدي العاملة تتحرك وتحركها, كلها تعمل معهم ( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ص9).
وتحرص دول الغرب الرأسمالي على محاربة كلَّ الجهود الحكومية والشعبية في مختلف البلدان العربية والاسلامية في أن تصل إلى مستوى الاكتفاء الذاتي في مختلف شئون الحياة ، وتعمل على أن تُعمم عليها النمط الاستهلاكي في الحياة لمنتجاتها التي تغرق بها الاسواق العربية والاسلامية عبر ادواتها الاستعمارية الجديدة ما يعرف بمنظمة التجارة الدولية وصندوق النقد والبنك الدوليين والشركات متعددة الجنسيات.
وهذا ما يحذر منه الشهيدَ القائدَ بالقول : هم لا يريدون أن يصل الناس إلى مستوى أن يصنعوا لأنفسهم ، أن يكتفوا بأنفسهم في مجال الزراعة, في مختلف شئون الحياة لا يودون لنا أي خير يريدون منا أن نظل سوقاً استهلاكية نستهلك منتجاتهم.( يوم القدس العالمي ، ص8 – 9).ويضيف بالقول : في اليمن نفسه كم من الأراضي في اليمن تصلح للزراعة, ونحن نستورد حتى العدس وحتى الفاصوليا والقمح والذرة من استراليا ومن الصين وغيرها؟ واليمن يكفي – لو زُرع – لليمن ولغير اليمن .
ويوضح الشهيدَ القائدَ الوضعية الخطيرة التي وصلت اليها الامة في أن كل ما هو موجود في الأسواق هو من عند أعدائنا ، حيث يقول : حتى البيضة تأتي من خارج، الدجاجة تأتي من خارج، كل ما بين أيدينا كل ما في مطابخنا، كل ما في أسواقنا كله من خارج، من عند أعدائنا، أليست هذه وضعية سيئة، وضعية خطيرة جداً. ( معرفة الله ـ نعم الله ـ الدرس الخامس ، ص 5).
وبالرغم من امتلاك الامة للثروات المختلفة ، يبين الشهيدَ القائدَ أن الامة أصبحت عالة على الآخرين في مأكلها وملبسها والاشياء الضرورية الاخرى كالأدوية ، حيث يقول :ولهذا تجد الناس ثرواتهم لم تعد تشكل شيئاً. ألم نصبح نحن عالة تقريباً في مأكلنا، في ملبسنا على الآخرين؟! حتى في البلدان التي لديها ثروات هامة أصبحت عالة على الآخرين! مأكلنا، ملبسنا، أدويتنا، الوسائل الضرورية والكمالية كلها من عند الآخرين من الخارج (سورة البقرة ــ الدرس التاسع ، ص7). ويضيف بالقول : الدواء كذلك معظم الأدوية من شركات أجنبية( يوم القدس العالمي ، ص8 – 9)
ويشُير الى حجم الكارثة التي وصلت اليها هذه الامة وانها أصبحت تستورد كل شيء ، حتى “الملاخيخ”، حيث يقول في درس (مَنْ نحنً ومَنْ هُمْ ، ص 3) : وجدنا كيف أنفسنا أراضي كثيرة مهملة, ساحات واسعة صالحة للزراعة مهملة, ونستورد, نستورد كل شيء حتى [الملاخيخ], نستورد كل شيء حتى [القلوة]! ألسنا نستوردها؟ يذهب واحد يشتري كم [فشار]! وهكذا وضعية البلدان الأخرى. تدخل سوق الملح, أسواق صنعاء, وترى فيها فاصوليا, وعدس, وترى فيها فول, وترى فيها مختلف الحبوب, هذا من استراليا, وهذا من الصين, وهذا من تركيا, وهذا مدري من أين..! .
وبعد إن أكد الشهيدَ القائدَ على أن : كل موادنا الغذائية، كل أكلنا، كل لباسنا، كل معداتنا، كل شيء من الضروري والكمالي لنا كله يخضع لهيمنة أمريكا، وبقرار من أمريكا تستطيع أن تقطع كل شيء ؛ يتساءل: لماذا يستورد اليمنيون كل شيء مما هو خاضع لهيمنة أمريكا وإسرائيل؟.(يوم القدس العالمي ، ص 19).
وهنا يقدم الشهيدَ القائدَ تشخيصاً قرآنيا لذلك حيث يقول : كراهتهم أن يروا المسلمين في خير, في تقدم, في رخاء.. فذلك شيء يعملون بجدٍ على أن يحولوا بين الأمة وبين الوصول إليه {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}(البقرة: من الآية105) وفعلاً نحن هنا في اليمن كمثال ناهيك عن بقية الدول العربية والمسألة هي واحدة طعامنا، لباسنا، أدْوِيَتُنا، مختلف الكماليات التي نستخدمها، الصابون، الشامبو مختلف المشروبات، مختلف العطور، الأشياء الكثيرة جداً جداً التي نستهلكها معظمها شركات أجنبية بأيدي اليهود. .( يوم القدس العالمي ، ص8 – 9)
ويتساءل: أليس هذا قد يحصل؟. لكن اليهود بالنسبة لنا مشاعر داخلية توجه داخلي حالة نفسية لديهم أنهم لا يريدون لنا أي خير ويعملون على أن لا نصل إلى أي خير لماذا؟ لأنهم أعداء ويريد الله أن يقول لنا إنهم أعداء, إنهم أعداء، ويجب أن تتعاملوا معهم كأعداء وأن تحملوا لهم عقدة العداء.( يوم القدس العالمي ، ص8 – 9)
يحملون عداوةً شديدةً لكم فهم لا يودون لكم أي خير، وهم دائماً دائماً مستشعرون لهذه العداوة لأنه أناس لا تعرفهم ولا بينك وبينهم، أنت لا تودهم, ولا تبغضهم, لا تعاديهم, ولا تواليهم( يوم القدس العالمي ، ص8 – 9)
وفي خضم ذلك يبين الشهيدَ القائدَ احد الاسباب التي ادت الى وصول الامة الى هذه الحالة ، يؤكد في درس (يوم القدس العالمي ، ص 25) أن أعداء الامة تحركوا لجعل القوت الضروري للامة تحت رحمتهم وعطلوها من أن تنتج الخيرات من داخلها حيث يقول: لكن هؤلاء لما عملوا على أن يمسحوا من الأمة, مشاعر العداء لليهود والنصارى.. أولئك لأنهم أعداء والعدو لا بد أن يعمل ضدك – كما أشار القرآن – لا بد أن يعمل بكل جد اتجهوا إلى أن يجعلوا حتى قوتنا تحت رحمتهم، أذلونا وقهرونا إلى هذه الدرجة.
ويوضح الشهيدَ القائدَ كيف عطلت “حكومات الدول العربية” البلاد الإسلامية من أن تنتج الخيرات من داخلها ، فيحصل أبناؤها على الاكتفاء الذاتي في أغذيتهم, و ملابسهم والاشياء الضرورية الاخرى ، مؤكداً أنهم هم الذين أوصلوا المسألة وطوروا القضية من صراع عسكري إلى صراع حضاري يحتاج إلى أن تنهض الأمة من جديد, وتبني نفسها من جديد، حتى تكون بمستوى المواجهة للغرب ، ويقول :وكما قلت سابقاً لماذا لم تحي الدول العربية كحكومات [يوم القدس]؟ ليسوا جادين في مقاومة إسرائيل، ليسوا جادين في محاربة اليهود والنصارى، هم أولياء لليهود والنصارى، هم أصدقاء لأمريكا، أصدقاء لبريطانيا، أصدقاء حتى بعضهم أصدقاء لإسرائيل لا شك في ذلك. هم الذين عطلوا البلاد الإسلامية من أن تنتج الخيرات من داخلها، فيحصل أبناؤها على الاكتفاء الذاتي في أغذيتهم, وفي ملابسهم, وفي غيرها. هم الذين أوصلوا المسألة وطوروا القضية من صراع عسكري إلى صراع حضاري يحتاج إلى أن تنهض الأمة من جديد, وتبني نفسها من جديد، حتى تكون بمستوى المواجهة للغرب, والمواجهة لربيبة الغرب إسرائيل. (يوم القدس العالمي ، ص 24-25).
وهنا يخاطب الشهيدَ القائدَ أبناء هذه الامة بالقول : عد إلى واقع الحياة، أين التنمية الزراعية, أين الزراعة؟ أين قوت الناس الضروري؟ ألم يكن قد غاب؟ ألم يغب نهائياً؟ لقد غاب فعلاً، هل يملك اليمن الآن ما يكفيه شهراً واحداً من إنتاج أرضه, من قوته من الحبوب؟ لا يوجد. هم يعملون أشياء أخرى ولكن لن تجد نفسك أكثر من متجول في سوق كبيرة تستهلك منتجاتهم، ولن تجد نفسك تتجول داخل مصانع يمنيه.. المصانع تتحرك، والأيدي العاملة تتحرك وتحركها, كلها تعمل معهم، ليس هناك تنمية؟.( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ص9).
وهنا يجزم الشهيدَ القائدَ انه مادام وأن الامة تفتقد إلى تأمين غذائها فلا نستطيع أن نقف موقفاً واحداً ضد أعداء الله ، ويؤكد أن الامة أصبحت بحاجة إلى الغذاء أشد من حاجة المسلمين إلى السلاح ،حيث يقول :ما دمنا مفتقدين إلى تأمين غذائنا فلا نستطيع أن نعمل شيئاً، ولو كانت كل الصحاري قات، ولو كانت كل الجبال قات، لا نستطيع أن نقف موقفاً واحداً ضد أعداء الله، أصبحت حاجتنا إلى الغذاء أشد من حاجة المسلمين إلى السلاح.. هل تفهمون هذا؟. حاجتنا إلى الغذاء أشد من حاجتنا إلى السلاح في ميدان وقفتنا ضد أعداء الله.
الغذاء، القوت الضروري لا تستطيع أن تقف على قدميك وتصرخ في وجه أعدائك وأنت لا تملك قوتك، وإنما قوتك كله من عندهم.( معرفة الله ـ نعم الله ـ الدرس الخامس ، ص 4).
الهوامش
دروس من هدي القرآن الكريم ، مَنْ نحنً ومَنْ هُمْ ، ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي بتاريخ: شهر شوال 1422هـ ، اليمن – صعدة.
دروس من هدي القرآن الكريم ، يوم القدس العالمي ، ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي ، بتاريخ: 28/9/1422هـ ، اليمن – صعدة.
دروس من هدي القرآن الكريم ، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي ، بتاريخ: 24/1/2002م ،اليمن – صعدة.
دروس من هدي القرآن الكريم ، معرفة الله ـ نعم الله ـ الدرس الخامس ، ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي ، بتاريخ: 22/1/2002م ،اليمن – صعدة.
دروس من هدي القرآن الكريم ، معرفة الله ـ وعده ووعيده ـ الدرس الرابع عشر ، ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي ، بتاريخ: 6/2/2002م ، اليمن – صعدة.
دروس من هدي القرآن الكريم ،سورة البقرة ــ الدرس التاسع ، ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي ، بتاريخ: 9 رمضان 1424هـ ، الموافق: 3/11/2003م ، اليمن – صعدة