“الهجرة الطوعية”: الخطر الحقيقي في خطة ترامب
أعاد حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تفريغ قطاع غزة من سكانه تحت ذرائع متعددة، بعضها مغلف بغلاف إنساني وآخر اقتصادي، تسليط الضوء من جديد على أفكار الترانسفير وتهجير الشعب الفلسطيني، والتي استندت تاريخيًا إلى فكرة نقل السكان الفلسطينيين بالقوة.
ومع تعقيدات المشهد الحالي، برزت مؤخرًا نسخة محدثة من هذه السياسات تحت مسمى “الهجرة الطوعية” أو “النقل الطوعي”، والتي روج لها رواد الصهيونية الدينية وقادة اليمين الصهيوني في العقود الأخيرة. هؤلاء دعوا إلى “إصلاح الخطأ التاريخي” الذي وقع إبان نكبة الشعب الفلسطيني، والمتمثل في عدم استكمال تهجير كل الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم.
هذا الطرح عاد بقوة إلى الواجهة في سياق حرب الإبادة المستعرة وطموحات الاستيطان ومحاولات إعادة احتلال قطاع غزة. وجد قادة اليمين الصهيوني، أن الهجرة الطوعية هي السبيل العملي لتحقيق أهدافهم بعد فشل التهجير القسري نتيجة صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة آلة الحرب والدمار.
ورغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة لتفريغ الأرض من سكانها، أثبت الشعب الفلسطيني تمسكه التاريخي بأرضه وحقه في البقاء، وعزز عبر التاريخ من أدوات المواجهة وأسقط العديد من المشاريع التهجيرية والتوطينية، بما في ذلك مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء عام 1955، الذي كان لقطاع غزة الدور الأبرز في إفشاله.
اليوم، يعيد الاحتلال استهداف القطاع عبر أدوات جديدة من الحصار والدمار، في محاولة لترسيخ سياسات الإفراغ وإعادة إنتاج مخططات الترانسفير بشكل يتناسب مع ظروف المرحلة الحالية.
الترانسفير في الفكر الصهيوني
لطالما شكلت فكرة تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين حجر الزاوية في الفكر الصهيوني منذ نشأة الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر. اعتبر قادة الحركة، مثل ثيودور هرتزل، أن السيطرة على الأرض تتطلب تقليل عدد الفلسطينيين قدر الإمكان، سواء عبر الإبعاد القسري أو تشجيعهم على مغادرة أراضيهم طواعية.
في كتاباته، أشار هرتزل بوضوح إلى ضرورة “نقل السكان” كوسيلة لتحقيق الهدف الصهيوني بإنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين. هذه الرؤية تعززت لاحقًا عبر الممارسات العملية التي اتبعها قادة المشروع الصهيوني، مثل ديفيد بن غوريون، الذي صرح بأن نجاح المشروع يتطلب “أرضًا بدون سكان”.
خلال نكبة عام 1948، تحول الترانسفير من فكرة إلى واقع على الأرض، حيث أُجبر أكثر من 750 ألف فلسطيني على مغادرة منازلهم وقراهم تحت تهديد العنف والمجازر. لم تكن هذه العمليات عشوائية، بل جاءت ضمن خطط ممنهجة مثل “خطة دالت” التي هدفت إلى طرد السكان الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم.
استمر هذا النهج خلال حرب 1967، حيث تكرر مشهد التهجير الجماعي في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما شكّل أساسًا لإعادة صياغة الجغرافيا والديمغرافيا لصالح سلطات الاحتلال.
ومع توسع المشروع الصهيوني، تطورت فكرة الترانسفير لتأخذ أبعادًا أكثر وضوحًا، خصوصًا مع ظهور أحزاب وحركات سياسية تتبنى النهج علنًا. كان حزب “موليدت”، الذي أسسه رحبعام زئيفي في الثمانينيات، أحد أبرز الداعمين للترحيل، حيث اختار الحرف العبري “ط” رمزًا للحزب إشارةً إلى الحرف الأول من كلمة “ترانسفير” العبرية، داعيًا إلى ترحيل العرب من “أرض إسرائيل”.
كما لعبت حركة “كاخ”، التي أسسها الحاخام مئير كهانا، دورًا محوريًا في الدعوة إلى تهجير العرب قسريًا، ورغم حظر الحركة لاحقًا، فإن أفكارها ظلت حجر الأساس لأيديولوجيا أحزاب الصهيونية الدينية المعاصرة.
ومع تغير الظروف الدولية وتزايد الضغوط على سلطات الاحتلال، طورت هذه السياسات لتشمل وسائل أخرى أقل وضوحًا. من خلال فرض الحصار الاقتصادي، والتضييق الأمني، وخلق بيئة خانقة، تسعى دولة الاحتلال إلى تشجيع الفلسطينيين على الهجرة الطوعية، وهو ما يمثل امتدادًا حديثًا لمشروع الترانسفير، لكنه يأتي مغطى بأساليب ناعمة تحاول إخفاء الهدف الأساسي: تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها لصالح الاستيطان والهيمنة.
الهجرة الطوعية: الترانسفير بنسخة مُحدثة
مع تصاعد الرقابة الدولية على انتهاكات حقوق الإنسان واستحالة تنفيذ التهجير القسري العلني بشكل مباشر، طورت سلطات الاحتلال الإسرائيلي استراتيجية جديدة تعتمد على تشجيع “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين كوسيلة بديلة لتحقيق الهدف الصهيوني المتمثل في تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها.
تقوم هذه السياسة على خلق بيئة معيشية قاسية لا تحتمل، تدفع الفلسطينيين بشكل غير مباشر إلى مغادرة أراضيهم والبحث عن مستقبل أفضل في الخارج. ورغم غطاءها السياسي والإعلامي، إلا أن هذه الاستراتيجية ما هي إلا امتداد محدث لمشروع الترانسفير التقليدي، حيث تحاول إظهار الهجرة الطوعية كخيار فردي للفلسطينيين، بينما هي نتيجة مباشرة لضغوط وسياسات ممنهجة.
في هذا السياق، تأتي خطة وزير المالية في حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش لـ”حسم الصراع”، حيث يقترح تقديم حوافز مالية وتحفيزات دولية لتشجيع الفلسطينيين على مغادرة الأراضي المحتلة. تعتمد الخطة على خلق آليات منظمة للهجرة “الطوعية”، من خلال عقد اتفاقيات مع دول عربية وأخرى أوروبية وأمريكية لاتينية لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين.
وحسب رؤية سموتريتش، فإن الهدف هو جعل الهجرة تبدو كعملية منظمة ومؤطرة باتفاقيات دولية، تُتيح للفلسطينيين الانتقال “بسهولة وبكرامة”، مع استعداد دولة الاحتلال لتقديم الدعم المالي والدبلوماسي لإنجاح هذا المشروع.
تمثل هذه السياسات تطورًا في مشروع الترانسفير من الإكراه الصريح إلى وسائل ناعمة وأكثر قابلية للتسويق دوليًا، لكنها تظل في جوهرها استكمالًا للهدف ذاته: تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها لتسهيل سيطرة الاحتلال الكاملة عليها.
الهجرة الطوعية في حرب الإبادة
خلال حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، سعى جاهدًا إلى دفع أهالي قطاع غزة للنزوح الجماعي تحت القصف والمجازر المستمرة، وركزت خطة الاحتلال الاستراتيجية على تهجير سكان القطاع تدريجيًا باتجاه الجنوب، بهدف إحداث اندفاع جماعي نحو الحدود المصرية، حيث يكون التهجير القسري إلى الأراضي المصرية والمغادرة من القطاع خيارًا مفروضًا على السكان الهاربين من نيران الحرب والإبادة.
ومع فشل هذه المحاولات نتيجة صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على البقاء، أعيد طرح فكرة “الهجرة الطوعية” كإطار بديل يمكن أن يخدم المشروع ذاته.
في هذا السياق، صرح وزير المالية في حكومة الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، في ديسمبر/كانون الأول 2023 بضرورة تشجيع سكان قطاع غزة على الهجرة الطوعية. وفي مقابلة مع القناة 12 العبرية، أشار إلى أهمية إيجاد دول مستعدة لاستقبال هؤلاء السكان، معتبراً الهجرة الطوعية “فرصة تاريخية” لتحقيق الاستقرار لـ”إسرائيل”.
وخلال فعالية لمجلس “يشع” الاستيطاني في يناير/كانون الثاني 2024، أعلن سموتريتش أن احتلال القطاع وتشجيع الهجرة الطوعية هو الحل المثالي لتقليص عدد سكان غزة بنسبة تصل إلى النصف خلال عامين، خصوصًا مع دعم الإدارة الأمريكية الجديدة.
أما وزير الأمن القومي المستقيل، إيتمار بن غفير، فقد دعا في فبراير/شباط 2024 إلى تقديم حوافز مالية لسكان غزة لتشجيعهم على الهجرة الطوعية، واصفًا هذه الخطوة بأنها “مهمة أخلاقية”. وادعى أن قطاع غزة، الذي يعتبره “معقلًا للإرهاب”، لا يمكن أن يستقر إلا برحيل سكانه.
وصرح بن غفير أن بقاء الفلسطينيين في غزة سيؤدي إلى استمرار “حالة الفوضى” وتهديد أمن الاحتلال، مما يجعل الهجرة الطوعية خيارًا “حتميًا” لضمان الأمن الإسرائيلي ومنع تكرار أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يتقاطع هذا الطرح مع رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي دعم فكرة إخلاء غزة عبر الهجرة الطوعية للفلسطينيين. وقد أشاد بن غفير بخطة ترامب، واعتبرها فرصة يجب على الاحتلال الإسرائيلي استغلالها. كما وصف سموتريتش الفكرة بـ”العظيمة”، مؤكدًا عزمه العمل مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لضمان تنفيذها بالتعاون مع الإدارة الأمريكية، في إطار مشروع أكبر يهدف إلى تغيير الواقع الديمغرافي للقطاع على حساب سكانه الفلسطينيين.
إعدام مقومات الحياة
في ظل حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، نفذ الاحتلال الإسرائيلي تدميرًا ممنهجًا للبنى التحتية ومقومات الحياة الأساسية، مستهدفًا المنازل السكنية، شبكات المياه والكهرباء، المستشفيات، والمدارس.
هذا التدمير ليس مجرد نتيجة للصراع، بل هو سياسة متعمدة تهدف إلى إعدام أي شكل من أشكال الحياة الطبيعية في القطاع، ما يعكس رغبة الاحتلال في فرض واقع يجعل البقاء في غزة خيارًا شبه مستحيل، ويدفع السكان إلى التفكير في الهجرة كخيار أخير للنجاة.
وفقًا للتقارير الأممية، فإن قطاع غزة تعرض لـ”وابل غير مسبوق من الدمار” منذ بدء الهجوم العسكري للاحتلال. واعتبر أن وحشية هذا الدمار تجاوزت ما شوهد في صراعات مثل سوريا وأوكرانيا، مع تقديرات تفيد بأن ما بين 60% إلى 70% من منازل غزة دُمرت، فيما بلغت نسبة الدمار في شمال القطاع 82% بحلول يناير/كانون الثاني 2024، وتقترب الآن من 100%.
إلى جانب ذلك، أشار تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مايو/أيار الماضي إلى أن كمية الركام الناتج عن الدمار في غزة تجاوزت 39 مليون طن، تحتوي على مواد خطرة مثل ذخائر غير منفجرة ونفايات سامة وأسبستوس، مما يضاعف التحديات أمام جهود الإزالة ويزيد من المخاطر الصحية والبيئية.
أما إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، فقد كشفت عن خسائر مادية مباشرة تجاوزت 50 مليار دولار أميركي في مختلف القطاعات. تصدّر قطاع الإسكان هذه الخسائر بمبلغ 25 مليار دولار، يليه القطاع الاقتصادي بخسائر تزيد عن 6 مليارات، وقطاع الخدمات والبنية التحتية بأكثر من 4 مليارات. وقد أُلحقت أضرار جسيمة بـ450 ألف وحدة سكنية، منها 170 ألف دُمرت كليًا، و80 ألف تعرضت لضرر بالغ، و200 ألف لضرر جزئي.
وفي التفاصيل، شملت الأضرار البنية التحتية تدمير 335 كم من شبكات المياه، و496 محطة تحلية، و111 خزان مياه مركزي، إضافة إلى 655 كم من شبكات الصرف الصحي و65 محطة معالجة. كما تضررت 3,680 كم من شبكات الكهرباء، و2,105 محولات، و538 مولدًا، و3,916 كم من الطرق والشوارع.
هذه الأرقام تعكس حجم الكارثة التي يواجهها سكان القطاع، حيث يسعى الاحتلال إلى تحويل غزة إلى مكان “غير صالح للحياة”، ضمن سياق يهدف إلى تهجير أهلها قسرًا أو دفعهم للهجرة الطوعية. هذه السياسات، التي تستخدم الحصار والدمار كأدوات للضغط، لا تترك مجالًا للفلسطينيين سوى مواجهة تحديات استثنائية تهدد وجودهم في أرضهم.
تعطيل الإغاثة والإعمار: استكمال العدوان بأدوات أخرى
في إطار المرحلة الأولى من اتفاق التهدئة، كان من المفترض تنفيذ خطوات إنسانية عاجلة تهدف إلى تخفيف الأوضاع الكارثية في قطاع غزة، تتضمن إعادة تأهيل البنية التحتية الأساسية، مثل الكهرباء والماء والصرف الصحي والطرق، إلى جانب إدخال المعدات اللازمة للدفاع المدني وإزالة الركام، وتوفير مستلزمات الإيواء للنازحين، بما في ذلك 60 ألف وحدة متنقلة (كرفانات) و200 ألف خيمة. كما نص الاتفاق على البدء في إعداد خطط شاملة لإعادة إعمار البيوت والمنشآت التي دُمرت خلال الحرب.
إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتعمد تعطيل تنفيذ بنود الاتفاق، مما يؤدي إلى تفاقم المعاناة الإنسانية. فقد أكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن الاحتلال يمارس مماطلة منهجية، حيث دخل القطاع منذ بدء التهدئة في 19 يناير/كانون الثاني 2024 حوالي 8,500 شاحنة من المساعدات فقط، مقارنة بـ12 ألف شاحنة كان يُفترض دخولها. كما لم يتم إدخال سوى 10% من الخيام المطلوبة، ولم تصل أي وحدة متنقلة للإيواء، مما يعمق أزمة آلاف الأسر التي فقدت منازلها.
إلى جانب ذلك، يواجه القطاع عجزًا كبيرًا في إمدادات الوقود، حيث تدخل 15 شاحنة يوميًا بدلًا من 50 شاحنة، ما يهدد استمرارية تشغيل المستشفيات والمرافق العامة. كما ويؤدي هذا المنع إلى تعطل خدمات حيوية مثل تشغيل شبكات المياه والصرف الصحي، خاصة في شمال القطاع، كما تعرقل إدخال الأجهزة الطبية اللازمة لإنقاذ حياة المرضى والجرحى.
هذه السياسات تعكس استمرار الاحتلال في استخدام أدوات العدوان بأساليب مختلفة. فبالرغم من قبوله بمسار التهدئة، يستمر الاحتلال في تعميق الدمار وفرض واقع كارثي يغلق أمام الفلسطينيين في غزة أي أفق لاستعادة الحياة الطبيعية. هذه الممارسات ليست مجرد تعطيل للإغاثة، بل هي امتداد لنهج يستهدف دفع أهالي القطاع إلى البحث عن خيارات الحياة خارج غزة، وتعزيز سياسات الهجرة الطوعية التي تُعتبر امتدادًا حديثًا لفكرة الترانسفير.
تعطيل الإغاثة والإعمار ليس سوى وسيلة أخرى لاستمرار العدوان وإدامة معاناة الفلسطينيين ودفعهم نحو خيارات يرغب الاحتلال في فرضها كأمر واقع، وبذلك تتضح معالم استراتيجية الاحتلال طويلة الأمد، والتي تهدف إلى تفريغ القطاع من سكانه وإعادة تشكيله ديمغرافيًا بما يخدم مصالحه الاستيطانية.
شبكة قدس