المولد النبوي والوحدة الإسلامية…بقلم/طه هادي الحاضري
لقد كان النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم معروفاً لدى كل الأنبياء والرسل الذي سبقوه، وكانوا مؤمنين به، ومُوَطِّنُين أنفسهم على نصرته إن أدركوه، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فكانوا يُبشرون به بين أممهم، ويدعون أقوامهم إلى الإيمان به ويحثونهم على نصرته إذا أدركوا زمانه، وكانت الكتب السماوية التي نزلت عليهم تزخر بالتعريف به وبعلاماته وعلامات ظهوره، وأبرز من بشَّر به من الأنبياء والرسل أنبياء بني إسرائيل حيث كان النبي الخاتم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مكتوباً في التوراة والإنجيل حتى عرفه بنوا إسرائيل (أهل الكتاب) كما يعرفون أبناءهم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) حتى أن بعض اليهود من بني إسرائيل هاجروا إلى يثرب (المدينة المنورة) لانتظار ظهوره وهجرته إليها حتى يكونوا أول من يؤمن به ويتشرف بنصرته، وإليهم ينتمي يهود بني قينقاع وبني النظير وبني قريظة وغيرهم الذين كانوا حال حدوث مشكلة بينهم وبين العرب وخصوصاً الأوس والخزرج في يثرب يستفتحون عليهم بأنه قد أظل زمان النبي الخاتم وأنهم سينصرونه ويقاتلون العرب تحت قيادته، ولكنهم كفروا به حال ظهوره رغم معرفتهم له وتأكدهم ويقينهم منه، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) ولهذا سارع الأوس والخزرج إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمعوا عنه وعرفوه من خلال ما كانوا يسمعون من مقولات اليهود عن مجيئه وفضله، فسبقوا بالإيمان اليهود الذين كفروا به، مع العلم أن هناك من اليهود من آمن به ومدحهم الله تعالى بقوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) هذا بالنسبة لليهود أما بالنسبة للنصارى فقد صرح لهم عيسى عليه السلام باسمه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) ولكنهم ضلوا وأنكروه وكفروا به إلا قليلا منهم.
من الواضح هنا أن الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ ببعثته بل قبل مولده بل هو موجود ذُكِر في أدبيات الأمم الماضية والرسالات السابقة والنبوءات المتتابعة، وكان المؤمنون الموحدون قبل بعثته يؤمنون به وكانوا يعيشون حالة استنفار لنصرته كما دل على ذلك قصة الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذي تنقل بين الأحبار والرهبان باحثًا عن الحقيقة عن نبي آخر الزمان حتى وجدها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوصيات من الأحبار والرهبان الذين تنقل بينهم حتى انتهى به المطاف عبداً ليهودي بيثرب (المدينة المنورة) فاستمع لكل العلامات والإرهاصات لولادته وبعثته ورآها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمن به واتبعه.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جزءاً من إيمان الأمم السابقة بأنبيائها، وكان معروفاً قبل مولده بالعلامات وبالأوصاف وحتى بالاسم وبمكان هجرته، وحين بُعث صلى الله عليه وآله آمن به أناس من مختلف الجنسيات والقوميات ومن مختلف الديانات آنذاك فآمن به العربي والحبشي والفارسي والرومي وغيرهم وآمن به اليهودي والنصراني والمجوسي والوثني وغيرهم وكفر به من كفر.
لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وختم الله به أنبياءه ورسله فلا نبي بعده، وما زال الإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم شرطاً للإيمان بالله تعالى وتوحيده ونيل رضاه وعفوه وهو الوحيد من الأنبياء والمرسلين الذي يُردد اسمه في الآفاق وفي مختلف بقاع الأرض وأرجاء الدنيا ودول العالم وبالصوت المرتفع وبمكبرات الصوت (أشهد أن محمداً رسول الله) وما زال الإيمان به وبرسالته هو المرور الآمن في الحياة الدنيا وفي الآخرة وما زالت أخلاقه وشريعته هي الخلاص لعالم اليوم الذي يعيش اضطرابات وأزمات وحروب وانحطاط أخلاقي واقتصادي واختلافات ومآس وعصبيات وعنصرية وجاهلية حديثة ومعاصرة بطول العالم وعرضه تستخدم العلم والتقدم والتكنولوجيا في الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
الوحدة الإسلامية
مما سبق يتضح أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس خاصاً بالعرب والمسلمين بمعنى أنه ليس نبيهم وحدهم أو رسولاً يخصهم إذ الحقيقة أنه رسول الله إلى الجميع وإلى البشرية وكل الإنسانية مع فرق أن هناك من آمن به وهناك من كفر به، فلم تنته صلاحية رسالته إذ أن صلاحيتها وفاعليتها إلى أن تقوم الساعة فالله تعالى أرسله إلى الناس كآفة قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وقال سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مضمونها رحمة للعالمين قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وعلى رأس المرحومين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البشر الذي هو منهم وبشر مثلهم وبهذا هو رحمة حتى لليهود والنصارى من آمن به واتبعه منهم قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وجاء صلى الله عليه وآله وسلم ليحسم الخلاف بينهم قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ولأن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنسانية وعالمية وخاتمة بعثه الله في وسط العالم ومركزه مكة المكرمة في شبه الجزيرة العربية في العالم العربي وفي المنطقة التي تُسمى بالشرق الأوسط قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والمفترض أن يكون العرب والمسلمون من خلال الرسول الكريم ودين الإسلام والقرآن الذي نزل بلسانهم ومن خلال موقعهم الديني والتاريخي والجغرافي دعاة العزة والأمن والسلام والوحدة أن يقدموا الحل للعالم بأسره شرقه وغربه بما حملهم الله وكرمهم وشرفهم لا أن يكونوا كما هم في هذا العصر – إلا من رحم الله – أذلة صاغرين تلتهب منطقتهم بالحروب ويتحكم بهم الشرق والغرب، من اليهود والنصارى – أهل الكتاب – والذين تمثلهم أمريكا وإسرائيل ودول الغرب وروسيا وغيرها.
إنه من المؤسف أن يأتي الرسول والقرآن ليحسما الخلاف بين بني إسرائيل – مع أنهم لم يقبلوا بالحق – على أساس أن المسلمين يجمعهم الرسول والقرآن والإسلام والقبلة فإذا بالمسلمين أنفسهم يتفرقون ويختلفون ويتقاتلون ويتعاون بعضهم مع أعدائهم على إخوتهم مما يدل على هجرهم للقرآن وضعف ارتباط بنبي الإنسانية صلى الله عليه وآله وسلم.
عندما يتأمل الواحد منا العالم الغربي والأوربي ويرى استقراره رغم وجود ملل متفرقة وأديان مختلفة وعرقيات كثيرة وقوميات متعددة وثقافات متنوعة واختلافات جذرية وجوهرية ويشكلون الاتحادات كالاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية والأمم المتحدة التي يتحكم بها الغرب، وعندما يتأمل تفرقنا كمسلمين رغم أن ديننا واحد ونبينا خاتم الأنبياء والمرسلين ونحن متفقون بشأنه ومؤمنون برسالته وكتابنا المقدس القرآن الكريم الذي نقرأه سوياً بدون زيادة أو نقصان وقبلتنا التي نتوجه إليها واحدة إن من يتأمل ذلك يرى بوضوح حجم الغباء والحمق والبعد الشاسع بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يمكن أن نتوحد إلا به وبتعاليمه وعلى مقتضى سيرته وأخلاقه ويمكن أن يشكل المولد النبوي الشريف بداية للمِّ الشعث وتوحيد الصف والكلمة ونبذ الفرقة والشتات ونشر المحبة والإخاء لأن النبي لا يُمثل طائفة أو مذهباً أو حزباً أو نظاماً سياسياً أو حركةً أو جماعةً أو أي مشروع ضيق وصغير ومحدود ومنغلق على نفسه.
المولد النبوي مناسبة وحدوية
إنها فرصة عظيمة أن تكون ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة لنتذكر رسول الله ورسالته، وعلاقتنا به وارتباطنا كمسلمين لا فرق بين سني ولا شيعي إلا بالتأسي به والاتباع له ولا بين طائفة وطائفة إلا بقدر تجسيد أخلاقه ولا بين مذهب ومذهب إلا بصدق الانتماء السلوكي والتعاملي بما جاء به.
لقد استطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنشئ أمة إسلامية رائدة في برهة من الزمن سادت الدنيا بقيادته فكان من عناصرها العربي والعجمي والفارسي والرومي والحبشي وذابت الاختلافات الدينية والمعتقدات الخاطئة وانصلحت الأخلاق الذميمة واستقام السلوك المنحرف.
ومن هنا فليس سبب الفرقة عدم معرفة الحق لأنه واضح وأبلج وإنما خلل في الفهم وعقم في التفكير وأخطاء في السلوك وكل ما سبق نابع من سوء في الأخلاق.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول موجزاً رسالته في عبارة واحدة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ويقول عن الدين الإسلامي برمته في جملة واحدة: (الدين المعاملة) ومكارم الأخلاق والمعاملة بين الناس هي أمور عملية سواء بالقلب أو باللسان أو بالفعل وهي التي يعبر القرآن الكريم عنها بالعمل الصالح وكم تكرر قوله سبحانه عن المؤمنين: (وعملوا الصالحات) فأول خطوة للوحدة الإسلامية هي الأخلاق التي وردت في القرآن الكريم وجسدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتعامل واقعاً وكان لها الأثر الكبير حتى أن من المشركين من كان يُسلم ويُؤمن لمجرد موقف واحد رأى من خلاله عظمة أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقبل أن يسمع آية واحدة من القرآن الكريم.
فالدين بطبيعته وحدوي واجتماعي وتجميعي للناس فمن الصلاة وحركاتها الأساسية – دون الاكتراث بالأمور الفرعية الفقهية – ومروراً بها جماعة خمس مرات في اليوم والليلة وبصلاة الجمعة وصولاً إلى الحج وتجمع المسلمين من مختلف الدول والجنسيات واللغات والشعوب والقوميات تكون الفرائض توحيدية لله تعالى ووحدوية، للناس أما في جانب التعامل فشرع الله واضح فيما يتعلق بالبيع والشراء والنكاح والطلاق وكل أبواب المعاملات الفقهية بالإضافة إلى التعامل الأخلاقي من طاعة للوالدين وبين الإخوة والأرحام والأقرباء واتساع الدائرة بالجيران والأصحاب والأصدقاء والمسلمين بشكل عام وبالصدق والأمانة والتناصح والولاء والبراء وغيرها وكل هذه الأمور سواء العبادية أو المعاملاتية أو الأخلاقية السلوكية مترابطة أصلاً ومحل اتفاق ويجمعها توجيهات الله تعالى بالاعتصام بحبله وبالتوحد بمنهجه وتحذيره ونهيه من الفرقة والشتات والاختلاف وتهديده لمن يشرد عن طريق الألفة والمحبة والتراحم والتعاضد والتكافل والتعاون.
والمولد النبوي الشريف على مقتضى ما سبق هو رسالة وحدوية عظيمة بالغة الأثر في نفوس المسلمين إذا ما أحسنوا استغلالها بإيجابية وبوعي ومسؤولية لأنه يذكرنا بالوسيلة المناسبة والسليمة والفاعلة لانتقالنا من مجر التنظير للوحدة إلى العمل الصادق للحصول عليها وهي الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال الله تعالى له: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ومن أخلاقه العظيمة الـتألم على واقع الناس المأساوي والحرص على هدايتهم بكل حب لهم وشفقه عليهم قال الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ومن شدة ألمه وحزنة وأسفه على الناس قال الله تعالى له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) فهذه الروحية النبوية هي منطلق للدعوة إلى الوحدة من منطلق الحرص على الأمة وليس من باب الانتماء الضيق أو في حدود النظام السياسي الذي يقبع الداعي تحت حكمه أو في إطار عصبيته المذهبية أو الطائفية أو في بعده القومي والشعبي.
كما أن من الأسس للوحدة هي ترك الفضاضة في التعامل مع الآخرين يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم سينفضون من حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول الله ينزل عليه الوحي لو كان فظاً غليظ القلب فكيف بغيره صلى الله عليه وآله وسلم! وكيف سيتقبل الناس الواحد منا إذا دعاهم إلى الوحدة وهو غليظ القلب؟ بل كيف سيتقبل غير المسلمين الإسلام ونحن كذلك؟
فالألفة ليست مذهباً والمحبة ليست طائفة والأخلاق ليست محل خلاف فقهي ولا فكري ولا عقائدي ولا سياسي بل هي روح الرسالة وسمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك ننحدر إلى الخلافات فنحن – وللأسف ونقولها بصراحة وبكل شفافية نحن على حالتنا هذه باحثون عن خلافات وطلّاب اختلافات وإذا اتفقنا في أمر هنا بحثنا عن اختلاف هناك لقد أصبحنا -والله المستعان- مدمني خلافات وأصبح الدين والالتزام هو مجموعة الخلافات بيننا ونتناسى المشتركات وما أكثرها ونتجاهل الاتفاقات وما أعظمها ويُشخِّص كل واحد منا الآخر بقدر ما يختلف معه فقط وينحرف سلوكنا تجاه الآخر المسلم على الرغم أن سلوكنا وأخلاقنا يجب أن تكون سامية مع غير المسلم فكيف بالمسلم.
فليست مشكلتنا فكرية ولا عقائدية بقدر ما هي سلوكية وأخلاقية لأننا حين ننطلق بالدعوة والاستقطاب والتوعية بالدين بين الناس ننطلق تحت سقف الآراء المذهبية والطائفية التي أغلبنا لم يفكر فيها قط وإنما تلقناها تلقناً وأجزم أننا في كثير من الأحيان لا نفهمها أصلاً ولكننا نعتبرها مسلمات وخطوط حمراء لا يجوز تجاوزها ومن تجاوزها فهو مبتدع أو ضال أو زنديق أو خارج من المذهب حتى وصل الحال إلى التكفير للأسف الشديد.
ومع ذلك نجد العقلاء والذين هم على الفطرة من أي انتماء كان، يحترمون صاحب الخلق الحسن من غير انتماءهم ويبغضون ويُعرضون عن سيئ الخلق ولو كان من نفس انتماءهم ولذا ما ينقصنا هو الأخلاق.
فالأخلاق في الحقيقة هي الوحدة ولا نبالغ لأن أي اختلاف فكري كان أو غيره بالأخلاق نستطيع إذا لم نتفق حوله أن نتعامل بأخلاق مع بعضنا البعض وهناك طرق سليمة لتفادي الاصطدام والنزغ الشيطاني عَرَضَهَ القرآن الكريم في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وفي قوله سبحانه: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).