الموت قبل السفر.. الأمم المتحدة تقتل آمال المرضى اليمنيين
صُدم المواطن عادل البجلي بنبأ إلغاء الأمم المتحدة الجسر الجوي مؤخّراً، وهو الذي كان يأمل ليلاً ونهاراً أن يأتيَ دورَه للسفر لعلاج ابنته شيماء.
ويصف البجلي في تصريح خاص لصحيفة “المسيرة” مرض شيماء (13) عاماً بأنه أكبر الأوجاع بالنسبة إليه، وأنه لم يعد يتذوق طعم الحياة، ويشعر بالمرارة والألم والحزن حين يراها تتألم وتتوجع في منتصف الليالي، مع عجزه عن تقديم المساعدة لها.
وتعاني شيماء من “ورم” في راحة كفها الأيسر، حَيثُ بدأ صغيراً كحبة الذرة، وهو يظهر أحياناً ويختفي.
ويقول البجلي: إن العدوان الأمريكي السعوديّ على صعدة، أجبرهم على النزوح من قريتهم، والانتقال إلى مدينة أُخرى، ولهذا فَـإنَّهم لم يهتموا بمرض شيماء، أَو لم يكن في بالهم أن الأمر سيتطور، ويتحول إلى خطورة بالغة يهدّد حياتها، مُضيفاً بقوله: “كنا نتوقع ما هو أكبر من وجع شيماء ألا وهو الموت في كُـلّ لحظة”، في إشارة إلى القصف المتواصل لطيران العدوان على صعدة، والمعاناة التي لاقوها جراء النزوح والتشرد.
يتوقف البجلي برهة، ثم يمسح دموعاً تساقطت على خده ثم يقول بعد أن أطلق عدة تنهيدات: “بدأ الورم يكبر ويكبر، مما أخافني فعالجتها في عدد من المستشفيات، بدءاً بمستشفى السلام السعوديّ صعدة، ثم المستشفى العام بعمران، ثم مستشفى الثورة والجمهوري بصنعاء، كذلك المستشفى الأُورُوبي بصنعاء، وقد بذلت ما أستطيع في علاجها رغم الفقر وقلة ذات اليد، فاستدنت وتعبت، وعرضتها على عدد من الأطباء أخصائيين وجراحي الأوعية الدموية والأورام، غير أن جميعَهم نصحوني بالسفر إلى الخارج”.
ويشير إلى أن الأطباء برّروا ضرورة سفر شيماء إلى الخارج؛ لأَنَّ الورم “عميق” بين أوتار اليد وهو متصل بالأوردة والشرايين الدقيقة جِـدًّا ومتفرع جِـدًّا، خُصُوصاً وأنه متصل بأوردة اليد اليسرى المتصلة بالقلب؛ مما قد يعطل يدها أَو الوفاة لا سمح الله، منوِّهًا إلى حكومة الإنقاذ الوطني بصنعاء، وبالأخص الهيئة العامة للزكاة أبدت استعدادَها لجميع تكاليف العملية في اليمن لو أمكن، ولكن وهذا غير ممكن؛ وذلك لعدم توفر الإمْكَانيات المطلوبة والمتمثلة بالجهاز المسؤول عن كَي وغلق الشرايين الدقيقة والمغذية لتلك الحموات الورمية.
لحظة سكوت تكسرها غصة مصحوبة لصوت البجلي: “تقوم شيماء في منتصف الليل أحياناً فتبكي من الألم، خُصُوصاً أن الورم تجاوز راحة الكف إلى الرسغ والساعد، فأبكي معها، لا يعلم حالنا وجرحنا إلا الله”.
ويزيد بالقول: “وبقيت آمالنا معلقة بالله أولاً وآخراً، ثم بالجسر الجوي، رجاءَ نظرة إنسانية رحيمة، ننتظر ذلك بفارغ من الصبر، ولكن للأسف الشديد، قرع آذاننا جرس الخبر المزعج والمؤلم، بإغلاق الجسر الجوي، فآلمنا، وأحزننا أكثر من مبتلانا، وذلك أن الإنسان أصبح لا يرحم الإنسان، ولا الطفل الصغير المريض، ولا العاجز، ولا الشيخ الكبير، وهذا ما ينذر بغضب من الله وعذابٍ شديدٍ يغشى الظالم والمتجاهل حال هؤلاء الضعفاء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، هو حسبُنا وعليه اتكالنا، وهو ملجأنا، نعم المولى ونعم النصير (وإذا مرضتَ فهو يشفين).
انسداد في المريء
ليست شيماء هي الحالة الوحيدة التي تحتاج للسفر إلى الخارج، فمثلها الآلاف ينتظرون مصيراً مشابهاً إن لم يتم نقلهم على وجه السرعة خارج اليمن لتلقي العلاج.
وتسرد أم هناء حكايةً أُخرى عن مأساة طفلتها “هناء” التي تبلغ من العمر 4 سنوات، وتحتاج فورًا للسفر إلى الخارج للعلاج.
وتقول أم هناء لصحيفة “المسيرة”: “مع ولادتي بابنتي هناء في أول يوم وأول لحظة ترى فيه النور تفاجأت أنها تعاني من انسداد في البلعوم، مباشرة، وفي اليوم الثاني قمنا بإجراء عملية توسعة للبلعوم، ثم توالت بعدها عدة عمليات أُخرى على فترات زمنية مختلفة، كمحاولة لفتح الانسداد الذي تعاني منه طفلتي، لتمر فترةُ رضاعتها بشكل جيد نتيجةَ هذه العمليات، ولكن بعد فترة الرضاعة لم تستطِع طفلتي الأكل، أَو الشرب، ومُجَـرّد أكلها أي شيء وهي طفلة تختنق به كشَرْقَةِ رجل مخزن إن جاز التشبيه وهي طفلة في عامها الأول”.
وتضيف أم هناء بالقول: “حتى عندما تنام ابنتي يخرج من فمها سوائل كثيرة تشبه الحليب”.
وبصوت يحتله الحزن توضح أم هناء: “عرضناها على طبيب، فقال إن ابنتي الصغيرة تعاني من تضيق في المريء وهو الذي يسبب لها هذه “الشَّرْقات” عند أكل شيء ما والارتجاع للسوائل وهي نائمة، وبالتالي يجب عمل توسعات لها عبر عمليات جراحية على فترات متفاوتة”، مشيرة إلى أنها أُجريت لها 4 عمليات جراحية والخامسة ستكون بعد شهر من تاريخ كتابة هذه الأسطر لتوسعة المريء تتجاوز تكلفة العملية الواحدة إلى 500 ألف ريال بدون حساب تكلفة العلاجات والأدوية.
وتواصل أم هناء بالقول: “مع تعب بنتي وأوجاعها وبكائها المُستمرّ الذي يخترق قلبي كطعنة غادرة تترك جرحاً لا يندمل، ومع إرهاق العمليات وعجزي في الاستمرار أمام تكلفتها المطلوبة لإجرائها أردت أن يكون هناك حَـلٌّ نهائي وشفائها بشكل كامل، فتقدمت إلى اللجنة الطبية العليا، فعرضت حالت ابنتي؛ بهَدفِ نقلها للخارج”.
من جانبها، قالت عمة الطفلة “هناء” إنها تواصلت مع اللجنة الطبية العليا المسؤولة عن الجسر الجوي، والتنسيق مع منظمة الصحة العالمية في شهر مارس الماضي، وأخبرتهم بحالة “هناء”، لافتة إلى أنه وبعد عرض الحالة عليهم، والنظر إلى التقارير الطبية الخَاصَّة بها، طلبوا صوراً لجواز الطفلة وجواز الأم على أَسَاس أن الحالة يستدعي علاجها السفر إلى الخارج، وسيتم التواصلُ معنا في حال تم قبولنا والسفر إلى الخارج أول ما يتم فتحُ واستئنافُ الجسر الجوي.
وتضيف عمةُ هناء أنها كانت على تواصل دائم باللجنة الطبية العليا ومنظمة الصحة العالمية، لكنها تفاجأت بخبر توقف الجسر الجوي من قبل الأمم المتحدة، داعية إلى ضرورة تنظيم وحضور وقفات احتجاجية بعد توقف الجسر الجوي، وأنها بالفعل حضرت أكثر من وقفة.
وتؤكّـد عمة الطفلة هناء أن ابنة أخيها في حالة خطيرة ولا تستطيع الأكل، وَإذَا ما أكلت شيئاً يحدث لها انسداد للمريء فتحتاج عملية توسعة سريعة ما لم فستموت.
ولك أن تتخيل – والكلام لعمة هناء – هكذا وضع، مشيرة إلى أن توقف الجسر الجوي قتل لآخر أمل لهم في علاج ابنة أخيها بعد أن كانوا يعيشون على هذا الحلم، مطالبة الأمم المتحدة بفتح الجسر الجوي وتحمل مسؤولية ما قد يحصل لهناء وغيرها من آلاف اليمنيين المرضى.
غازات سامة
جبال يام في جبهة نهم تحملُ في مكوناتها قصةَ مجاهد يكتوي بآلام غازات محرمة ألقاها العدوانُ الأمريكي السعوديّ على منطقة التبة السوداء، فكان ضحيتها أحد المجاهدين الأبطال، علي حزام.
ويروي المجاهد علي حزام ما حدث له بالقول: “قبل 3 سنوات، أُصيب زميلي بجرح أثناء المواجهة المسلحة مع مرتزِقة العدوان في جبهة نهم على حبال يام في التبة السوداء، فنزلت أحاولُ إسعافَ زميلي إلى المستشفى العسكري، وطرشت دماً، فقد كانت الهاونات التي تضرب علينا سامة، ولم أهتم في البداية للدم الذي أتقيأه، لكن ومع مرور الأيّام، والأشهر ساءت حالتي بشكل كبير إلى حَــدِّ دخولي في غيبوبة”.
ويتابع حزام حديثه لصحيفة “المسيرة”: “تم تشخيص حالتي بأنها نزيف في دوالي المريء، وتليف في الكبد، إضافة إلى تضخم في الطحال”، وكل هذا كان نتيجة استنشاقه للغازات السامة التي ألقاها العدوانُ الأمريكي السعودي من قذائف الهاون.
ويشير المجاهد حزام إلى أنه أجرى عدة عمليات جراحية لربط داولي المريء؛ بهَدفِ إيقاف النزيف بتكلفة تصل إلى 50 ألف ريال في كُـلّ مرة، مواصلاً حديثَه بصوت مكلوم: “تواصلتُ مع اللجنة الطبية العليا بعد أن علمت بموضوع الجسر الطبي قبل سنتين الذي أقامته الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وبعد معاملات وتعب لا يطاق أخبرونا بأنه لم يعد هناك مكان للسفر بعد سفر الدفعة الأولى، وطلبوا مني التواصل معهم السنة القادمة وتحديداً في شهر يناير العام الماضي 2020م؛ مِن أجلِ السفر لزراعة الكبد”.
ويؤكّـد حزام وهو ما حدث فعلاً، “لكني تفاجأت وهم يخبرونني بأن جوازات السفر لي وللمرافق والمتبرع بالكبد على نفقتي الشخصية، وأنا لا أملك حتى قيمة دواء “مذر البول”، فما بالك بتكلفة استخراج جوازات لثلاثة أشخاص!”، لافتاً إلى أنه وبعد تعب معاملات روتينية وتأكيد ضرورة سفره للعلاج، معاناة كبيرة وألم رافق حزام طيلة سنتين من تشخيص حالته دخل خلالها في غيبوبة كبدية ثلاث مرات لمدة أسبوع وأسبوعين وثلاثة أسابيع على التوالي، إلَّا أن إرادَة الله كانت عكس كلام الأطباء الذين كانوا يقولون في كُـلّ مرة إن حزام لن يصحوَ من غيبوبته الكبدية ومصيره الموت، وأصبحت حياتُه متوقفةً على استخراج ثلاثة جوازات لثلاثة أشخاص لم يكن أمامه إلا اللجوء لله، ونافذة الأمل وبوابة العلاج والشفاء لم تكن أقرب من تلك اللحظة التي جهز فيها حزام جوازات السفر بعد اقتراضه مبلغ بحدود 200 ألف ريال، لكن حزام أغفل أمراً هاماً، ففور وصوله للجنة وإعطائهم الجوازات أخبروه أنه الرحلة قد غادرت بالفعل وأنه تأخر خَاصَّة، وأن العددَ المسموحَ لكل رحلة قليل جِـدًّا، بينما هناك عشرات الآلاف من المرضى غيره في قوائم السفر، وبالتالي عليه الانتظار للسنة القادمة، حسب كلامه.
وبلون شاحب يرتسم على محيى حزام وصوت كهل بلغ منه الزمن عتياً ويقول: “في تلك اللحظة تملكني اليأس لأول مرة لم يكن سهل أن أسمع ذلك، فخرجت ودموعُ العجز تملأ روحي قبل عينَيَّ، ولكني حينها استعذت بالله من الشيطان وحمدتُ اللهَ وفوضتُ أمري إليه”.
ويضيف حزام: في الموعد تواصلت معهم، وتحديداً في شهر يناير الماضي من هذا العام ليخبرونا أن المنظمة ألغت كُـلّ الرحلات الخَاصَّة بالجسر الجوي لنقل الحالات المرضية من اليمنيين الذين يستدعي علاجهم السفر إلى الخارج وأن منظمة الصحة العالمية أوقفت كُـلّ المساعدات لليمن، منوِّهًا أن هذا واقع مرير، فكل ما مررتُ به على أمل السفر والعلاج كان أحلاماً وردية، لكنها سرعان ما تتبخر، فكانت أشد من معرفة الحقيقة من بداية الأمر.
وينهي حزام كلامه باللهجة العامية قائلاً: “صحيح أنني أعلق نفسي بأي قشة سبرت، وهذه ما أتمنى، وإن ما سبرت فكله بيد الله، لكن أن تعيش كذبة، ومنظمات متلاعبة ومتواطئة خَاصَّة وأن مبلغ العملية يصل إلى 42 مليون ريال، فهذا شيء موجع جِـدًّا أن يغرس فيك أمل عن طريق هذه المنظمة والتي ستعالجك في أحلامك فقط”.
أممٌ متخاذلة
كثيرةٌ هي القصص التي على شاكلة هناء وحزام وشيماء، فهناك ما يربو عن 35 ألف حالة مسجلة لدى اللجنة الطبية العليا الذين يعيشون بين الألم والأمل بعد إعلان منظمة الصحة العالمية توقف الجسر الطبي لنقل الحالات المرضية للعلاج في الخارج لتبقى المعاناة حاضرة في واقع مرير وأسوأ أزمة إنسانية عرفها التاريخ البشري، بحسب تقاريرَ صادرة عن الأمم المتحدة ذاتها، وكل هذا ناتج عن العدوان الأمريكي السعوديّ وما خلفه من مآسٍ طالت الشجر والحجر والإنسان على أرض اليمن.
ويقول رئيس اللجنة الطبية العليا، الدكتور مطهر الدرويش: كان من المقرّر البدء بمشروع الجسر الجوي الطبي الإنساني نهاية عام 2019، والذي تتولى تنفيذه منظمة الصحة العالمية بالتعاون والتنسيق مع وزارة الصحة العامة والسكان ممثلة باللجنة الطبية العليا، وذلك عبر تفويج المرضى ذوي الحالات المستعصية على العلاج في اليمن، عبر مطار صنعاء الدولي؛ كون هؤلاء المرضى لا يستطيعون السفر عبر أي منفذ آخر لبعد هذه المنافذ وكذلك لوعورة الطرق المؤدية إليها.
ويوضح الدرويش في تصريح خاص لصحيفة “المسيرة” أن منظمة الصحة العالمية نفّذت من هذا الاتّفاق رحلتين هزيلتين فقط في شهر فبراير 2020 بنقل 28 مريضاً في المجمل ثم توقفت الرحلات حتى اليوم، لأسباب يدّعون أنها مالية، رغم أن الاتّفاق كان يشمل كُـلّ المسجلين لدى اللجنة الطبية العليا والذين تجاوز عددهم الـ 35000 حالة مرضية ضمن المعايير المتفق عليها مع المنظمة.
ويؤكّـد الدرويش أن التسهيلات المقدَّمة من منظمة الصحة العالمية كانت لا ترقى إلى ما كان يؤمل منها؛ كونها منظمة دولية صحية إنسانية، حَيثُ اكتفت بتسفير عدد لا يمثل 0.001 ممن كانوا مسجلين منذ بداية إغلاق مطار صنعاء الدولي، ناهيك عمن لم يكن مسجل، مُشيراً إلى أن الحالات تتزايد يوماً بعد يوم وقد أصبحت معاناة هؤلاء المرضى لا تطاق ومنهم من توفي ومنهم من يصارع الموت تحت عذاب المضاعفات والإعاقات.
ويوضح الدرويش أن الإغلاق -حسب زعمهم- كان لأسباب مادية، أي بسَببِ عدم توفر الدعم الكافي للمشروع، لكن الواقع هو أن ثمة ضغوطاً سياسية من قبل دول العدوان والحصار كان لها الأثر الأكبر على سير الجسر الجوي، من باب استخدام ورقة الوضع الإنساني المتردي لتحقيق نصر ما ضد الشعب اليمني الذي لم يستطيعوا تحقيقه ميدانيًّا.
ويشير الدرويش إلى إغلاق الجسر له تأثير على المرضى من زيادة حجم المعاناة، وزيادة في الوفيات اليومية خُصُوصاً مع تزايد الحالات كماً ونوعاً، يوماً بعد يوم، ومع انعدام الحد الأدنى من متطلبات القطاع الصحي، فقد تبين أن حوالي 25 % من المسجلين تعرضوا للوفاة والحبل على الجرّار، والبقية تحت عذاب المرض وفي الطابور لمواجهة المصير نفسه.