المناورة الأمريكية الجديدة: “تحديث” مبرّرات العدوان والحصار
في الوقت الذي تواصلُ فيه الإدارةُ الأمريكية الجديدة تكريسَ دعاية توجّـهها نحو “وقف الحرب” على اليمن، تتصاعد المؤشرات التي تشهدُ على أن هذه الإدارةَ تتجهُ في الحقيقة نحوَ مسار بديل للحرب لا أكثر، فـ”بايدن” الذي يحاول بوضوح استثمار قرار إدراج أنصار الله في “قوائم الإرهاب” ضمن مصفوفة تحَرّكات شكلية تتعلق بالمِلف اليمني، ما زال حريصاً على الابتعادِ عن الواقعِ والهروبِ من مسؤولية الولايات المتحدة ودورها المباشر والقيادي في العدوان، بل إنه يتمسكُ بصراحةٍ بخيار الحرب، وإنما تحتَ شعاراتٍ أُخرى ليست جديدة حتى، وهو الأمرُ الذي يبدو أن صنعاءَ تقرأُه بوضوحٍ، ومواقفها المعلَنة اليوم إزاء السلوك الأمريكي تؤكّـد أنه لا تغيير في المعادلة، والبناء على ذلك أولى من البناء على “الدعايات” الأمريكية.
إدارةُ بايدن متمسكةٌ بخيار استمرار العدوان:
سياسيًّا، كُـلُّ ما فعلته إدارة بايدن بدعاياتها حول “وقف الحرب” على اليمن في الحقيقة، جعل موقفَها أكثر حرجاً؛ لأَنَّ هذه الدعايات باتت تسهمُ في إظهار حجم التناقض بينها وبين واقع السياسَة الأمريكية العدوانية المستمرة تجاه اليمن، وهذا ما يبدو من خلال التصريحات الأخيرة لوزارة الخارجية الأمريكية، مساءَ أمس الأول، والتي جاء فيها أن الولاياتِ المتحدةَ “تشعر بانزعَـاج شديد” من الهجمات العسكرية التي تنفذها صنعاء على السعودية وفي الداخل اليمني، وذلك بعد يوم من تأكيد المتحدث باسم الوزارة على “التزام الولايات المتحدة بمساعدة السعودية في الدفاع عن أراضيها”.
وفي هذا السياق أَيْـضاً، صرح قائد “القيادة الوسطى الأمريكية”، أمس الاثنين، بأن “الولايات المتحدة ستواصل دعم السعودية في حماية أمنها، لكنها لن تساعدَها في الحرب على اليمن”، وهو تصريح مضحك في الحقيقة، بالنظر إلى أن “حماية أمن السعودية” هي أبرز الدعايات التي صنعتها واشنطن والرياض لتبرير العدوانِ على اليمن.
هذه المواقفُ، إلى جانب واقع استمرار العدوان وتضاعف إجراءات الحصار المفروض على اليمن، تؤكّـدُ على أن الإدارةَ الأمريكية الجديدة، ليست في وارد وقف الحرب أبداً، بل يبدو أنها تحاول التمترس خلف سلوكها “الدعائي” الجديد، إذ حرصت الخارجية الأمريكية على تصدير تصريحاتها الأخيرة بالتأكيد على أن الرئيس الأمريكي “يتخذ خطوات لإنهاء الحرب” وأن “السعودية أيّدت تسوية تفاوضية”.
هكذا تحاول إدارة بايدن أن تصنعَ من “خطواته” الباهتة والبعيدة عن السلام الحقيقي “مرجعية” أَو “عصا” ترفعُها في وجه صنعاءَ للمطالبة بوقف “الهجمات”، إلى جانب تحسين صورة السعودية، وبعبارة أُخرى: كأن الولايات المتحدة بعد أن أدركت فشلَ جميع الخيارات العسكرية في دعم العدوان وإيقاف مسار الردع اليمني، قرّرت اللجوءَ إلى المناورات السياسية الدعائية، وهو أمرٌ غير جديد، وبالتالي فَـإنَّ “الهالةَ” التي تحيط بـ”خطوات بايدن” المزعومة لـ”وقف الحرب” لا قيمةَ لها ولا تستحق البناء عليها أبداً.
موقفٌ بريطاني جديد يؤكّـدُ زيفَ دعايات “وقف الحرب”:
خداعُ الإدارة الأمريكية يؤكّـده موقف بريطاني جديد جاء منسجماً بشكل ملفتٍ مع تصريحات الخارجية الأمريكية، إذ طالب سفيرُ المملكة المتحدة في اليمن، مايكل آرون، أمس الاثنين، صنعاء بـ”وقف الهجمات على مأرب والجوف وإثبات جديتها في الرغبة في السلام”.
هذا الانسجامُ الأمريكي البريطاني في محاولة الضغط على صنعاء للتوقف عن التصدي للعدوان وأتباعه، يكشفُ زيفَ التوجّـه الأمريكي المزعوم نحو “وقف الحرب” على اليمن؛ لأَنَّه يؤكّـدُ على أن الإدارةَ الدوليةَ لتحالف العدوان متمسكةٌ بشكل واضحٍ بخيار الاستمرار في عدوانها، وأن “خطواتِ بايدن” الدعائية هدفُها الحقيقي خلقُ مسار لـ”تخفيف” الخسائر التي يتكبدها تحالفُ العدوان وأتباعه في اليمن، من خلال تضخيمِ السلوكِ الأمريكي “الجديد” وتحويله إلى “ورقة ضغط” ضد صنعاء لإجبارها على وقف عملياتها العسكرية، أي أن الولاياتِ المتحدةَ تحاولُ دفعَ صنعاء إلى الركض وراء سراب تغير الموقف الأمريكي بشأن اليمن والانشغال بذلك عن المواجهة، وهو ما يكشفُ أن الخسائرَ التي يتكبدها تحالفُ العدوان وصلت إلى مستوىً حساس، بحيث أن تعاظُمَها قد يغير الموازين بشكل كبير، وهذا ليس مُجَـرّد تحليل، بل واقع يزدادُ وضوحاً مع تزايد انهيارات المرتزِقة في مأرب بالذات.
صنعاءُ تذكّر بشروط “السلام” الحقيقي:
قراءةُ صنعاء لمزاعم “بايدن” بخصوص “وقف الحرب” على اليمن وكل ما يتعلقُ بهذا الأمر، كانت واضحةً وثابتةً منذ صعوده إلى الحكم، وهي تتلخص في أن الإدارة الأمريكية الجديدة غير جادة، وبالنظر إلى دورها القيادي والمباشر في العدوان على اليمن وحصاره، ومنهجها السياسي والعسكري المعروف، فَـإنَّها تحتاج إلى أكثرَ بكثيرٍ من الدعايات أَو الخطوات البطيئة الباهتة، حتى تستطيعَ أن تثبت مصداقيتها في التوجّـه نحو “السلام”، و”خطوات” بايدن المزعومة لم ترُق إلى هذا المستوى، بل لم ترُقْ إلى أي مستوى أصلاً باتّجاه وقف الحرب، إذ لا زال الرجلُ يمارِسُ الابتزازَ بوضوح بخصوص قرار “التصنيف” ولا زالت إدارتُه تتمسك بوقاحة بذريعة “حماية أمن السعودية” وتهاجم صنعاء، وبالمجمل فَـإنَّها سلوك إدارة بايدن، ما زال في نظر صنعاء سلوك حرب وليس سلوك سلام.
هذا ما أكّـده تصريح جديد لرئيس الوفد الوطني وناطق أنصار الله، محمد عبد السلام، أمس الاثنين، جاء في ظاهره رداً على كلامِ السفيرِ البريطاني، لكنه كان موجهاً إلى إدارة بايدن أَيْـضاً بشكل واضح، إذ قال عبد السلام إن: “على بريطانيا وغير بريطانيا أن يتذكروا أنهم مستمرون في العدوان وفرض الحصار على الشعب اليمني، ومن يتوجب عليه أولاً وفورًا أن يتوقف هو المعتدي المجرم، وأما المدافع عن نفسه فهو في مساره الصحيح والمحق، والملامةُ عليه أخلاقياً ووطنياً وإنسانياً إن توقف قبل أن يتوقفَ العدوان وينتهي الحصار”.
وفي السياق نفسه، قال عضو المجلس السياسي الأعلى، محمد علي الحوثي، أمس: إن “دعوات دول العدوان الأمريكي البريطاني السعودي الإماراتي للسلام مع استمرارهم في العدوان والحصار هدفه الإثارة الإعلامية وتمثيل دور الضحية بدلاً عن القاتل، فالسلامُ يحتاجُ إعلانَ قرار من رباعية العدوان لإيقافه وفك الحصار كما كان الحال عند إعلانه من أمريكا”.
هذه الردودُ تؤكّـدُ على أن السلوك الأمريكي الجديد لا قيمة له في ميزان السلام الحقيقي الذي تعيد صنعاء التذكير بشروطه ومتطلباته الرئيسية، وأبزرها الإعلان الرسمي لوقف العدوان ورفع الحصار، والمباشرة بذلك عمليًّا، وعليه فَـإنَّ معادلة الرد والردع اليمني، ما زالت مبنيةً على معطياتِها المعروفة المتمثلة بالتوجُّـه نحوَ تحرير كافة الأراضي اليمنية وتوجيه أقسى الضربات ضد العدوّ، وما زالت هذه المعادلةُ تتجهُ في المسارِ التصاعدي نفسه، وبوضعِ ذلك في مقابل “الضجيج” الأمريكي البريطاني الحاصل، فَـإنَّ الحديثَ عن أيِّ “تقدم” في مسار وقف الحرب يجبُ أن يستندَ إلى تأثيرِ تصاعد الردع، وليس إلى “تغير الموقف الأمريكي”.
صحيفة المسيرة