المعركة بعيون العدوّ الإسرائيلي: “الانتصارُ الوهمي” هو كُـلُّ ما يمكن تحقيقه
تمتلئُ وسائلُ الإعلام الصهيونية هذه الأيّامَ بالتحليلات والتعليقاتِ حول المواجهة الجارية بين جيش الاحتلال من جهة، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والتحَرّكات الشعبيّة في الداخل الفلسطيني المحتلّ من جهة أُخرى، وتكسر الكثير من هذه التحليلات والتعليقات حاجز التحفظ والتكتم الرسمي الذي يُخفِي العدوُّ خلفَه تداعياتِ المعركة السلبية عليه، إذ يكشف الخبراء والمحللون الصهاينة أن الكثيرَ من الحسابات الاستراتيجية للعدو داخلياً وخارجياً باتت بحاجة للتغيير تماماً بعد المستجدات الأخيرة وما تضمنته من مفاجآت فلسطينية، كما تشير التحليلات إلى صعوبة إمْكَانية تغيير تلك الحسابات القديمة بأُخرى فعالة، وصعوبة الخروج من المواجهة الجارية بأيِّ مكسب حقيقي.
فيما يخُصُّ استراتيجيةَ المواجهة حَـاليًّا، تكشفُ بعضُ وسائل إعلام العدوّ ومحلليه أنه غير قادر مواجهة تصعيد كبير للفلسطينيين (المقاومة والمواطنين في الداخل المحتلّ) في آن واحد، بل إنه غير قادر على حسم المواجهة العسكرية لصالحه في ظل هذا الوضع، حَيثُ يرى “يوآف ليمور” في صحيفة “هآرتس” أن جيش الاحتلال بحاجة إلى “الفصل بين الجبهات، أي القتال في غزة والإبقاء على القدس هادئة غير الإمْكَان” وترى الصحيفة نفسها أنه يجبُ “الاستعداد لإمْكَانية إنهاء الجولة العسكرية في غزة وعدم رفض الوساطات الدولية لزمن أطول؛ بسَببِ المواجهات في مدن الداخل”.
وتقولُ “هآرتس” أَيْـضاً: إن العدوَّ يريد “الموافقة على هُدنة فورية والتفرُّغ للتظاهرات داخل المدن”، فيما يرى بن كسبيت في “معاريف” أن الاحتلالَ بحاجة إلى “محاولة استرداد الردع الضائع من دون التدهور إلى حرب”، مُشيراً إلى أن الحرب التي قد تسجل انتصاراً لحركة “حماس” هي نتيجةٌ مباشرةٌ لسياسة نتنياهو.
لكن هذه الأمورَ تبدو بعيدةً عن متناول العدوّ الذي يجد صعوبةً كبيرةً في محاولة الحصول على انتصارٍ عسكري وتوجيه “َضربة قاتلة” للمقاومة الفلسطينية والتخلص من تهديد الانتفاضة الشعبيّة في الداخل المحتلّ وإعادة ميزان “الردع” إلى ما كان عليه من قبل؛ ولذا فالطريق الذي يبدو أنه يختاره اليوم هو مواصلة التصعيد العسكري لتجنب إظهار الضعف والهزيمة، ولو بدون أية خطة محكمة.
في هذا السياق، تنقلُ القناة 12 العبرية عن “مسؤول إسرائيلي كبير” أن جيش الاحتلال “يسعى لتحصيلِ ثمنٍ باهظٍ يدفع حماس إلى وقف القتال والاستعداد لاستمرار الجولة طالما استمر إطلاق النار من غزة” وهو نفس ما صرح به نتنياهو قبل أَيَّـام، فيما يرى يوسي يهوشواع مراسل “يديعوت أحرنوت” أن جيش الاحتلال لا يريد “الاكتفاء بإعادة الردع وإنما تعزيزه أي استمرار العمليات فترة حتى الوصول إلى الإنجاز المطلوب” مستدركا بأن هناك مصاعب أمام هذه “الغاية الطموحة”.
وبالفعل، تحول دون تلك “الغاية الطموحة” للعدو مخاوف وتحديات تشير إلى أن حساباته ناقصة ومرتبكة، وأن هناك فجواتٍ كبيرةً في استعداداته لتصاعد وتيرة المواجهة بما يتضمنه ذلك من مفاجآت قد تحصل.
وبهذا الخصوص يشير عاموس هرئيل في “هآرتس” إلى أنه يجب “منع التدهور نحو عملية عسكرية واسعة في القطاع تكون نتائجها ضعيفة جدا” فيما يحذر “ليمور” من “التراجع السريع؛ لأَنَّه سيمس بالردع بشكل مباشر”، بينما يحذر تقرير لـ”هآرتس” من “أن تؤدي زيادة معدل الهجمات إلى التصعيد وتشكيل كرة ثلجية يصعُبُ إيقافُها”.
وأما محلل الشؤون الدولية في القناة 13 العبرية، نداف إيال، فيحذر من “تفكك المجتمع الإسرائيلي بشكل كامل من الداخل ونشوب الفوضى وفقدان السيطرة من قبل الحكومة والجيش على الأوضاع ونشوء خطر حقيقي على (الدولة) من الداخل”.
والحقيقةُ أن مسألةَ الانتفاضة الفلسطينية الشعبيّة في الداخل المحتلّ تمثل كابوساً مؤرقاً للعدو يؤكّـد عجزَه عن الانتصار، وعدم امتلاكه خيارات فاعلة تتناسب مع “القوة” التي يحاول أن يبدوَ عليها، وقد عبر عن ذلك بشكل رسمي على لسان نتنياهو الذي قال إنه “ليس لإسرائيل تهديدٌ أكبر من الاضطرابات الجارية في مدينة اللد”، كما قال يائير لبيد المكلف بتشكيل حكومة العدوّ، إن “الحرب في الشوارع الإسرائيلية تهديد وجودي لإسرائيل”، وقالت صحيفة “هآرتس”: إن “المواجهات بين العرب واليهود في الداخل أخطر من القتال في غزة”، وأشَارَت إلى أن جيش الاحتلال يواجه تحدياً في “قدرته على مواصلة العملية العسكرية في ظل الفوضى التي تعيشها المدن”.
ومن ضمن التحديات التي يواجهها العدوّ اليوم بحسب “هرئيل”: “افتقار الحكومة الإسرائيلية للتوافق الداخلي وثقة الجمهور” فيما يرى “ليمور” أن الاحتلال أَيْـضاً يواجه صعوبة “استعادة المبادرة الإعلامية ودحض الرواية الفلسطينية حول الخطر على الأقصى”.
ويرى “بن كسبيت” أن من أبرز التحديات والمخاوف التي يقف أمامها العدوّ اليوم هو “الاضطرار إلى التعامل مع حماس بعد اليوم في أية مفاوضات مقبلة كشريك استراتيجي”، وهو طرح ينطوي على تأكيد على عجز الاحتلال عن التغلب على المقاومة في المواجهة الحالية، وأن المقاومة ستفرض وجودها بشكل أكثر إزعاجاً للعدو على أكثر من مستوى.
وفي هذا السياق أَيْـضاً، يشير المراسل العسكري “روعي شارون” إلى تحدٍّ آخر يواجهه العدوّ من خلال “دخول طائرات المقاومة المسيرة، طراز شهاب، في معادلة الصراع”.
أما “رون بن يشاي” فيعبّر في “يديعوت أحرنوت” عن فجوة عميقة تشكل تحدياً إضافياً أمام العدوّ، وهي “وجودُ تقديرات استخباراتية معطوبة حول قدرات حماس والجهاد الإسلامي الصاروخية منذ حرب الجرف الصامد”، وهي نقطةٌ حسّاسة سعى العدوّ إلى محاولة التغطية عليها منذ بدء المواجهة بتكثيف الحديث عن استهداف “نشطاء” وقادة المقاومة في غزة، للتهرب من فشله الاستخباراتي الذريع الذي انكشف مع ظهور القدرات العسكرية الجديدة للمقاومة.
ويؤكّـد “بن يشاي” أَيْـضاً على الخطر المتمثل بـ”فقدان سيطرة إسرائيل على المواطنين العرب والدخول في حرب أهلية”، كما يقول: إن “إسرائيل تلقت ضربةً من ناحية الوعي”، وهو أَيْـضاً ما أشار إليه “عاموس يادلين” رئيس الاستخبارات العسكرية الصهيونية الأسبق ورئيس معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة “تل أبيب” الذي تحدث عن “انتهاء الوهم وعودة القضية الفلسطينية لتنفجر في وجوه الإسرائيليين بعدما ظنوا أنها تبخرت”.
وترى إذاعةُ جيش الاحتلال أن “إسرائيل دخلت في مصيدتين: صواريخ غزة ودخول فلسطينيي الداخل على الخط بقوة أكبر مما كان في انتفاضة 2000” مشيرة إلى أن “الثانية أخطر ويصعب التعامل معها”، فيما يحذر معلق القناة 13 العبرية إلداد يانيف من تزايد “الانتقادات الذاتية والتضارب الداخلي الإسرائيلي”، وهو أَيْـضاً ما ذهب إليه محلل الشؤون الدولية في القناة نداف إيال الذي قال إن “الخطر الحقيقي على إسرائيل من الداخل”.
ويتحدث جدعون ليفي في “هآرتس” عن تداعيات محتملة أُخرى على المستوى الخارجي، منها “انقلاب الطاولة قريبا في مصر والأردن مما يعني فقدان الحماية من شعوب المنطقة”، وهو أَيْـضاً ما عبرت عنه الصحيفة نفسها التي أشَارَت إلى أن “الأحداث الأخيرة أظهرت أن اتّفاقية إبراهام بنت منزلا من ورق”.
وبدا من مجموعِ التعليقات والتحليلات التي تناولها الإعلام الصهيوني أن هناك مجموعةً من الأمور التي يحاول العدوّ أن يعتبرها خطوطاً حمراءَ غير مسموح بتجاوزها (مع أنه وِفْـقًا لما سبق لا يستطيع العدوّ أن يضمن بقاء هذه الأمور كخطوط حمراء)، ومن ضمنها بحسب “ليمور”: “امتلاكُ حماس مكانة في القدس” وَ”ارتهان حياة سكان غلاف غزة (المستوطنين) لصواريخ المقاومة”، إضافة إلى “وصول حماس والجهاد إلى لحظة التهدئة بقوة ودون ردع إسرائيلي، والتحكم بإملاءات الجداول الزمنية للصراع”.
ويضيف أليكس فيشمان، المحلل العسكري الصهيوني، في صحيفة “يديعوت احرنوت” إلى هذه المخاوف: “تحقّق حلم السنوار بتجنيد عمليات الفصائل في المجتمع الفلسطيني كله، وبكافة أذرعها في المنطقة”، فيما يرى “بن يشاي” أن “تآكل قوة الردع الإسرائيلي مشكلة استراتيجية قد تستفيد منها إيران وحزب الله”، مُشيراً إلى أن “الاضطرارَ إلى إنهاء العملية العسكرية بضغط دولي قبل تحقّق الأهداف” يدخل ضمنَ المخاوف والمحاذير الصهيونية أَيْـضاً.
وفيما تعكس كُـلّ القراءات والتحليلات السابقة عجز الكيان الصهيوني عن الانتصار في المواجهة الحالية أَو إيقاف تداعياتها المستقبلية على كُـلّ المستويات، تخلص صحيفة “يديعوت أحرونوت” إلى أن آخر ما تبقى للعدو هو “صورةُ انتصار واهمٍ يسوِّقُها نتنياهو للداخل الإسرائيلي؛ للتغطية على نتائج معركة القدس”!
صحيفة المسيرة